شُروطُ القَواعِدِ النَّحويَّة
القَواعدُ النحويَّة هِيَ مُحصِّلة نهائيَّة لمراحلِ الاستِقراءِ، فهِيَ قانونٌ يَسعَى النُّحاةُ إلَى اكتِشافِهِ، وهِيَ تُقنِّنُ الصِّفاتِ المشتَركةَ بَينَ أقسامِ المادَّةِ اللغويَّة، وتُحدِّدُ العلاقاتِ بينَها. وأهمُّ شُروطِ القَواعِدِ النَّحويَّة أنْ تَكُونَ مُختَصَرةً، ويَتطلَّبُ هذا الشَّرطُ أنْ يَعتَمِدَ التقعيدُ علَى تَصنيفٍ شامِلٍ، يُحدِّدُ المادَّة اللُّغويَّة، ويحدِّدُ الوظائِفَ النَّحويَّة، ووَجَدَ المعاصِرُونَ هذِهِ الخاصَّةَ من أهمِّ خصائِصِ القواعدِ.
والقَواعِدُ النَّحويَّة في المراحِلِ الأُولَى من وَضعِها كانَتْ أقلَّ اختِصاراً، في الوقتِ نَفسِهِ كانَ المصطَلَحُ أقلَّ ضَبطاً، لكنَّها في الوقتِ نفسِهِ كانَتْ أكثر وَصفيَّة، ونأتِي علَى ذلِكَ بشواهدَ من قواعِدَ وَضَعَها الأوائِلِ كسيبويه (ت180هـ) والفرَّاء(ت207هـ) والأخفش (ت 215هـ). يقولُ الفرَّاء في الآية الكريمة: ﴿ قُلْ إنَّ الموتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فإنَّه ملاقِيكُم ﴾[1]: ” أدخَلَتِ العرَبُ الفاءَ في خبرِ إنَّ، لأنَّها وَقَعَتْ على الَّذِي، والَّذِي حرفٌ يُوصَلُ، فالعَرَبُ تُدخِلُ الفاءَ في كلِّ خبرٍ كانَ اسمُهُ ممَّا يُوصَلُ، مثل: مَنْ والَّذِي وإلقاؤُها صوابٌ”[2].
وهذِهِ القَاعِدةُ وَفْقَ تَعبيرِ المتأخِرِينَ تُصاغُ علَى النَّحو الآتِي: يَجُوزُ دُخُولُ الفاءِ في خبرِ الاسمِ الموصُولِ. وواضِحٌ أنَّ هذِهِ الصياغةَ أكثرُ اختِصاراً، فهِيَ تعتَمِدُ علَى ضَبطٍ أدقَّ لِلمُصطلَحِ، لكنَّها فِي الوَقتِ نَفسِهِ أكثرُ مِعيارِيَّة، حيثُ تَتَحدَّثُ عنِ الجوازِ، وهوَ ما لم نَرَهُ فِي عِبارةِ الفرَّاء[3].
ومِن شُروطِ القَواعِدِ النَّحويَّةِ أيضاً أنْ تَكُونَ عامَّة. فقد أكَّدَ النُّحاةُ العَربُ علَى أنْ تَكُونَ مطَّرِدة تَخضَعُ لها جزئياتُ المادَّة العلميَّة المجمُوعةِ، فتكونُ القَواعِدُ قد خَضَعَتْ إلَى مَجمُوعةٍ مِن وَسائِلِ التحقُّقِ تكلَّمَ عنها النُّحاةُ تحتَ عناوينَ منها: مسالِكُ العِلَّةِ، شُروطُ العِلَّة، الطَّردُ، العَكسُ، دَورانُ العِلَّةِ مَعَ المعلُولِ، وغيرُ ذلِكَ.
ومِن الشَّواهِدِ على اطِّرادِ القَواعِدِ ما أوردَهُ الأخفش في قولِهِ تعالَى: ﴿ أنَّ لَهُم جنَّاتٍ ﴾[4] جُرَّتْ، وقد وَقَعَتْ علَيها ” أنَّ “، لأنَّ كُلَّ جَماعةٍ فِي آخرِها تاءٌ زائِدة تَذهَبُ في الوَاحِدِ أو فِي تَصغِيرِهِ فَنَصبُها جرٌّ. ألا تَرَى أنَّكَ تَقُولُ: جنَّةٌ فتذهَبُ التاء، وقالَ تعالى: ﴿ خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ ﴾[5]. والسَّماواتُ جرٌّ، والأرضُ نصبٌ، لأنَّ التاءَ زائدة، ألا تَرَى أنَّكَ تَقُولُ سماء”[6].
ففي هذِهِ الآيةِ حرصٌ على إفهامِ القَارِئِ القَواعِدَ النَّحويَّة يظهرُ ذلِكَ فِي التَّعلِيلِ والحُجَّةِ، وفي الإكثارِ من الأمثلةِ والشَّواهِدِ، ومِن صِياغةٍ وصفيَّة فهِيَ تعني في عرف النُّحاة اليومَ: – كلَّ جمعٍ مؤنَّثٍ سالمٍ يُنصَبُ بِالكسرةِ نيابة عنِ الفَتحةِ، ويجرُّ بِالكسرةِ، ويُرفَعُ بِالضمَّةِ. وهذا هو الحالُ في أكثرِ النُّصُوصِ الَّتِي تَنتمِي إلَى هذِهِ الفترةِ.
ومِن الشروط الهامَّةِ لِقَواعِدِ النَّحو عِندَ القُدماءِ والمحدثينَ على حدٍّ سواء الضَّبطُ، ونعني بِهِ الموضُوعيَّةَ في التجريدِ بوضعِ الشَّواهِدِ والأَمثلةِ، ويَظهرُ ذلِكَ في مظهرينِ اثنَينِ، الأول: أنَّهم كانُوا يَرُدُّونَ قواعِدَهُم إلَى ما تَقُولُهُ العربُ، ويُوثِّقُونَ كُلَّ قاعِدةٍ يَصِلُونَ إلى تَجرِيدِها بِالشَّواهِدِ والأمثلةِ، وهُوَ ما يُعرَفُ عِندَهُم بالاحتِجاجِ، وهو ما يُشبِهُ تَحقيقَ الفرضِ في التَّجارِبِ العلميَّةِ.
والثَّاني هو المقاييسُ التي أنشؤُوها ليتعرَّفُوا بِها علَى كلِّ الأبوابِ النَّحويّة، كقولِ ابن السراج (ت316هـ): ” وتَعتَبِرُ خبراً لمبتدأ بِأنَّكَ متى سألْتَ عنِ الخبرِ جازَ أنْ يُجابَ بِالمبتَدأ، لأنَّهُ يَرجِعُ إلى أنَّه هو في المعنى. ألا ترى أنَّ القائِلَ إذا قالَ: عمرٌو منطلِقٌ، فقلْتَ: مَنِ المُنطلِقُ؟ قالَ: عمرٌو “[7]. وهكذا ضَبَطَ ابن السراج المبتدأ بِصياغةِ السُّؤالِ والجوابِ، وهو يشبِهُ ضَبطَ العَمليَّاتِ الحِسابيَّة تماماً.
ومن شروطِ القَواعِدُ النحويَّة التَّصنِيفُ. فالقَواعِدُ نِظامٌ تتشابَكُ فيهِ العلاقاتُ العضويَّة، حتَّى يصيرَ بِهذا التشابُكُ بناءاً واحِداً يَصعُبُ نفيُ شيءٍ منه أو إضافةُ آخرَ إلا بِدليلٍ، فهو يتَّسِمُ بِالتَّماسُكِ وعدمِ التناقضِ، فلو كانَ متناقِضاً لما صَلُحَ للتَّطبيقِ. ومِن ذلِكَ ما أوردَهُ سيبويه في الشَّرطِ: ” اعلَمْ أنَّ حروفَ الجزاءِ تجزمُ الأفعالَ ويَنجَزِمُ الجَوابُ بِما قبلَهُ، وزَعَمَ الخليلُ أنَّكَ إذا قُلْتَ: إنْ تأتِنِي آتِكَ، فـ آتِكَ انجزَمتْ بـ إنْ تأتِني، كما تَنجَزِمُ إذا كانَتْ جواباً للأمرِ حينَ قُلْتَ: ائْتِنِي آتِكَ….واعلم أنَّه لا يكونُ جوابُ الجزاءِ إلا بِفعلٍ أو بالفاءِ”[8].
فهنا القاعدة عند المحدثينَ تقول: – أدواتُ الشرطِ الجازمة تجزمُ فعلينِ، الأوَّل فِعلُ الشرطِ والثاني جوابُ الشرطِ، فالأوَّلُ سببٌ لحصولِ الثاني. – ولا يكونُ جوابُ الشرطِ الجازمِ إلا بِفعلٍ أو اقترانٍ بِالفاءِ عندَ القُدماءِ والمحدثينَ أيضاً. وهذا ما يُدعَى الضَّبطَ للظاهرةِ المدروسةِ.
ونخلصُ أيضاً من ذلِكَ إلَى أنَّ القواعِدَ النَّحويَّةَ لم تَعُدْ مُجَرَّدَ وسِيلةٍ لِفَهمِ النُّصُوصِ الدِّينِيَّةِ أو أداةً لتعلُّمِ طُرقِ الكلامِ والحديثِ واللُّغةِ العربيَّةِ بِفروعِها وحسبُ، بل لها أيضاً أهدافُها العِلميَّةِ العامَّةِ بِجانِبِ الأهدافِ التَّطبِيقيَّةِ الكثيرةِ، ومنها الإفادةُ مِن نتائِجِ تعليمِ اللُّغاتِ الأخرى، والتَّخطيطِ الُّلغويِّ، وعلمِ الأصواتِ وخصائِصِ العربيَّةِ ذاتها، ومعرفةِ القرائِنِ المعنويَّة واللفظيَّة ودورِها فِي تحليلِ الكلامِ والرَّبطِ بينَ أجزائِهِ، وهذا لا يتأتَّى بِالطَّبعِ إلا مِن خِلالِ نُصُوصٍ فَصِيحةٍ تُؤدِّي إلَى تَعليمِ القَواعدِ النحويَّةِ واستِظهارِها.
خاتمة وتوصيات:
بحث أهمية النص الأدبي في تعليم قواعد النحو عند القدماء والمحدثين
تبين لنا مما سبق أن النص الأدبي مهم، بل وأساس في بناء القواعد النحوية، فلا يمكن تعليم القواعد دون نصوص فصيحة منتقاة ومدروسة حتى يتمكن الدارس من الفهم والاستنباط، ويمتلك الأداة التي تجعله يتعلم أصول عربيته. وممارسة النصوص العالية، والإكثار من حفظها، ومزاولة استعمالها هي التي تعطي الدارس التمكن فيها، والقدرة على استعمالها استعمالاً جيداً، وتجعله بكثرة محفوظه قادراً على تذوق الأساليب والتمييز بينها، وهذا التذوق يجب أن يسبق تعلم القواعد نظرياً، فالقواعد نظام تتشابك فيه العلاقات العضوية، حتى يصير بهذا التشابك بناءً واحداً يصعب نفي شيء منه أو إضافة آخر إلا بدليل، فهو يتسم بالتماسك وعدم التناقض، فلو كان متناقضاً لما صلح للتطبيق.
توصيات البحث:
1- الإكثار من حفظ النصوص الفصيحة العالية، وعلى رأسها نصوص من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وكلام العرب شعرهم ونثرهم.
2- التطبيق على هذه النصوص، وبيان القواعد الثابتة والابتعاد عن الفروع والجزئيات والآراء المختلفة التي لها تفريعات وتخريجات.
3- فهم روح القاعدة، وفهم روح النص، والتمكن من التعبير عن ذلك بالكتابة والقراءة والممارسة الدائمة
[1] الآية 8 من سورة الجمعة.
[2] معاني القرآن: لأبي زكرياء يحيى بن زياد الفرَّاء (ت 207هـ-822م)، تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، ومحمد علي النجَّار، ط3، القاهرة، مركز تحقيق التراث، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، 1422هـ -2001م، 3: 155.
[3] الأسس المنهجية للنحو العربي دراسة في كتب إعراب القرآن الكريم: د. حسام أحمد قاسم، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1428هـ-2007م، ص172.
[4] الآية 25 من سورة البقرة.
[5] الآية 1 من سورة الأنعام.
[6] معاني القرآن: للأخفش الأوسط، سعيد بن مسعدة (ت215هـ)، تحقيق: هدى قراعة، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1990م، 1: 57.
[7] الأصول في النحو: ابن السراج (ت316ﻫ)، تحقيق: د. عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405ﻫ- 1985م، 1: 69.
[8] الكتاب: 3: 63.