حدّ أصول النحو
معنى أصول النحو
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فنتعرف على حد أصول النحو، وحد النحو، وحد اللغة.
أصول النحو: هي أدلة النحو التي تفرَّعت منها فروعه وفصوله، كما أن أصول الفقه أدلَّة الفقه التي تنوَّعت عنها جملته وتفصيله، ذكر هذا أبو البركات الأنباري في بداية كتابه (لمع الأدلة)، وفصل السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة في كتابه المسمى (الاقتراح) فصَّل القول في هذا التعريف فقال: “أصول النحو علم يُبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل”، وهكذا أوضح السيوطي أن موضوع علم أصول النحو ثلاثة أمور:
أولها: البحث عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته.
وثانيها: البحث عن كيفية الاستدلال بهذه الأدلة.
وثالثها: البحث عن حال المستدل بها.
وألقى مزيدًا من الأضواء الكاشفة على هذا التعريف، مبينًا أن مراده بقوله: “علم” أنه صناعة يعني: أنه يحتاج في تحصيله إلى دُربة ومران؛ لتتكوَّن لدى من يتعلمه ملكة استحضار مسائله وقواعده وقضاياه، ولا يلزم فقده من فقد العالم به؛ لأنه صناعة مدوَّنة، وقواعد مقررة، وأدلَّة محررة؛ سواء وُجد العالم بها أو لم يوجد. وأفاد أن تقييده بقوله: “يبحث فيه عن أدلة النحو” يخرج كل صناعةسوى هذا العلم وسوى النحو، أي: حتى يكون هذا العلم مقصورًا على موضوعه.
وفي ضوء ما ذكره علماء أصول النحو، وعلى رأسهم ابن جني المتوفى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، وأبو البركات الأنباري المتوفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة وجلال الدين السيوطي نقول: إن أدلة النحو التي اعتمد عليها علماء الصناعة النحوية في تقعيد القواعد كثيرة جدًّا تخرج عن حدِّ الحصر، لكن الغالب منها أربعة أنواع، وهي السماع، والقياس، والإجماع، واستصحاب الحال، وفي حديث السيوطي عن حدِّ أصول النحو في بداية كتابه المسمى بـ (الاقتراح) بيَّن أن ابن جني في كتابه الخصائص تحدَّث عن ثلاثة أنواع من هذه الأربعة، ولم يذكر الاستصحاب، وأن الأنباري تحدَّث أيضًا عن ثلاثة منها فقط، ولكنه لم يذكر الإجماع، ثم علَّق السيوطي على ذلك بقوله: “فزاد -يعني: الأنباري- الاستصحاب، ولم يذكر الإجماع؛ فكأنه لم يرَ الاحتجاج به في العربية كما هو رأي قوم” انتهى، والحق أن ذلك سهو من السيوطي -رحمه الله- وقد نبَّه عليه الأستاذ الدكتور أحمد محمد قاسم محقق (الاقتراح) طيب الله ثراه، كما نبَّه عليه غيره ممن عُنوا بشرح هذا المؤلف القيم، فأوضحوا أن الأنباري ذكر الإجماع في مؤلفه المسمى بـ (لمع الأدلة)؛ حيث ذكر إن الإجماع حجة قاطعة.
تحليل الحدِّ الذي أورده السيوطي لعلم أصول النحو: أراد السيوطي أن يوضّح للدارسين أن هناك فرقًا دقيقًا بين الاستدلال عند علماء أصول النحو، والاستدلال عند علماء النحو، فلكل وظيفة وتخصص؛ فالأولون وهم علماء أصول النحو يبحثون عن الأدلة الإجمالية، أي: ككون القرآن الكريم حجة، أما علماء النحو فهم يبحثون عن الأدلة التفصيلية، وذكر لذلك أربعة أمثلة، وهي:
المثال الأول: مسألة جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار.
والمثال الثاني: مسألة جواز الإضمار قبل الذكر في باب الفاعل والمفعول.
والمثال الثالث: مسألة جواز مجيء الحال من المبتدأ.
والمثال الرابع: مسألة جواز مجيء التمييز مؤكدًا.
وقال: إن البحث عن دليل خاصّ بكل مسألة من هذه المسائل ونحوها؛ إنما هو وظيفة علم النحو لا علم أصول النحو، يريد أن هذه المسائل الخلافية يتناولها علم النحو بالتفصيل والتحليل؛ مستعينًا على حسم الخلاف، والوصول إلى رأي معين بالترجيح، أو التضعيف، أو القبول، أو الرّدّ بما يحضر عالم النحو من الأدلة النحوية الخاصة من قرآن كريم، أو حديث نبوي شريف، أو كلام عربي، أو قياس نحوي، أو غير ذلك من الأدلة التي فاضت بها المؤلفات النحوية، والتي أفادها هذا العالم على سبيل الإجمال من تحصيله لعلم أصول النحو، وعرف عن طريق هذا العلم مدى قوة كل دليل أو ضعفه.
وقول السيوطي: “في حد أصول النحو من حيث هي أدلته بيان لجهة البحث عن هذه الأدلة بما له حجية في علم النحو -أي: في البحث عن القرآن الكريم بأنه حجة في النحو كما سبق- لأنه أفصح الكلام؛ سواء أكان متواترًا أم آحادًا، وعن السنة النبوية الشريفة بشرطها الآتي في مبحث الكلام عنها بالتفصيل، وعن الكلام العربي النثري أو الشعري الصادر عمن يُوثق بعربيته، ويُحتج بكلامه، وعن إجماع أهل البلدين البصرة والكوفة، وعن القياس، وما يجوز من العلل فيه، وما لا يجوز”، وقوله في الحد: “وكيفية الاستدلال بها” معطوف على قوله: “أدلة النحو الإجمالية”. والمعطوف هنا هو الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتناولها موضوع علم أصول النحو، فكما يُبحث فيه عن الأدلة السابق ذكرهايُبحث فيه أيضًا عن كيفية الاستدلال بهذه الأدلة أي: عند تعارضها واختلاف مقتضاها، ونحو ذلك كتقديم السماع على القياس؛ إذ لا بد من قبول المسموع، ثم لا يُقاس عليه غيره كـ {اسْتَحْوَذَ} في قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19) فالقياس في مثله أن تُنقل حركة الواو إلى الحرف الساكن الصحيح قبلها وهو الحاء هنا، ثم تُقلب الواو ألفا لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها بعد نقل حركتها إليه، ولكن قُدِّم المسموع على هذا القياس في خصوص ما سُمع، ثم لا يُقاس عليه غيره؛ فحكم ما سُمع عن العرب مخالفًا لأقيسة العلماء تقديم المسموع على المقيس، اللهم إلا لمانع من ذلك التقديم، كإجماعهم على إهدار ذلك المسموع لضعفه، كقول العرب: “خرق الثوب المسمار” برفع المفعول ونصب الفاعل.
ومن أمثلة كيفية الاستدلال التي أوردها السيوطي: تقديم ما كثر استعماله على ما قوي قياسه، كتقديم اللغة الحجازية على اللغة التميمية، إلا لمانع من فقدِ شرط من شروط الإعمال، أو أكثر؛ لأن الحجازية أكثر استعمالًا، ولذا نزل بها القرآن الكريم، وإن كانت التميمية أقوى قياسًا، وكتقديم أقوى العلتين على أضعفهما، فإذا تعارض قياسان مثلًا أُخذ بأرجحهما، وهو ما وافق دليلًا آخر من سماع أو قياس، كقول الكوفيين إن “إنَّ” تنصب المبتدأ فقط؛ لشبهها بالفعل، أما الخبر فمرفوع بما كان مرفوعًا به قبل دخولها؛ لضعف الحرف عن القيام بعملين، وقول البصريين: إنها تنصب الاسم وترفع الخبر؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الاسم النصب إلا وهو يعمل في الخبر الرفع، فما ذهبتم إليه أيُّها الكوفيون يؤدّي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة.
وكتقديم أخف الأقبحين على أشدهما قبحًا، وذلك إذا قلت مثلًا: فيها قائمًا رجل. لما كنت بين أن ترفع قائمًا، فتقدم الصفة على الموصوف، وهذا لا يكونبحال، وبين أن تنصبه حالًا من النكرة التي لا مسوّغ لها وهو خلاف القياس، ولكنه سُمع في لغة ضعيفة حكاها سيبويه في (الكتاب)، فالحمل على هذه اللغة الضعيفة أولى إلى غير ذلك.
وقد اشتملت كتاب السيوطي (الاقتراح) بعد المقدمات على سبعة كتب، ويعني بها السيوطي: الأبواب أو الفصول، وعقد مبحثًا خاصًّا في التعارض والترجيح تضمَّن ست عشرة مسألة، تناول فيها كيفية الاستدلال بأدلة النحو عند تعارضها، وذلك في الكتاب السادس من هذه الكتب السبعة التي ضمها كتابه، ولذلك قال: “وهذا المعقود له الكتاب السادس”، وقوله في الحد: “وحال المستدل معطوف على ما قبله “، وهذا هو الأمر الثالث من الأمور التي يتناولها موضوع علم أصول النحو.
فهذا العلم يُبحث فيه كذلك عن حال المستدل -أي: المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة، أي: يبحث فيه عن صفاته وشروطه، وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل قال: “وهذا هو الموضوع له الكتاب السابع” والكتاب السابع آخر مباحث كتاب (الاقتراح)، وقد ضمَّ أربع مسائل.
أما الأدلة غير الغالبة كالاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل، فكان الكثير منها موضوع الكتاب الخامس، ولذلك قال بعد ذكره: أنه عقد أربعة الأبواب الأولى للحديث عن الأدلة الغالبة الأربعة، قال: “ودونها الاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل المعقود لها الكتاب الخامس “، فائدة علم أصول النحو قال السيوطي نقلًا عن كتاب (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري: “وفائدته -أي: فائدة علم أصول النحو- التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل، والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الدليل، فإن المُخْلِد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب، ولا ينفك في أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب” انتهى.
ومعنى ما قاله أبو البركات الأنباري: أن دراسة أصول النحو والوقوف على أدلة الاحتجاج تُعِين الدارس على إثبات الأحكام الموثقة بالحجة البينة، والدليل المعتمد؛ فيكون حكمه أبعد ما يكون عن عوارض الشك والارتياب، في حين أن من يعجز عن الوصول إلى الدليل والنظر، ويركن إلى التقليد من غير تحقيق أو تدقيق، أو إعمال فكر، أو إدارة بصر لا يعرف وجه الخطأ من وجه الصواب، ولا تخلص معلوماته عن شوائب الشك والارتياب.
المصدر: مناهج جامعة المدينة العالمي