ما معنى زرابي؟
خرج الولد مع أبيه بعد صلاة الجمعة، وأخذ يرسل على والده الأسئلة، السؤال تلو الآخر، والوالد مرة يجيب، ومرة يتوقف، ومرة يصيب، ومرة يخطئ في الإجابة.
عندما سأله ابنه: ما معنى “نمارق مصفوفة“؟ وما معنى “زرابي مبثوثة” في سورة الغاشية؟ ولماذا يقرأها الإمام في معظم أيام الجمعة؟
وهنا نتساءل – أيضًا – لماذا يجهل كثير منا معاني القرآن، فضلاً عن أسباب النزول، واستنباط الأحكام، وتأويل الآيات؟! بعكس ما عليه الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – والسلف الصالح، فعندما نرجع لأحد منهم، مثل: ابن مسعود وهو يقول: “ما من سورة في القرآن، إلا أعلم متى نزلت، وفيما أنزلت“، ومثله عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – الذي دعا له الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن يفقِّهه في الدين، ويعلمه التأويل، هذا في مجال تأويل وتفسير القرآن، لكنَّ المعاني في الألفاظ فهي لا تكاد تخفى عليهم إلا اليسير منها؛ لأنهم عرب تميَّزوا بالفصاحة في اللغة والبيان في معانيها، وما تميز به القرآن من جمع معان، وإيجاز عبارة، وسهولة جري على اللسان، وجمال وَقْع في الأسماع، وسرعة حفظه؛ قال الله – تعالى -: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 192 – 195]، فوصفه الله – تعالى – بأبلغ ما يُوصف به الكلام، وهو البيان، وما زالت هذه المعارف تتناقص وتضمحلّ؛ حتى أصبحت لغتنا الخالدة لغة القرآن “مكسرة” مشوبة بألفاظ غريبة ومقززة.
فما هي أسباب ذلك؟
لقد ذكر الباحثون في هذه المسألة الأسباب والحلول والاستشارات، ونذكر منها على سبيل الإيجاز لا الحصر: وفيها تشهد البشريَّة اليوم حربًا عنيفة، وسجالاً محتدمًا بين اللغات، الدول الكبرى والمتقدمة تضطلع باذلة كل غالٍ ورخيص بمهمة تعميم لغتها وثقافتها في أكثر بلد ممكن، في دول الشمال الأفريقي يتغلغل تيار الفرانكفونيَّة، وفى مصر وأسيا لا تفتأ بريطانيا وأمريكا في تعميم اللغة الإنجليزية، فهنالك معاهد ومدارس كثيرة منتشرة في المدن والقرى في الدول العربية الفقيرة، يتهافت عليها الطلاب تهافت الظمآن على المياه؛ بسبب ما تؤمِّن الإنجليزية لمتقنها من دخل كريم ومكانة اجتماعيَّة، وقد أثَّرت هذه الظاهرة سلبًا على اللغة العربية، وكثرت الشائعات حول اللغة العربية من أنها لغة مُعقَّدة، وعصيَّة على الفَهْم، ومتشعبة في قواعدها، مثل: الصرف، النحو، البيان والبديع، على عكس اللغات الأخرى التي لها قواعد يسيرة، فيقولون: إن هذا يصعِّب اللغة العربية.
ومن الأسباب – أيضًا- ما يرجع إلى عدم معرفتنا بفضل العرب على غيرهم؛ قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميَّة – رحمه الله – في كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم“: “فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم، روميهم وفارسيهم وغيرهم، وأن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسًا، وأفضلهم نسبًا، وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم لمجرد كون النبي منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله أنه أفضل نفسًا ونسبًا، وإلاَّ لزم الدور”، وقال – رحمه الله – في “مجموع الفتاوى“: “إن بني هاشم أفضلُ قريش، وقريشًا أفضلُ العرب، والعرب أفضل بني آدم”، وقال – أيضًا – في “مجموع الفتاوى“: “فغلب على العرب القوة العقليَّة النطقيَّة، واشتق اسمُها من وصفها، فقيل: عرب من الإعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خصوصًا القوة النطقيَّة؛ ولهذا كانت العرب أفضل الأمم”.
وقال أبو حاتم الرازي صاحب كتاب “الزينة في الكلمات الإسلامية” في فضل لغة العرب: إن لغات البشر كثيرة لا يمكن حصرها، وإن أفضلها أربع: العربيَّة، والعبرانيَّة، والسريانيَّة، والفارسيَّة، وإن أفضل هذه الأربع العربيَّة.
ولقد أثنى عليها المفكرون الغربيون، قال المستشرق الألماني (يوهان فك): “إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسًا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربيَّة والإسلاميَّة رمزًا لغويًّا لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربيَّة الفُصْحَى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل، فستحتفظ العربيَّة بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنيَّة الإسلامية”.
وقال الأستاذ (مرجليوت) الأستاذ بجامعة (أوكسفورد): “اللغة العربية لا تزال حَيَّة حياةً حقيقية، وهى واحدة من ثلاث لغات استولت على سكان المعمورة استيلاءً لم يحصل عليه غيرها مع الإنجليزية والإسبانية، رغم أن زمان حدوثهما معروف، ولا يزيد سنهما على قرون معدودة، أما اللغة العربيَّة فابتداؤها أقدم من كل تاريخ، فلغة العرب هي أفصح اللغات، وأكملها، وأتمها، وأعذبها، وأبينها”.
ويرجع الضعف – أيضًا – إلى عدم مناسبة الكتب المدرسيَّة لمستوى التلاميذ، أو لطرق التدريس غير المناسبة، أو قصور في إعداد المعلم؛ لتوجيه الطلاب إلى ضرورة التقيُّد بالنطق داخل الرواق المدرسي باللغة العربية الفصحى، كذلك استخدام أفراد الأسرة اللهجات العامية في الحياة اليوميَّة، وعدم تشجيعها للأبناء على استخدام الفصحى، واعتقاد البعض أن اللغة العربيَّة غير قادرة على استيعاب المعاني والمصطلحات العلميَّة الحديثة.
ولقد أوصى الباحثون بأن علاج المشكلة يتمُّ في التركيز على المادة العلميَّة، وأساليب التدريس، وإعداد المدرس في المدارس، والمطالبة بزيادة عدد حصص اللغة العربيَّة في المنهج الدراسي، والاهتمام الشديد بالمرحلة الأولى في إعداد الناشئة وتهيئتهم؛ لتعلُّم وممارسة مهارات اللغة العربية، وأن تكون المواد المقررة للطالب مناسبةً له حسب المرحلة العمريَّة، ووجوب جعل اللغة العربيَّة الفصحى اللغة الوحيدة المستعملة داخل الصفوف الدراسيَّة، مهما كانت نوعية المادة التي تُدرس، ونشر المكتبات العامة في كل الأحياء والأماكن العامة، وتشجيع القراءة بالجوائز والمكافآت، وتشجيع الكتابات الأدبيَّة الفصيحة بكافة أنواعها، وإبعاد العمالة الأجنبية من خدم وسائقين وغيرهم ذكورًا أو إناثًا عن الأطفال؛ لتأثرهم الكبير بهم من ناحية اللغة، فضلا ً عن الناحية العقديَّة، وهي الأهم.
وللاستزادة في هذا الموضوع نوصي بالرجوع إلى المكتبات، وقراءة ما فيها من كتب متخصصة تُعْنى بهذا الأمر الهام، فلنبحث ولا نغفل عن هذا الموضوع، ونجعل له وافر الحظِّ من الاهتمام والعمل.