مسألة استعمالُ (مَن) و (ما) الموصولتَينِ للعاقل وغيرِ العاقل
في قوله – عليه السلام -: ” … وجَنِّبِ الشيطانَ ما رزقتنا … “[1].
قال ابنُ الملقن:
“وقولُه: (ما رزقتنا)، أي: شيئًا رزقتنا؛ لأن المشهور أن (ما) لِمَا لا يعقل، و (مَن): لمن يعقل، وإذا كانت (ما) بمعنى شيءٍ وقعت على مَن يعقل وما لا يعقل، وقيل: تكون لمن يعقل، والمعروفُ الأولُ” [2].
بيان المسألة:
ذكر ابنُ الملقن هنا أن (ما) الموصولة تكونُ لِمَا لا يعقل ولِمَن يعقل، وأن (مَن) لمن يعقل، وبيانُ المسألة كما يلي:
اشتَهَر عند النحويين أن (مَن) الموصولة يُراد بها مَن يعقل، ولا يجوز أن يُعبر بها عمَّا لا يعقل، إلا إذا نُزل منزلةَ مَن يعقل، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ﴾ النور: 45، فعُبر عن غير العاقل بـ (من) لتنزُّله منزلةَ العاقل.
ومنه قولُ الشاعر [3]:
أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ … لَعَلِّي إِلى مَنْ قَدْ هَوِيتُ أَطِيرُ
وزعم قطربٌ أن (مَن) تقع على ما لا يعقل دون اشتراطِ ما يصحِّحُ ذلك، وجعل من ذلك قولَه تعالى: ﴿ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾ الحِجر: 20.، وذكر ابنُ السرَّاج أن هذا القولَ غيرُ مرضي؛ إذ لا دليل عليه، ولا مُحوِجَ إليه[4].
وأما (ما) الموصولةُ فيُراد بها غيرُ العاقل، وقد يُعبر بها عن العاقل، والمبهمِ أمرُه.
ومن ذلك قولُه تعالى: ﴿ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ﴾ (النساء: 3.)، فعُبر في الآية عن العاقل بـ (ما)، ومنه أيضًا قولهم: انظر إلى ما ظهر، أي شيء هو؟ [5]. وذكر خالد الأزهري [6] أن (ما) في أصلِ وَضْعِها تكونُ للعاقل وحده، والقولُ المعروفُ الأولُ.
أما إذا اختلط جنسُ مَن يعقل بما لا يعقل؛ فيجوزُ أن يُعبَّر بـ (مَن) تغليبًا للأفضل، وبـ (ما)؛ لأنها عامة في الأصل، ومِن ذلك قولُه تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض ﴾، وكذلك قولُه تعالى: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾..
وقد أشار ابنُ مالك إلى ذلك في قوله:
وَ (مَنْ) و (ما) لكُلِّ ما مضَى هُمَا كُفْآنِ واخْصُصْ (مَنْ) بِذِي عَقَل و (ما) تَعُمُّ، والأَولى بها الَّذي خَلا مِنْه وذو الإِبهامِ حَيْثُ مَثَلا وعِند الاختِلاطِ خُيرُ مَنْ نَطَقْ فِي أَنْ يَجيءَ مِنهُمَا بما اتَّفَقْ و(مَنْ) أَجِزْ في غَيْرِ مَنْ يَعقِلُ إِن شَابَههُ كَذَا إذا بِهِ قُرِنْ [7] |
وأما ما ورد في الحديث؛ وهو “ما رزقتنا”، فبعضُ الشرَّاح جعل (ما) لمن يعقل؛ لأنها بمعنى شيء[8]، والتقدير: “شيئًا رزقتنا”، وقد تكون لما لا يعقلُ مع كونها بمعنى شيء؛ لأن المعنى لا ينافي ذلك، ومنهم مَن جعلها موصولةً، وليست بمعنى شيء [9].
وبعد بيانِ ما سبق؛ يتضحُ أنَّ ابنَ الملقن قد سار على ما هو مقرَّرٌ عند النحويين، وكان هدفُه بيانَ أن (ما) هنا في الحديث شاملةٌ للدلالة على العاقل ولو باعتبارِ ما يكون، فهو هنا يفيدُ من الحكم النحوي في بيانِ ما ورد في الحديث النبوي، والله أعلم.
[1] صحيح البخاري 1/ 40، باب التسمية على كل حال وعند الوقاع.
[2] التوضيح لشرح الجامع الصحيح، 29/ 333.
[3] البيت من الطويل لمجنون ليلى في ديوانه 97، وينسب لعباس بن الأحنف في ديوانه 143، وينظر: شرح الكافية الشافية 1/ 277، شرح التصريح 1/ 155.
[4] الأصول في النحو 2/ 135.
[5] شرح الكافية الشافية 1/ 277.
[6] شرح التصريح على التوضيح 1/ 157.
[7] شرح الكافية الشافية 1/ 277.
[8] التوضيح لشرح الجامع الصحيح 4/ 78، إرشاد الساري 8/ 69.
[9] عمدة القاري 2/ 366.