لغتنا الجميلة (1)
لغتُنا العربية لغةٌ عبقريَّة شريفة، ثريَّةُ الألفاظ، دقيقةُ المعاني، تختلفُ دلالةُ الكلمة الواحدة من كلماتها باختلافِ حركة حرفٍ واحد من حروفها، وخيرُ ما يُمثَّل به في هذا المقام كلمة: ((البر))، فإن معناها يختلفُ باختلاف حركة الباء منها اختلافًا ظاهرًا، فالبُرُّ (بضمِّها): حَبُّ القَمح. والبِرُّ (بكسرها): الطَّاعةُ والصِّدقُ والصَّلاح والإحسان. والبَرُّ (بفتحها): اليابسةُ (ضدُّ البحر)، وصفةٌ للرجُل الصَّادق كثيرِ الطَّاعة، واسمٌ من أسماء الله تعالى الحُسنى.
وكثيرًا ما يقعُ المتكلِّمون والكَتَبَةُ في أخطاءٍ جَسيمةٍ من جرَّاءِ الخطأ في ضبطِ حرف واحد، فيُزيلون اللفظَ عن وجهه الصَّحيح، ويُحيلون الكلامَ عن معناه المراد.
وممَّا يدخلُ في هذه البابَة: الخطأُ في ضبط كلمة ((عنان))، فيقولون مثلاً: “بلغَ الغُبارُ عِنانَ السماء”، و”طاوَلَتِ الأحزانُ العِنانَ”، فيكسرون العينَ منها، فينأَونَ بها عما يَرومون ويقصِدون، وكان عليهم أن يفتحوا العينَ ليصيبوا مرادَهم، فالفرقُ شاسعٌ بين العِنان والعَنان.
أما العِنانُ (بالكسر): فهو سَيرُ اللِّجام الذي تُمسَك به الدابَّة وتُقاد. فهل للسَّماء من لِجامٍ تُقاد به وتُساق ؟!
وأما العَنانُ (بالفتح): فهو السَّحابُ، وما علا من السَّماء وارتفَع، وما يبدو من السَّماء للنَّاظر إليها.
ومن هنا كان الصَّوابَ الصُّراحَ فتحُ العين من كلمة (عنان) في المثالَين السابقَين، فنقول: “بلغَ الغُبارُ عَنانَ السماء”، و”طاوَلَتِ الأحزانُ العَنانَ”. أما إذا قُلنا: “أخذَ الحادي بعِنانِ الناقة” فإننا نكسر العينَ من (عنان)، وبهذا نكونُ قد وضَعنا كلَّ لفظ في موضعه الصَّحيح، وهذا عينُ الحقِّ والصَّواب.
– نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (20)، شهر ذي الحجَّة 1424 هـ.
– ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (15)، شهر ذي الحجَّة 1426 هـ.
لغتنا الجميلة (2)
تقدَّم في الحَلْقة السابقة بيانُ أهميَّة تحرِّي الصواب في ضبط الألفاظ، وما قد ينشأُ عن تغيير ضبط حرفٍ واحدٍ من فسادٍ في المعنى، ومخالفةٍ لقصد المتكلِّم.
ونَعرِضُ في هذه الحَلْقة لخطأ كثيرًا ما نسمعُه من الخطباء والمتكلِّمين، يَجنَحون إليه في مَعرِض الإطراء والثناء على بعض أهل العلم والثقافة، فيقولون: “فُلانٌ كُنَيِّفٌ مُلِئَ عِلمًا” (بتشديد الياء من كنيف وكسرها)، ظانِّينَ أنهم بقولهم المذكور قد أبانوا عن منزلةِ ممدوحهم الرفيعةِ في العلم، وأنه راسخٌ فيه، محيطٌ بجَنَباته.
وما دَرى أولئك المتكلِّمون أنهم بكلامهم الآنِف قد أساؤوا من حيثُ أرادوا الإحسان، وأنَّ ما حسِبوه مدحًا وتكريمًا ما هو إلا هجاءٌ مرٌّ مُقْذِع، وكان عليهم ليُصيبوا غرضَهم أن يقولوا: “فُلانٌ كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلمًا” (بسكون الياء من كنيف).
فالبَونُ بين (الكُنَيِّف) و(الكُنَيْف) بعيدٌ، جِدُّ بعيد، ودونَكُم البيانَ:
أما الكُنَيِّفُ (بتشديد الياء المكسورة) فتصغيرُ كَنِيْف، والكَنِيْفُ: هو بيتُ الخَلاء المِرْحاض، وهو الحَظيرةُ من خشبٍ أو شجرٍ للإبِلِ والغَنَم، وهو الساتِرُ.
وأما الكُنَيْفُ (بسكون الياء) فتصغيرُ كِنْف، والكِنْفُ: هو الوِعاءُ (مثل الحقيبة) يضعُ فيه الراعي والصانعُ أدواتهما ومَتاعَهما. قال الفيُّومي: وبتصغيره (أي: كُنَيْف) أُطلِق على الشخص للتعظيم اهـ.
هذا وقد كان أميرُ المؤمنين عمرُ الفاروقُ رضي الله عنه يُعلي من شأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ويُنَوِّه بمكانته في العلم، ويُزكِّي بصيرتَه في الفقه بقوله: ((ابنُ مسعودٍ كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلمًا)).
– نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (22)، شهر صفر 1425 هـ.
– نشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (16)، شهر المحرَّم 1427 هـ.
لغتنا الجميلة (3)
لكلِّ لفظ في العربيَّة معنًى وُضِع له، وقد يدلُّ اللفظ الواحد على غير ما معنًى، وإذا ما أُلبِس اللفظُ معنًى غيرَ معناه الأصيل، أفضى ذلك إلى لَبْس وخَلْط وفساد، وتَحْفِلُ عاميَّاتُنا اليومَ بالكثير من الألفاظ المزالة عن معانيها، ولا تخفى الخطورةُ الكبيرة إذا ما اتصلت دلالاتُ تلك الألفاظ بأحكام شرعيَّة، يترتَّبُ عليها ثوابٌ وعقاب، وقَبولٌ ورد، فألفاظُ الشريعة يجب أن تُنزَّل على المعاني التي وُضِعت لها، لا على معانٍ أحدثَتها العامَّة.
فمن ذلك: إطلاقُ العامَّة لفظَ ((الكَعْب)) اسمًا لمؤخَّر القدم، ومعلومٌ أن الشارعَ أمرنا في الوضوء بغَسْل القدمَين مع الكعبين، ولا يصحُّ الوضوء إلا به، ومن هنا وَجَبَ معرفةُ المراد بالكعبين، أما مؤخَّر القدم فالصَّواب أن اسمه: ((العَقِب))، وهو المقصود في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((وَيلٌ للأعقابِ منَ النار)) [ البخاري (165) ] أي: ويلٌ لتارك غسلها في الوضوء، وأما الكَعْب: فهو العَظْمُ الناشِزُ (البارز) في جانب القَدَم، عند مُلتقى الساق والقَدَم، فيكونُ لكلِّ قَدَم كعبان، كَعْبٌ عن يَمنتِها وكَعْبٌ عن يَسرتِها.
ومن ذلك أيضًا: تسميتُهم مَوْصِلَ الذِّراع في العَضُد: ((الكُوْع))، والصَّواب أن اسمه: ((المَرْفِق))، وقد أُمرنا بغَسْله مع اليد في الوضوء، وأما الكُوْع: فهو العَظْم الذي في الرُّسْغ (الرسغ: مَفصِل الكفِّ) يلي الإبهامَ.
ومنها أيضًا: ما يكون في قولهم: يسجد المصلِّي على جَبينه، والصَّواب: يسجد على جَبهته؛ لأن الجَبْهَة هي: موضع السجود، وهي مُستَوى ما بين الحاجِبَين إلى مقدَّم شعر الرأس. وأما الجَبِين: فهو ما فوقَ الصُّدْغ (الصدغ: جانب الرأس بين العين والأذن)، فثَمَّة جَبينان: جَبينٌ عن يمين الجبهة، وجَبينٌ عن يسارها.
– نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (23)، شهر ربيع الأوَّل 1425 هـ.
– نشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (17)، شهر صفر 1427 هـ.
المصدر: حلقات في التثقيف اللغوي ولحن العامَّة والخاصَّة
عدد المشاهدات: 264
2 Comment