دروس في النقد والبلاغة
الدرس الثاني: تناسق الكلمة
الكلمة جزء من سياق هو العبارة المفردة، والعبارة المفردة جزء من سياقٍ أكبر هو القطعة أو الفقرة، لذلكَ كانت جودة استعمال الكلمات في الأدبِ رهينة بتبين العلاقة التي تربطها بمجاوراتها ومَا بينها جميعًا من تبادل في الأثرِ.
فالألفاظ إِمَّا أن تكون متمكنة مقبولة، وإِمَّا أن تكونَ قلقة نابية على نحو ما قالَ البلاغيون، ورب كلمة حسنت في موضعٍ ثُمَّ كانت نابية مستنكرة في غيرهِ، وقديمًا كره الأدباءُ كلمة “أيْضًا” وعدوها مِن ألفاظِ العلماء فلم تجر بها أقلامهم في شعرٍ أو نثرٍ حتَّى ظهرَ بينهم مَن قالَ:
رُبَّ وَرْقَاء هَتُوفٍ في الضُّحى ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ ذَكرتْ إلْفًا ودهرًا سالفًا فبكت حُزنًا فَهاجت حَزَني فبكائي رُبما أرَّقَها وبُكاها ربما أرَّقَني ولقد تشكو فما أفهمها ولقد أشكو فما تفهمني غير أنِّي بالْجَوَى أعرِفها وهي “أيْضًا” بالْجَوَى تعرفني |
ومعنى ذلكَ أَنَّه ليسَ من الصحيح أن يُدعى أَنَّ كلمةً ما شاعريَّةٌ أو غير شاعرية بطبعها، فالاستعمال هو الذي يهب للكلمات قوة أو ضعفًا ومهانة.
وتناسق الكلمات في الجملةِ كتعاون أفراد أسرةٍ واحدة، كل منهم يُشارك في إسعادها، ويُسهم في حياتها الموفقة.
لذلكَ كَانَ الأديبُ مُضطرًا إلى الدقةِ في الاختيارِ، فالألفاظ تتشابه، وربما لا تتماثل ثماثلًا تامًّا.
وللدقةِ آثار علمية ندركها جميعًا في كتابة العقود والمواثيق والمعاهدات السياسية والشؤون القانونية .. ونحوها.
وقد يقع اللفظ موقعًا حسنًا فينشر رواءه على مَا حَوْلَه.
ونرى مصداق ذلكَ واضحًا على الأخص في فن الإيجازِ، فالإيجاز يعتمدُ على ما لبعض الكلمات من قوة الإثارة والإيحاء كالمصباح الوهاج يملأُ المكانَ نورًا قويًّا صافيًا.
ومعنى تناسق الكلمات إجمالًا تعاونها في إظهار معنى واحد يُسيطر على المقام، فللمقام مطلبه وإيحاءاته، فإذا كُنا نعبِّر عن الحماسة مثلًا استعملنا كلمات قوية الجرس ذات دلالةٍ إيجابيَّة على الفعلِ النافذ المؤثِّر، وأخذنا نستعينُ على ذلكَ بجانبي الكلمةِ دلالتها وصوتها، واستمع إلى قول الشاعر:
إِذَا مَا غضبنَا غضبةً مُضَرِيَّةً ♦♦♦ هَتَكنا حجابَ الشمسِ أو قطرت دما
فالأصوات من الألفة والتناسق بحيثُ توحي في أنفسها بمقام العِزَّة الغالبة والقوة المندفعة التي لا يعترضها عائق.
وإِن كانَ المقامُ نسبيًّا علمنا أنه يحكي مشاعر رقيقة عذبة ونوازع نفسيَّة لطيفة دقيقة، فالكلمات تتعاون في إبراز هذا الجو العام، كقول الشاعر:
إِنَّ التي زعمت فؤادَكَ مَلَّها ♦♦♦ خُلِقَتْ هَواكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوًى لها
فينبغي أَن يستقرَّ في الذهنِ أَنَّ الكلمات تسعى جميعًا لبعث الروح العامة التي تسيطر على الموضوع المحتفل به.
وإذا راجعت بعضَ مَا نحكم به على القطعةِ الأدبيَّة حينَ نتهمها بالبرودِ، أدْركتَ أنَّ الكلمات لم تؤلف تأليفًا يُحيي قواها الكامنة.
ففي الكلمات قوة، وعلى الأديب أن يُنسقها تنسيقًا يخرج مَا فيها من ذخيرةٍ حَتَّى يوفِّي الجانب العاطفي كل حقوقهِ.
ولكي يبلغ الأديب هذه الغاية يُلائم بينَ الألفاظ والمعاني التي ذكرْنَا، وقديمًا ذكرَ البلاغيون الجزالة والرقة، وهما وصفانِ للناحِيَّة الصوتيَّة والمعنويَّة من الكلماتِ.
فالجزالة حيث الوعيد ومهولات الزجر والتهديد والحماسة والحرب والفخر والمصارعة والفتوَّة في معارضها المختلفة، والرقة حيث التلطف والدعاية والغزل والإسماح والمودة وحسن الوعد.
والقرآن العظيم وارد على النهجين معًا، فمن الجزالة قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5].
وَمِنَ الألفاظِ الرقيقة قوله تعالى: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 1 – 5].
والناحية السلبية من تناسق الكلمات تتمثل في ظواهر الاضطراب الصوتي، وقد عيب على “البحتري” قوله:
حَلَفْتَ لها باللهِ يومَ التفرق ♦♦♦ وبالوجدِ من قلبي بها المتعلِّقِ
والأصل (من قلبي المتعلق بها)، ففصل بينَ الموصوف والصفة بلفظ (بها)، وعند النقاد أَنَّ هذا الفصل قبيحٌ.
كذلكَ أخذ على “كُشَاجِم” تتابع الإضافات في قولهِ:
والزهر والقطر في رُباها مَا بينَ نظمٍ وبين نثرِ حدائقٌ كف كلِّ ريح حَلَّ بها خيط كُلِّ قطر |
وإِنما يتم التناسق بين الكلمات بمراعاةِ التقديم والحذف خاصَّة.
فالتقديم من أهم أبواب البلاغة وأقواها أثرًا في استقامة الرصف وحُسنه، وحذف الفضول يكسب الكلمات المنتقاة مَا يرجي لها من تأثيرٍ.
والخلاصةُ: أَنَّ الأديب يُلاحِظ ما بين كلماتهِ من روابط وطيدة قوامها الـتآزر والتعاون من أجل إحراز البلاغة المقصودة، وقد استحسن النقاد نظم هذه الأبيات “للبحتري”:
بَلَونا ضَرائِبَ مَن قَد نَرى فَما إِن رَأَينا لِفَتحٍ قَريبَا هُوَ المَرءُ أَبدَت لَهُ الحادِثا تُ عَزمًا وَشيكًا وَرَأيًا صَليبَا تَنَقَّلُ في خُلُقي سُؤدُدٍ سَماحًا مُرَجّى وَبَأسًا مَهيبَا فكالسيف إِنْ جئته صارخًا وكالبحر إن جئته مستتيبَا |
فالكلمات تتدفق تدفقًا سهلًا طيعًا يُوحي بالصدقِ في الثناءِ، ويوازن الشاعر في مثل قوله: (عزمًا وشيكًا ورأيًا صليبًا)، وهذا كله من التناسق الصوتي.
وفي البيت الثالث يُجمل ثم يفصل، وهو تناسق معنوي.
1 تعليق