النّظامُ النَّحْوِيّ ولغة الإبداع أو النحو والشعر
إذا كان النحوُ – كما أُحِسُّهُ – مَرْكَبًا صعبًا عَسِيرَ المنال سطحًا وعمقًا فإن الشعر أيضا:
…. صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لا يَعْلَمُهْ زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ |
في طريق هذينِ المَرْكَبَيْنِ أُفْصِحُ عن مَكْنُونِ نفسي بهذا الخيط الاحتماليِّ العابرِ، الذي يضع نقاطًا أريد إبرازها في سبيل حُبِّ اللغة والشِّعر والنحو.
وفي البادرة الأولى أسأل: هل نحن بحاجة إلى تقنينٍ للعاميَّة أوِ الفُصحى؟ لمن وَلاَءُ الدرس؟
وهنا يدور السؤال مرة أخرى: لماذا يُقَنِّنُ المجتمَعُ لعامِّيَّتِهِ؟ أهي نافرة في لسان ناطقيها وأهليها، أو أنها جر قدرة طبيعية فِطْرِيَّة؟
وهنا أقول: العامِّيَّة لا تَنْفِرُ ولا تَفِرُّ ولا تغرب – في حدود بيئتها – لأن مستخدمها يَهْمِسُ بها، يضحك، يبكي، يأكل ويشرب ويسامر، تدخل معه طعامَهُ، في إدامِهِ، يُسِرُّ بها معه تحت دفء الدِّثار والغطاء، أي: إنها في مجال المستور المحدود.
فَهَلْ مِن المُمْكِن عَمَلِيًّا أن يطلب مجتمَعُها أَمْرَ ناموسها، وناموسها يتغير ليلَ نهار؟
هل هناك من خوف عليها؟
لا مطلب لاستمرارها، ولا مطلب لوجودها في حُسبانِي بِاعتبارها دليلاً بارزًا ناهضًا لعطاء شامل لحضارة أُمَّة.
التوجّه إذًا إلى الفصحى:
التي ثَبَتَ وادي النحو فيها، وثَبَتَ القالب، فالذي قال في العصر الجاهلي:
وَأُحِبُّهَا وَتُحِبُّنِي وَيُحِبُّ نَاقَتَهَا بَعِيرِي |
هل يدرك وَقْتَها أنه يصوغ هيكلاً لإهابٍ يجري معنا اليومَ وبعدَ اليوم حيث نقول مثل ما قال:
وأضربها وتضربني |
إلى ما شاء الكلام، ما دام الإهاب ثابتًا، يُعرَف فيه موقعُ الرأس منَ القَدَم، والأصابعِ من الكفِّ، والكفِّ من الذِّراع.
إن النظام بثابِتِهِ ومتغَيِّرِهِ جارٍ وراء اللغة، فهي الصوت وهو الصدى.
هذا النظامُ المرتَكِزُ على لُغَةٍ ثَرَّةِ التعبيرِ نريد أن نؤكد عَلاقَتَهُ بمنطِقَةِ الإبداع الأولى لدى العرب وهي الشِّعر؛ مع التسليم بتَلازُم اللغة مع القرآن والحديث الشريف، فالحِوار مع القرآن يُدرِك مريدوه أنه حوارٌ ضارب في اللسان والفؤاد والدنيا والآخرة والثواب والعقاب.
نحن نريد بيان العلاقة الحميمة بين صانع النظام النحويِّ، ولغة الشِّعر وبخاصَّة أن هناك اتهامًا للنحو بإفساد منطقة الإبداع.
في البدء اتَّجَهَ النحاةُ صَوْبَ لغة الشِّعر؛ ولعل علاقة الطرف الآخر بالنحو لم تكُ في البداية علاقة وِفاق.
ولقد بدا في المحيط السياقيِّ الثقافيِّ بعضُ سخرية من النّظامِ النَّحْوِيِّ والنحاة؛ يقول شاعر:
تَرْنُو بِطَرْفٍ فَاتِرٍ فَاتِنٍ أَضْعَفُ مِنْ حُجَّةِ نَحْوِيِّ |
ويقولُ أعرابِيّ لأبِي زيْد ظنه يسأل سؤالاً في النحو:
|
ولم تَفُت السخرية لُغويًّا هو عيسى بنُ عمر واصفًا خلاف النحاة:
إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى أَلِفٍ وَوَاوٍ وَيَاءٍ هَاجَ بَيْنَهُمُ جِدَالُ |
فكلُّ مَن ضاق إبداعًا وَجَّهَ ضِيقَهُ صَوْبَ النحو حتى المُحدثينَ الذين يقول أحدهم:
|
في البدء كان الصِّدام، كانت المنافرة حين بدأ النحو يَتَحَسَّسُ بعضَ خيوطٍ من نظام كان الصدام بينه وبين الشعراء قائمًا، نلمح ذلك في ثورة عَمَّارٍ الكلبيِّ وبِشْرِ بن أبي خازم.
ونقف وَقْفَةً عند نَحْوِيٍّ في بدء النظام قيل عنه بأنَّه أوَّل من بَعَجَ النحو ومدَّ القياس؛ أي: إنه في المرحلة الهائِمَة التي كانت تبحث للنحو عن طريق، في مُقابل شاعرٍ كبيرٍ هو الفَرَزْدَقُ الذي كان نموذجًا لكبرياء الشاعر، وكبرياء لغة الشعر.
يَقُولُ الفرزدق بعد تتبُّعٍ طويلٍ منِ ابْنِ أبي إسحاق:
وعَضُّ زمانٍ يَابْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ منَ المالِ إلاَّ مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ |
يقول له عبدالله بنُ أبي إسحاق: “علامَ رفعتَ كلمة “مُجَلَّف“؟”
فيرد الفَرَزْدَقُ: على ما يَسُوؤُك ويَنُوؤُك، علينا أن نقول وعليكم أن تَتَأَوَّلُوا.
والعبارة المركزية هي تلك اللغة الآمِرة: علينا أن نقول وعليكم أن تَتَأَوَّلُوا.
فعلينا أن نقول تُساوِي: نحن الصوت، وعليكم أن تتأولوا تساوي: وأنتمُ الصَّدَى.
إننا أمام رجلينِ: نَحْوِيٍّ يصنع بعض خيوطٍ مُبْهَمة خائف على ضياعها، وشاعرٍ يرى أنَّ شِعرَهُ فوق النظام اللُّغوِيِّ، قبله، يصنع ما يريد، كما سُئل فقال: فعلتُ ذلك لِيَشْقَى به النَّحْوِيُّون.
وكما رام خَطْوَهُ فيما بعدُ مَنْ قال معبِّرًا عن حركة إبداعه المثيرة:
أنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا وَيَسْهَرُ الْقَوْمُ جَرَّاهَا وَيخْتَصِمُ |
فلِمَنْ كان الانتصار؟ من الواضح أنه صار للمبدِع الذي أضحت كلمته أمرًا لِنَهْجِ نَحْوِيٍّ؛ ومن هنا تم التأويل؛ لإحداث المصالحة بين النحو والشِّعر.
المصالحة بين النص والقاعدة:
يبدو أنه حين استقرَّ أمر النظام، وأصبح واضحَ الملامح محدَّدَ الأركان -: بدت نَظَرِيَّتُهُ غيرَ مرتعِشَة ولا هيَّابَة من لغة الشِّعر، فقد صالحها وجرى لها؛ أي: جرى معها.
هكذا نجد التأويل في أبرز مظاهره سبيلاً لإحداث الموائمة بين سُلوك الشاعر ونظام النحو، فالزَّجَّاجِي بعيدًا عن زمان عبدالله بن أبي إسحاق في حواره عن جواز الابتداء بالنكرة دون مُسَوِّغ، أجاز في قول الفَرَزْدَقِ؛ أن تُعْرَبَ “مُجَلَّف”: مبتدأً لخَبَر محذوفٍ، والتقدير: أو مُجَلَّفٌ كذلك، (“الجُمَل” ص 204).
واسْتَحْسن ابن عُصفور أن يكون: “مُجَلَّفُ” فاعلاً لفعل محذوف، والتقدير: أو بقي مُجَلَّفُ.
وفي واقع الأمر أنَّ الفَرَزْدَقَ خَطَّ الطريق الذي انصاع فيه النحاة لأمر الشعر؛ فقد أَوَّلُوا واختلفوا في إعراب مُجَلَّف على هذه الرواية (أي التي نصبت مُسْحَتًا) على ستة أقوال؛ حيث قالوا إنها:
1 – مبتدأ خَبَره محذوف: مجلف كذلك، من هؤلاء (الفَرَّاءُ / الزَّجَّاجِيُّ / ابن خَرُوف).
2 – فاعل لفعل محذوف: أو بقى مجلف، (ابن جِنِّي “الخصائص” 1 / 99).
3 – خبر لمبتدأ محذوف: الباقي مجلف/ هو مجلف، (ثَعْلَب).
4 – معطوف على الضمير في مُسْحَتًا: الكِسَائِيُّ، حكاه هشام عن معاوية، (“إصلاح الخلل” ص 262).
5 – مجلف مصدر ميمي على وزن مُفَعَّل عطف على المصدر: “عَضُّ”: أي: وَعَضّ أو تجليف، وإليه ذهب الفارسي “خِزانه الأدب” 5/174.
6 – معطوف على مُسْحَت حَمْلاً على المعنَى، لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف؛ الفَارِقِيّ في شرح أبيات مشكلة الإعراب ص 295.
هكذا ضاعتْ مجابَهةُ عبدالله بن أبي إسحاق في ظِلِّ سَطْوَةِ الفَرَزْدَقِ، الذي أمر فاستجاب له النُّحَاةُ حُبًّا في لغة الشِّعر؛ فقول الشاعر هو الصواب، وعلى النظام أن يرعى ذلك مستخدِمًا أهمَّ آلاته في المصالحة والاتِّساق وهي التأويل.
حين استقر النظام – تُرِكَ للغة الشعر أن تَمْرَحَ وتُبْدِعَ وتتألق معتمِدَةً على فَرْضِيَّاتِهِ وأُسُسِهِ.
وماذا بعد التأويل الذي أحدث المُصالحة بين القاعدة والشِّعر؟ كيف كان خط النحو لحركة الشعر؟ أنا أظن أن منطقة الجواز في النحو من هَمِّهَا تَرْك السبيل حُرًّا للغة الشِّعر.
منطقة الجواز في النحو (بِنْيَةً وتَرْكِيبًا):
لم يَعُدِ النظام النَّحْوِيُّ جَبْرِيًّا؛ ففيه من الأحكام الجائزة ما يفوق حكم الوجوب، ومعنى الجواز أن الشاعر بين أمرين أحدهما يفارق الآخر؛ ومن ثَم يكون مجال الاختيار والانتقاء حَسَبَ السِّياق ورؤية الشاعر هو الأساس.
فالفرع في ثوابت التركيب يتحرك في لُغة الشِّعر أكثرَ من الأصل، والقاعدة تَهِيمُ بالفرع كما هامت بالأصل.
إن من شَرَف العربية الحذفَ حين يكون الأصل الذِّكْرَ، ومن شَرَفها التقديم حين يكون التأخير، وتَتْرُكُ سبيلاً واسعًا للتصرُّف في البِنْيَة من أجل لغة الشِّعر، ورغم أن هامتها وعِشْقها في الإعراب فإنها تتحاور مُجَوِّزَةً الجر والنصب، والرفع والنصب في الموقع النَّصِّيِّ الواحد.
وعلى مَن يريد استنطاق إبداع النحو وكونه نظامًا يتألق بلغة الشِّعر، أن يقرأ ما يَجري لدى ابن جِنِّي فيما كتبه تحت عنوان باب في شجاعة العربية “الخصائص” ج3/360.
حيث يقول:
اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة، والتقديم والتأخير، والحمل على المعنى والتحريف.
ففي حديث نَحْوِيٍّ له عن الحذف يقول جـ 3/ 367:
فأما قوله:
مَا لَكَ عِنْدِي غَيْرُ سَهْمٍ وَحَجَرْ وَغَيْرُ كَبْدَاءَ شَدِيدَةِ الْوَتَرْ جَادَتْ بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ |
أي بكفي رجل أو إنسان كان مِن أرْمَى البشر، فقد رُوِيَ غير هذه الرواية “بكفي كان مَن أرْمَى البشر” بفتح ميم مَن؛ أي بكفي من هو أرمى البشر، وكان على هذا زائدة.
النص باقٍ كما هو على حاله لا مساس به، والحوار في حُبِّه نَحْوِيّ، فالحرية الممنوحة لحركة الشعر في النحو كبيرة، حذفٌ يُقابله ذِكْرٌ، تقديم يَرُومُهُ تأخير، بِنية يتصرف في رِكابها الشاعر فيجعل الأَرَانب أرانِي، والثعالب ثعالِي، والصيارف الصياريف، وابن سالم ابن سلام، وعَزَةُ تصبح عَزُّ، وحارث يُضحِي حارِ؛ حتى الإعراب مِلاك النحو يجري التأويل فيه؛ إرضاء للشاعر مع المُحَافظة عليه.
إن القانون النَّحْوِيَّ يَروم الاتساع، ولديه قدرة على الاستمرار؛ ففي جواز الابتداء بالنكرة يربط أمره بالإفادة وهي مطلب اللغة، واتساع أمر الصَّوْغِ قياسًا وارتباطًا بهذه الفائدة لا حدَّ له؛ فابن مالك وهو يتحدث بشأن هذا الجواز، يُصْدِرُ هذا القانون النَّحْوِيَّ الدَّلاليَّ السِّيَاقِيَّ والقياسيَّ قائلاً:
وَلا يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ تُفِدْ كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ |
ثُمّ يَخْتِم بعد التمثيل ببعض النماذج قائلاً:
وَلْيُقَسْ مَا لَمْ يُقَلْ |
وفي مفهوم الصيرورة تنطلق المفردات في إطار النسخ مع كل دالٍّ يَحْوي معنى الصيرورة، وُجِدَ أم يُنتَظَر وجوده؛ فمناط النظام الفائدةُ والقياس.
التأويل.. ومنطقة الجواز مِنَّة منَ النُّحاة للمُصالحة مع لغة الشِّعر، والنفاذ إليها.
والدارس العربي يعلم أنَّ النُّحاة همُ الذين أصدروا وحافظوا على خصوصية الإبداع حين نصُّوا على ثُنائِيَّة لغة الاختيار ولغة الاضطرار، فالضرورة الشعرية تُدْرَسُ في نطاق النظام النَّحْوِيِّ، ومع ما في كلمة الضرورة من دَلالة تَنُوءُ عن قصد النحاة؛ لأنَّهم حين تحدثوا عن لغة الاضطرار كانوا يقصِدون لغة الشعر بمَذاقها وحركتها، ومجازها، فابن عُصفور يقول: “والشعر كله ضرورة”، فلا يَظنَّنَّ ظانٌّ دَلالة العيب في الكلمة؛ فالمقصود أن لغة الشعر حركة متوفِّزَة، متحركة، تهدأ وتثور، تُرَتِّب وتَكْسِرُ الترتيب، تُظْهِرُ وتُخْفِي، يتحول فيها الواقع إلى مجاز، والمجاز إلى واقع.
أنا أَظُنّ أنَّ أوَّل مَنْ تَكَلَّم في لغة الشِّعر، وأَفْصَحَ عَنْهَا هُمُ النُّحاة؛ لا النُّقَّاد، وكتب الضَّرَائِرِ نَحْوِيَّة قبل أن تكون نَقْدِيَّةً أَدَبِيَّة.
وتَرِدُ أمامي ملاحظةٌ مؤداها أنه مع عدم إهمال لغة النثر، التي وردت في مؤلفات النحويين نادرًا، فإنَّ النّحاة رَأَوْا أنَّ ما في لغة الشِّعر يغطي مراد النَّثْر ويَزيد، ففي الشِّعر مَوْرِدٌ اللَّهَجَات، يتَّضِح هذا المورد من خلال لُغَة مَن يُلْزِم المثنى الأَلِفَ قائلاً:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا |
ومن خلال لغة “أَكَلُونِي البَرَاغِيثُ” التي ورد مُرادها واضحًا في لغة الشِّعر، حيث نجد:
رَأَيْنَ الْغَوَانِي الشَّيْبَ لاحَ بِعَارِضِي فَأَعْرَضْنَ عَنِّي بِالْخُدُودِ النَّوَاضِرِ |
و:
نَصَرُوكَ قَوْمِي فَاعْتَزَزْتَ بِنَصْرِهِمْ وَلَوَ انَّهُمْ خَذَلُوكَ كُنْتَ ذَلِيلاَ |
ومن خلال كَسْر حرف المُضَارَعَةِ؛ كما في حركة الشاعر اللغوية التي جاءت في قوله:
لَوْ قُلْتَ مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ تِيثَمِ يَفْضُلُهَا فِي حَسَبٍ وَمِيسَمِ |
ومن خلال مَوْرد النون في موقع العَيْن، كما يقول المَعَرِّيُّ:
لِمَنْ جِيرَةٌ سِيمُوا النَّوَالَ فَلَمْ يُنْطُوا |
الشعر يحوي في إهابه النثر، وهذا واضح من عفوية القول بالشعر:
فقد كادت منظومة الشِّعر في سهولتها تُواكِب حق النثر حين الخطاب؛ فالعربي الذي هجر زوجه؛ لأنها لم تَلِد له الغلام، وجدَها تُرقِّص ابنتها في الخِباء قائلة:
نُنْبِتُ مَا قَدْ زَرَعُوهُ فِينَا |
يسمع هذه الأبياتِ العاديَّةَ في ألفاظها ومعانيها، فيقبل على زوجه وابنته قائلاً:
ظَلَمْتُكُمَا وَرَبِّ الكَعْبَة |
فلننْظُرْ إلى جُملة النثر التي لم تبتعد عن قول الشِّعر: ظَلَمْتُكما / ورب الكعْ / بتى / مفاعلتن. فبَيْنَ الشِّعر وإيقاع اللُّغة مقاربةٌ وتَلاقٍ، فالذي يحتضن الشِّعر يحتضن معه كل شيء.
النحاة والإيقاع
لم تقف مَلَكة النَّحْوِ عند نَسْج رؤاها من خلال جُمْلة الشعر، ولم تقف عند وَصْف لغة الشعر والتأويل لِصِحَّة هذه اللغة، فقد بان أن الدَّرْس الإيقاعيَّ وهو من خصوص لغة الشعر، قام بأمره اللغويون النُّحاة من مثل:
الخليل / الأَخْفَش / الجَوْهَرِيّ / ابن جِنِّي / الزَّمَخْشَرِيّ / التَّبْرِيزِيّ / الدَّمَامِينِيّ…
فالشِّعر بكل أركانه: الوزن، واللفظ، والمعنى، والقافية، يعيش في حِمى منظومة النحو، وأنا لم أستغربْ إطلاقًا تمسُّك الدرس النَّحْوِيِّ بقضية الإيقاع، وجعلها من مَلَكَتِهِ وزنًا وقافية.
العلاقة بين النحو والإبداع
هُناك عَلاقة تآزُر بين الصواب والجمال، وقد يكون النظام النَّحْوِيُّ باحثًا في أمره الظاهر عن الصواب، وإن كان الخَفِيُّ هو الصوابَ المسلِّمَ إلى إبهارٍ وجمال.
وفي ظِلِّ هذه العلاقة بين النحو والإبداع، على المبدِع أن يَستَقِرَّ على ما استقر عليه النحو منَ الثابت فيه، وأن يصنع في المُتغير وهو كثير ما يحلو له ويريد.
إنَّ أوضحَ أدوات الشاعر مع أمر الإيقاع أمر المجاز، وليس المجاز أمرًا متفَلِّتًا بعيدًا عن حقِّ الصواب؛ فالصواب اللُّغَوِيُّ الذي يعرض جملة: “أنا مسافر إلى المنيا” بإمكان الشاعر أن يقول فيه: المنيا مسافِرَة إليَّ، حيث الفارقُ بين الحقيقة والمجاز هنا لم يُحْدِث مُفارَقَة مع الصَّواب؛ ومِن هنا فإن الَّذِي يريد أن يُحدِث المجاز في أمر جملة حقيقية مثل:
“ضَرب محمَّدٌ عليًّا”
ليس بإمكانه أن يستبدل بالفعل ضرب حرف الجر (في) قائلاً: “في محمَّد عليًّا”، لأن الأفعال في قِسْمَةِ اللغة شيءٌ، والحروف شيءٌ آخَرُ، فالمَقُولُ هنا ساقط نحويًّا وإبداعيًّا.
وليس بإمكانه أن يَسْتَبْدِلَ بالفعل ضرب الفعلَ جَلَسَ قائلاً: جَلَسَ محمَّدٌ عليًّا؛ لأنَّ مَنْطِقَ الصواب يقول: إن الفعل اللازم لا يوضع في خانة المُتعدِّي؛ ومن ثَمَّ يكون المعروض ساقطًا نحويًّا وإبداعيًّا.
لكن بإمكانه أن يستبدل بالفعل “ضَرَبَ” الفعل “أَكَلَ” قائلاً: أَكَلَ محمَّد عليًّا، فتصبح هذه الجملة التي استخدمت حقَّ المجاز جملةً شِعْرِيَّةً إبدَاعِيَّةً، لأنَّه لو سأل سائلٌ قائلاً: كيف يأكل محمَّد عليًّا، يكون الجواب وقتها: ألم تسمع قول المولى – عز وجل -: ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ﴾ [الحجرات: 12]، فالمبدِع عليه أن يجري مع النحو في ثوابته فإذا ما حقَّقَها بانت له نقطة فضاء يفعل فيها ما يشاء.
حركة النحو حركة للإبداع
نحن نريد أن يكون النحو جزءًا من إبداع، أن نُرَسِّخَ مَلَكَتَهُ من خلال لُغة الإبداع، فيتحقق للمتعلم هذا الثراء المُرَكَّبُ الجامع بين الصواب والجمال، فالصواب أمره نَفْعِيٌّ، والجمال أمره إمْتَاعِيّ، ولن تتألق عربيتُنا إلا بجماع الأمرين معًا.
ولنلْحَظ بعض تعانُق بين النحو والإبداع:
1 – إِنَّنا حينَ نَقْرَأُ بَيْتَ الْفَرَزْدَق:
وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكًا أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ |
حيث يقول عنه أبو على الفارِسِيُّ: تقديرُهُ: “وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه”؛ ففَصَلَ بين المبتدأ والخبر اللَّذَيْنِ هما: “أبو أُمِّهِ أَبُوهُ” بكلمة (حَيّ)، وهو أجنبي منهما، وفصل بين الصفة والموصوف اللَّذَيْنِ هما: “حي يقاربه” بقوله: “أبوه”، وهو أجنبيٌّ منهما من خلال حركة عَبَثِيَّة تابعها النحو؛ لكن العَبَث النَّحْوِيَّ في النهاية قد أسلم إلى حِسٍّ شِعْرِيٍّ فَنِّيٍّ أراد به الفَرَزْدَقُ أن يُثبت غموض علاقات القرابة واختلاطها؛ فأنا بهذا البيت لا أُدْرِكُ الأبَ من الأخ، ولا الأخَ من الأم، وهو ما رامه الفَرَزْدَقُ الذي حرَّك جُملته لغايته، وفي عقله مَقُولَة: “علينا أن نقول وعليكم أن تَتَأَوَّلُوا”.
2 – إنني حين أقرأ للأَحْوَص:
سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلاَمُ |
يعجِبُنِي هذا السلوكُ الاختياريُّ الذي نَوَّنَ مَطَرًا في الشطر الأول؛ والتنوين تَنْكِيرٌ، والشطر الأول يبدو السلام فيه مُوَجَّهًا إلى الحبيبة؛ ومن ثَمَّ فَمَطَرٌ في مَنْطِقَةِ التَّجْهِيلِ والتنكير؛ لكنه حين تَوَجَّهَ إليه بِعَدَمِ السلام في الشطر الثاني كان البناء على الضمِّ؛ لأن التوجُّهَ هنا إلى معروف مقصود؛ فالنحو هنا يتحرك لصالح مراد لغة الشِّعر.
3 – إن شاعرًا معاصرًا يقول في ذكرى وفاة زوجه:
يَا لَيْلَةً شَبَّتِ الذِّكْرَى بِعَوْدَتِهَا فِي دَوْرَةِ الْعَامِ مَاذَا هِجْتِ لِيَ الآنَا |
يتحدث عن ليلة يعرفها؛ لأنَّ فيها ذكرى وفاة زوجه، يخاطبها بالتنكير قائلاً:
(يا ليلةً) بمراد النَّكِرَة غيرِ المقصودة مع أنَّه يعلمها ويعيش هَمَّها أيامَهُ وليالِيَهُ، لقد أتاح له النحو أن يُنَكِّرَ؛ لأن الليلة في مَرَامِ الشاعر أن تكون في طَيِّ النِّسيان حتى يزول عنه الهمُّ والأحزان.
4 – إنني حين أَستخْلِص قانون الحذف من لغة الإبداع، في قول الشاعر وهو المُرَقّشُ:
وَرُبَّ أَسِيلَةِ الْخَدَّيْنِ بِكْرٍ مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وَجِيدُ |
أجد أن مَنْطِقَ النحو في حَذْف الصفة هنا إبداعي، فالوصف بمطلق الجِيدِ لا معنى له؛ لأن كل نساء الدنيا لهن جِيد، فليكن بمذاق الشعر الجِيدَ الطويل، والوصف بمطلق الفرع؛ أي: الشَّعْر لا معنى له؛ لأن كل نساء الدنيا لهن شَعْر؛ لكن النحو يستأنس بظل الجمال في بيئته ليقول: إن المراد بالفرع كما تحب العرب الشَّعْر الفاحمَ الأسودَ، وإذا كان المُتَيَّمُ أَنْدَلُسِيًّا لكان المراد بالشَّعر الشَّعر الأصفر.
هكذا أُحِبُّ أن يكون النحوُ جزءًا من إبداع.
في الختام أنا أحدس من خلال أفكاري المُتناثرة بأشياء:
1 – بأن النظرية النحوية إبداعية.
2 – أن ما هوجمت به كان من أجل لغة الشِّعر؛ لغةِ الجمال.
3 – يبدو أنَّ التعبير عن العربية بأنها لغةٌ موسيقية مَرَدُّهُ أن الشِّعر هو الأصل والأساس.
4 – في ربط النظام النَّحْويِّ بالشِّعر إظهار للحق البَيْنِيِّ في الدرس اللُّغَوِيِّ؛ حيث يتعانق النحو مع الصَّرْفِ مع الدَّلالة مع الإيقاع.
5 – التصوُّر الحضاري للغة: لا يتم إلا من خلال رؤيتها في حركة الإبداع.
6 – المرجو أن يُثْرِيَ التعليمُ بالنصِّ المبدِعَ إذا أردنا أن نَمْلِكَ أمر النظام النَّحْوِيِّ ونستمتِعَ به.
فلْنَتْرُكِ اللُّغَةَ النفعِيَّة التي تُغْنِي عنها لغة الإشارات، باحِثِينَ عنِ النحو في ظل الإبداع، فأنا أرى العلاقة بين النظام النَّحْوِيِّ ولغة الشِّعر واردةً في قول العاشقِ عُرْوَةَ بنِ أُذَيْنَةَ:
إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوىً لَها |
فقد صِيغَ النحو للشِّعر، وجرى الشِّعر وتألَّقَ في دائرة النحو، فهواهما مَزْجٌ من العطاء فريد.