من مستويات النص الأدبي
الاستقراء
ما من شك أن استقراء النص العربي كاملًا في قرن واحد أو قرنين أمر في غاية الصعوبة، ولا سيما في تلك الحقبة الزمنية، ومرد ذلك هو أن العرب منتشرون في أنحاء شبه جزيرة العرب، وأنهم يعيشون قبائل وأفخاذًا تنتقل من مكان إلى آخر، وليس في حياتهم من الحضارة ما يمكنهم من تدوين نصوص لغتهم تدوينًا يفيد اللغوي في عملية الاستقراء.
وأما القرآن الكريم النص الأدبي الفصيح العالي فهو ذخر لغوي لا يضاهيه نص آخر، ولا يعدله فصاحةً وبيانًا وبلاغةً وإحكامًا، فقد اعتمد عليه اللغويون اعتمادًا كبيرًا في عملية الاستقراء، وكما يقول أستاذنا الدكتور محمد خير الحلواني، رحمه الله: ” لكنه إلى ذلك لم يجمع ظواهر العربية كلها، ولا بد من أن يكون بجانبه نصوص أخرى”[1].
وأما الشعر فقد ضاع أكثره، لأن حملته من فصحاء العرب خرجوا للجهاد، وقتل منهم من قتل، فلما استقرت الأمور عاد من عاد منهم إلى الشعر، فلم يجده مدونًا في ديوان، ولا مكتوبًا في كتاب، فذهب منه شيء كثير، وقد أدرك علماء النحو الأوائل قلة ما آل إليهم من نصوص الشعر، فقال أبو عمرو بن العلاء (ت154هـ): ” ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير”[2].
وقد قام النحويون بجهد عظيم يذكر لهم في تاريخ الدرس النحوي، فقد جمعوا معظم ما يمكن جمعه، وألموا بلهجات القبائل، واستنبطوا جل قواعد النحو، حتى إنهم لم يتركوا لمن جاء بعدهم في القرنين الثالث والرابع الهجريين وما تلاهما شيئًا يذكر.
والحقيقة أن الاستقراء عمل يحكمه الزمن فيبدأ بسيطًا ثم يتسع ويشتد عوده إلى أن يؤتي أكله في وقت متأخر. لذلك نرى أن النص الأدبي جرى عليه الاستقراء في أيام عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117هـ) وعيسى بن عمر (ت149هـ)، وأبي عمرو بن العلاء (ت154هـ) دون النص الذي أصابه يونس بن حبيب (182هـ)، وسيبويه (180هـ)، وهذا أيضًا أقل ما أصابه أبو علي الفارسي (ت377هـ)، وأبو العباس المبرد (ت285هـ) وتلميذه ابن جني (ت392هـ)، لم؟ لأن المتأخرين يقفون دائمًا على استقراء المتقدمين، ويصفون ما جمعته الروايات، أو دونته الدواوين.
ومن الأمثلة التي تساق على الاستقراء الناقص ما ذكر عن أبي عمرو بن العلاء-على الرغم من كثرة الرواية التي كان يسوقها، وكثرة الشعر الجاهلي الذي تجمع لديه-أنه كان يجهل بعض الألفاظ اللغوية التي تنتمي إلى لغة قبيلة عربية، رواها من هو أقل منه روايةً ودرايةً كابن أبي إسحاق الحضرمي، من ذلك أنه كان ينكر قراءة: (ولا تقربا هذه الشجرة)[3].فهو يرى أنها من لغة برابرة مكة وسودانها، على حين أنها من لغة بني سليم، كما يرى الحضرمي[4].
وكان سيبويه وشيوخه قبله لا يعرفون ” حاشا” إلا حرفًا جارًا، مثل ” حتى ” ولهذا منعوا أن تدخل عليها ” ما ” المصدرية، فقال سيبويه: ” ألا ترى أنك لو قلت أتوني ما حاشا زيدًا، لم يكن كلامًا ” فكأنه لم يقف على قول الأخطل: (من الوافر)
رأيت الناس ما حاشا قريشًا = فإنا نحن أفضلهم فعالا
ولهذا أجاز المتأخرون دخول ” ما ” على ” حاشا ” اعتمادًا على بيت الأخطل هذا، واستنادًا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ” أسامة أحب الناس إلي ما حاشا فاطمة “[5].
والواقع أن ضعف الاستقراء هو السبب في اختلاف النحاة قديمًا، فقد أنكر بعضهم ظاهرةً ما في النص المنقول إليه، وأجازها غيرهم، لأن المتقدم لم يسمع ما سمع المتأخر، ولأن المتقدم اعتقد أنه قليل، في حين اعتقد المتأخر أنه وقع على كثير منه فقاس عليه وبنى قواعده النحوية على هذا الأساس.
نخلص مما تقدم إلى أن استقراء النص الأدبي كان حاضرًا في أذهان النحاة كاملًا وناضجًا، ولا يقلل من شأنهم أنهم لم يحيطوا بكل شيء، أو أنهم أخلوا ببعض ما صار إليه علم اللغة المعاصر، لأن القوم عاشوا في زمن غير زماننا.
[1] أصول النحو العربي: د.محمد خير الحلواني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2011م، ص80.
[2] طبقات فحول الشعراء: محمد بن سلام الجمحي (ت256هـ)، تحقيق: محمود محمد شاكر، القاهرة، دار المعارف، 1952م، ص 22.
[3] الآية 35 من سورة البقرة.
[4] المحتسب في شواذ القراءات: لأبي الفتح بن جني (ت392هـ)، تحقيق: حفني ناصف، وعبدالفتاح شلبي، القاهرة، 1966م-1386هـ، 1: 73-74.
[5] شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: بهاء الدين عبدالله بن عقيل الهمداني (ت769هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة العصرية، بيروت وصيدا، 1428هـ-2007م. 2: 565.