لغتنا العربية وأهميتها للشريعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ العربية هي اللغة التي اختارها الله لهذا الدين، قال تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، وغيرها من الآيات التي ذكرها سبحانه والتي تدل على الارتباط الوثيق بين القرآن واللغة العربية، السبب الذي دعاني للكتابة عن ذلك، وأن أذكر: أهمية اللغة العربية وفضلها، وحكم تعلمها من قِبَلِ المسلمين؛ الأفراد عامة، وطلبة العلم خاصة، ومدى ارتباط علوم اللغة العربية بدراسة علوم الشريعة؛ حيث إن اللغة العربية تعتبر من الأدوات الرئيسة في فهم نصوص وأحكام الشريعة، ولأن القرآن الكريم هو المصدر الأول الذي تفرعت منه العلومُ الشرعية من تفسير وفقه وقراءات وأصول، وارتبطت به بدايات تأسيس علوم اللغة العربية من نحو وبلاغة وصرف، فقد حرص علماء السلف على دراسة اللغة العربية باعتبارها اللغة الصحيحة الفصيحة التي تتضمن عقائد وأحكام القرآن الكريم، الأمر الذي جعل علم العربية جزءًا من العلم الشرعي.
قال ابنُ كثيرٍ: “لأنَّ لغة العرب أفصحُ اللغات، وأَبْيَنُها، وأَوْسَعُها، وأكثرُها تَأْدِيةً للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أُنزل أشرفُ الكتب بأشرفِ اللغات“[1].
وقال أبو بكر الشَّنْتَرِيني في مقدمة كتابه (تَنْبِيه الألباب)[2]: فإنَّ الواجبَ على كل مَن عَرَف أنه مخاطَبٌ بالتَّنزيل، ومأمورٌ بفَهم كلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم، غير معذور بالجهل بمعناهما، ولا مُسَامَحٍ في تَرْك العمل بمقتضاهما – أن يَتقدَّمَ فيَتعلَّم اللسان الذي أَنزل اللهُ به القرآنَ؛ حتى يَفهم كلامَ الله، وحديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذْ لا سبيل لفَهمِهما دون معرفة الإعراب، وتمييزِ الخطأ من الصواب.
أهمية اللغة العربية:
يعتبر الهدف الأساسي من وجود علوم اللغة العربية هو الحفاظ على النص القرآني، والحرص على صيانته من كل تحريف أو تبديل، وعصمة ألسنة الناس من اللحن والخطأ، كما أن وجودها مهمٌّ لغير العرب من المسلمين لتعلُّم القرآن وفهم معانيه ومعرفة أحكام الشريعة، وقد بيَّن ذلك ابن جني على سبيل المثال وهو يعرِّف النحو حيث قال: علمٌ به يلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة، وإن شذ بعضهم عنها رُدَّ به إليها[3]، وقد صرح الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حقَّ الفهم إلا من فهم اللغة حقَّ الفهم؛ لأنهما سيان في النمط[4].
وتتكون علوم اللغة العربية من اثني عشر فنًّا، مجموعة في قول الناظم:
نحوٌ وصرفٌ عَروضٌ ثمَّ قافيةٌ وبعدَها لُغَةٌ قَرْضٌ وإنْشَاءُ خطٌّ بَيانُ معانٍ معْ مُحاضَرةٍ والاشتقاقُ لها الآدابُ أَسماءُ[5] |
وهذه الفنون قد ساهمت في إيصال اللغة العربية بشكل أسهل وميسر، وساعدت على تقريب العلم الشرعيِّ لطلابه، وتتميز اللغة العربية أيضًا عن غيرها بأنها لغة الدين الإسلامي، فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية؛ قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
ولقد أدرك السلف رضوان الله عليهم أهمية اللغة العربية وأنها وسيلة مهمة لفهم كلام الله، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول عنه زوجُ ابنته: “أقام الشافعي علمَ العربية وأيامَ الناس عشرين سنة، فقلنا له في هذا، فقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة للفقه”[6]، وعُرف عنه مقولته الشهيرة في أهمية اللغة العربية وقدر من يعرفها: “أصحاب ُالعربية جِنُّ الإنس، يُبصرون ما لم يبصرْ غيرُهم”[7]، وقال أيضًا: “من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم”[8].
وقال الزمخشري رحمه الله: فليس هناك علم من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّنٌ لا يُدفع، ومكشوف لا يتقنع، وكذلك الكلام في معظم أبواب أصول الفقه مبني على علم الإعراب. اهـ[9].
وقال مالك بن أنس رحمه الله: “لو صرت من الفهم في غاية، ومن العلم في نهاية؛ لأن ذلك يرجع إلى أصلين: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى الرسوخ فيهما إلا بمعرفة اللسان العربي، فلو أن الرجل يكون عالمًا بسائر العلوم، جاهلًا به، لكان كالساري، وليس له ضياء” اهـ[10].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه” اهـ[11].
وقال ابن خلدون رحمه الله في الفصل الخامس والأربعين من مقدمته في علوم اللسان العربي: “أركانه أربعة، وهي: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة؛ إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقَلَتُها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة” اهـ[12].
وقال السيوطي رحمه الله تعالى في شرح ألفيته: “وقد اتفق العلماء على أن النحو يحتاج إليه في كل فن من فنون العلم، ولا سيما التفسير والحديث” اهـ[13].
فهذه النقولات عن علماء الأمة من أهل الشريعة واللغة وعلم الاجتماع عبرت عن اتفاقهم على أهمية اللغة العربية وتعلمها للوصول إلى فهم القرآن ومعرفة أحكامه.
سبب نشأة علوم اللغة العربية:
كانت سبب نشأة علوم اللغة العربية ومبتدؤها في ظهور علم النحو، وذلك في الحادثة التي ظهر فيها اللحن في قراءة القرآن في قصة الأعرابي الذي استقرأ الناس فأقرأه رجل الآية التالية: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] قرأها بكسر اللام من (رسوله)، فقال الأعرابي: إن يكن الله قد برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلَغ عمرَ بن الخطاب ذلك فدعاه وقال له: ليس هكذا يا أعرابي، بل هي (ورسولُه)، فقال الأعرابي: أنا أبرأ ممن برئ الله ورسولُه منهم، فأمر عمر أن لا يُقرئ القرآنَ إلا عالمٌ بالعربية[14].
ويرجع سبب ذلك أيضًا إلى ضعف اللغة العربية في العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص، فتعلُّمُ اللغة العربية في أغلب الدول العربية والإسلامية ليس بالأهمية مقارنة بغيره من العلوم التطبيقية الأخرى، وفي حين تعليمها للطلاب يكون ذلك بدون ربطها بمصادرها الرئيسة كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وعدم بروز عنصر التشويق بها، وبيان أهميتها في مراحل الحياة في المخاطبة والحوارات وبيان أنها رمز وثقافة للشعوب، وكذلك لجوء القطاعات التعليمية إلى تعلم اللغات الأجنبية في المدارس على حساب اللغة العربية، ونتيجة لتفشي العامية في المجتمع العربي عبر وسائل الإعلام وما يصدر منها على كافة الأصعدة من برامج إخبارية وحوارية ومسلسلات، وما ينتج عن ذلك من هدم لفهم اللغة العربية واللسان العربي.
وإن وجود هذا الضعف في اللغة العربية في العالم واستمراره دون علاج، سوف يؤدي إلى فقدان الهُويَّة العربية، وانقطاع الرابطة بين الدول العربية، إن لم يتعامل معه أصحاب القرار في مؤسسات التعليم بشكل مناسب؛ لمواجهة هذا الضعف والتغلب عليه، ورفع مستوى تدريس اللغة العربية لدى الطلاب في التعليم وفي مجالات الحياة العامة.
فضل اللغة العربية وحكم تعلمها:
يكفي باللغة العربية كونها لغة القرآن الكريم “كلام الله عز وجل الذي أنزله على نبيِّه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم”، المحفوظ إلى يوم الدين {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، والذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
ووصفها شاعر النيل حافظ إبراهيم في أبيات:
وَسِعْتُ كتابَ الله لفظًا وغايةً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظَاتِ فكيفَ أضِيقُ اليومَ عن وصْفِ آلةٍ وتنسيقِ أسماءٍ لمُخترعاتِ أنا البَحْر في أحشَائه الدُّرُّ كامِنٌ فهلْ سَألوا الغوَّاصَ عن صَدَفاتي |
كذلك يلخص هذا الفضلَ قولُ الثعالبي عن اللغة العربية أبلغ تعبير فيقول: “من أحَبَّ الله تعالى، أحبَّ رسوله محمدًا، ومن أحب الرسول العربيَّ أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عُني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمدًا خير الرسل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان، لكفى بها فضلًا يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره”[15].
وفي حكم تعلّمها يقول الرازي: “اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرضُ كفاية؛ لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبةٌ بالإجماع، ومعرفة الأحكام بدون معرفة أدلتها مستحيل، فلا بد من معرفة أدلتها، والأدلةُ راجعة إلى الكتاب والسنة، وهما واردان بلغة العرب ونحوِهم وتصريفهم، فإذًا توقف العلم بالأحكام والأدلة، ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة اللغة والنحو والتصريف، وما يتوقف على الواجب المطلق، وهو مقدور المكلَّف، فهو واجب”[16].
صور التكامل بين اللغة والشريعة:
قال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في صناعة النحو، مشيرًا إلى أصناف العلوم من حيث كونها أصلًا أو تابعة للأصل: “إن العلوم صنفان: علوم مقصودة لنفسها، وعلوم مسددة للإنسان في تعلم العلوم المقصودة في نفسها”[17].
فمنها تُعتبر علوم اللغة العربية من علوم الآلة التي يُستعان بها على فهم علوم الشريعة؛ لذلك يأتي التكامل بين اللغة والشريعة في صور تبين أن بعضها يستلزم البعض الآخر، ومنها تلك المناظرات العلمية التي كانت تجري بين علماء اللغة وعلماء الشريعة كما جرى بين الفراء ومحمد بن الحسن القاضي، فقد حُكي عن الفراء النحوي أنه قال: “من برع في علم واحد، سهل عليه كل علم”، فقال له محمد بن الحسن القاضي – وكان حاضرًا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء -: فأنت قد برعت في عِلمك، فخذ مسألةً أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته، ثم سجد لسهوِه فسَها في سجوده أيضًا؟
قال الفراء: لا شيء عليه.
قال: وكيف؟
قال: لأن التصغير عندنا – أي: النحاة – لا يُصغَّر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يُسجَد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يُجبَر، كما أن التصغير لا يُصغَّر.
فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدْن مثلك[18].
وأخرى جرت بين الكسائي النحوي وأبي يوسف الفقيه، فقد روى الزبيدي رحمه الله مناظرة بين عالم النحو الكسائي وأبي يوسف الفقيه الحنفي، قال: “دخل أبو يوسف على الرشيد – والكسائي يمازحه – فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك، فقال: يا أبا يوسف، إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي، فأقبل الكسائي على أبي يوسف فقال: يا أبا يوسف، هل لك في مسألة؟ قال: نحو أم فقه؟ قال: بل فقه، فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تُلقي على أبي يوسف فقهًا! قال: نعم، قال: يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار؟ قال: إن دخلَت الدار طلقتْ. قال: أخطأت يا أبا يوسف، فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال: “أن” فقد وجب الفعل، وإن قال: “إن” فلم يجب ولم يقع الطلاق. قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي[19].
وكذلك تأتي في صورة المؤلفات التي ألفها علماء اللغة، كما صنف أبو البركات الأنباري كتابه في العربية مرتبًا إياه على مسائل فقهية خلافية بين الشافعي وأبي حنيفة[20].
وألف جلال الدين السيوطي كتاب الأشباه والنظائر في النحو، سالكًا فيه مسلك الأشباه والنظائر في الفقه؛ يقول السيوطي في الأشباه والنظائر[21]: “واعلم أن السبب الحامل لي على تأليف ذلك الكتاب أني قصدت أن أسلك بالعربية سبيل الفقه فيما صنفه المتأخرون فيه وألفوه من كتب الأشباه والنظائر”، وألف السيوطي كتاب المزهر في علوم اللغة وأنواعها محاكيًا به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، وألف السيوطي أيضًا الاقتراح في أصول النحو على نظير الاقتراح في أصول الفقه، وما كان يروى عن أبي عمرو الجرمي، شيخ المبرد، من أنه كان يفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه، وكان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث.
يتبين مما سبق مدى التكامل بين العلوم اللغوية والشرعية، وإفادتها عالم الشريعة بأدوات لسانية تمكنه من استنباط الأحكام الشرعية، والقواعد الفقهية.
علاقة اللغة العربية بعلم التفسير:
كان عمل مفسِّري السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم بالأخذ بلغة العرب في التفسير إجماعًا فعليًّا منهم، وهذا العمل حجة في صحة الاستدلال بشيء من كلام العرب: نثره وشعره[22]، كما أن التفسير بالرأي، وهو أحد أنواع التفسير، يعتمد على المدلول اللغوي للنصوص كما استعملها العرب عند نزول القرآن الكريم.
علم التفسير من العلوم الجامعة لعدد من العلوم، من لغة وبلاغة، وتصريف، وعلم القراءات، وعلم الدلالة، وعلم أصول الفقه…بحيث اجتمع في هذا العلم (علم التفسير) ما تفرَّق في غيره، بحيث يضبح المفسِّر عالمًا باللغة وبالأصول ويعملون بذلك في تفسيرهم لكتاب الله، وأغلب المفسرين كانوا علماء لغة وبلاغة، وعلماء أصول؛ مثل الإمام ابن سلام ت276ه صاحب كتاب التصاريف، وأبي عبيدة معمر بن المثنى ت210ه صاحب كتاب مجاز القرآن، والإمام الفراء صاحب معاني القرآن، والإمام الراغب الأصفهاني صاحب كتاب المفردات، والإمام الزمخشري، والإمام السمين الحلبي، والإمام الفيروزابادي، والإمام أبي حيان الأندلسي والإمام القرطبي، والإمام جلال الدين السيوطي ت911ه [23].
ووجود مؤلفات عديدة تعتمد التفسير اللغوي للقرآن الكريم، منها على سبيل المثال لا الحصر: البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، والكشاف لمحمود الزمخشري، وروح المعاني لشهاب الدين الألوسي، والتفسير البياني للقرآن الكريم لعائشة عبدالرحمن.
ومن دلالة الترابط والأهمية بين علم اللغة العربية والتفسير نورد كمثال ما جاء في الآية في سورة المائدة: إذ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فالذي لا علم له بالنحو قد يجرُّ كلمة {أَرْجُلَكُمْ} ظنًّا منه أنها معطوفة على {رُءُوسِكُمْ} المجرورة، ولكن الصواب أنها منصوبة بالعطف على الأيدي والوجوه، فهي بذلك تأخذ حكم الغسل لا المسح، والله أعلم[24].
علاقة اللغة بعلم أصول الفقه:
تأتي هذه العلاقة حيث تتضمن المصنفات الأصولية مجموعة من البحوث اللغوية، ومن أولها كتاب الرسالة للإمام الشافعي الذي صنفه بأسلوب لغوي فصيح، وهو كما ذكرت الذي قضى عشرين عامًا في دراسة العربية، وذكر في مقدمته: “وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب، أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها”[25].
ومن مظاهر هذه العلاقة اهتمام علماء الأصول باللغة اهتمامًا كبيرًا، فقد أدركوا أهميتها وطبيعتها في إدراك القصد من نصوص الكتاب والسنة.
ومن ذلك أيضًا ما يتميز به الخطاب الأصولي مع اللغة من قيامه على مجموعة من الثنائيات مثل: الحقيقة والمجاز، والواضح والخفي، والمقيد والمهمل، والمعنى الأصلي والمعنى التبعي، والكلي والجزئي، والمنطوق والمفهوم، والصريح والمضمر، ووجود التداخل في بعض المصطلحات بين علم أصول الفقه وعلم اللغة العربية، فإذا كان علم الأصول موضوعه “علم أدلة الفقه”، وقد قسم الفقهاء الحكم الشرعي إلى واجب وحرام، ومندوب ومكروه، ومباح ووضعي[26]، فكذلك ذهب النحويون في تقسيمهم للحكم النحوي، فهو عندهم واجب، وممنوع، وحسن، وقبيح، وخلاف الأولى، وجائز على السواء[27]، وإذا كانت أدلة الفقه الرئيسة تعتمد على النقل “الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فإن أدلة النحو الأساسية تنحصر أيضًا في النقل والإجماع والقياس، وعند بعضهم استصحاب الحال”[28].
علاقة علم الحديث وعلوم اللغة العربية:
يعتبر الإسناد من خصائص علم الحديث النبوي الشريف، ومما تتميز به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم في مسألة توثيق العلم والتحقق من ناقله، وأهمية موضوع الإسناد؛ قال عبدالله بن المبارك رحمه الله: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء”[29]، ولكن الإسناد لم يقتصر على الحديث الشريف فقط، بل ظهر في الرواية اللغوية. فقد ذكر ابن الأنباري في (لمع الأدلة)[30] النقل، وذكر أنه ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد، كما تكلم في شرط النقل المتواتر، وشرط نقل الآحاد، وفي قبول المرسل والمجهول، كما تكلم السيوطي في المزهر عن “معرفة المتواتر والآحاد، ومعرفة المرسل والمنقطع، ومعرفة من تُقبل روايته ومن تُرَدُّ، كذلك تكلم عن طرُق التحمل والأخذ، من سماع ووجادة، ومناولة وإجازة، ومكاتبة ونحوها”، فالإسناد منهج المُحدِّثين في توثيق الرواية وتحقيق الأحاديث النبوية، واعتمادُه من طرف اللغويين لضبط اللغة وتحقيقها يبرز العلاقة بين علوم الحديث وعلوم اللغة العربية.
وأيضًا مما نبَّه عليه علماء الحديث في ضرورة التزام اللغة العربية في مجال علم الحديث وكافة تطبيقاته:
قال العراقي في ألفية مصطلح الحديث[31]:
ولْيَحذَرِ اللَّحَّانَ والمُصَحِّفَا عَلَى حَديثِه بأنْ يُحَرِّفا فَيَدْخُلَا في قَولِه: مَنْ كَذَبَا فحقٌّ النَّحْوُ علَى مَن طَلَبا |
ومما ذُكر أيضًا أن توجُّهَ سيبويه إلى علم النحو هو للحنه في الحديث، فقد ذكر السخاوي في “شرحه على ألفية العراقي في مصطلح الحديث” عن أبي سلمة حماد بن سلمة أنه قال لإنسان: “إن لحنت في حديثي فقد كذبت عليَّ، فإني لا ألحن، وصدق رحمه الله؛ فإنه كان مقدمًا في ذلك بحيث إن سيبويه شكا إلى الخليل بن أحمد أنه سأله عن حديث هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعُف بضم العين – على لغة ضعيفة – فانتهره وقال له: أخطأت إنما هو رعَفَ؛ يعني بفتحها، فقال له الخليل: صدق، أتلقى بهذا الكلام أبا سلَمة؟ وهو مما ذكر في سبب تعلم سيبويه العربية”[32].
وتأتي اللغة في أهميتها للحديث النبوي أهمية العلم باللغة العربية في فهم الحديث وشرح نصوصه وبيان معانيه، وذلك أن النبي صلَّى الله عليه وسلم نشأ في بلاد عربية تتميز بالفصاحة والبيان، فضلًا عمَّا حباه الله به من مزايا الوحي المنزل، فكلام رسول الله فيه ما في لغة العرب من الأساليب البديعة، واستعمال المجاز، وغير ذلك، فلا يمكن فهمُ الحديث النبوي، واستنباط الأحكام منه، إلا لمن كان على دراية تامَّة بالعربية وعلومها، وكذلك تأكيد العلماء على طالب الحديث أن يبدأ بتعلُّم اللغة قبل الحديث، فيما نُقِلَ في ذلك منها: “قول حاجب بن سليمان: سمِعتُ وكيعًا يقول: أتيت الأعمش أسمع منه الحديث، وكنت ربما لحنت، فقال لي: يا أبا سفيان، تركت ما هو أولى بك من الحديث، فقلت: يا أبا محمد، وأي شيء أولى من الحديث؟! قال: النحو، فأملى عليَّ الأعمش النحو، ثم أملى عليَّ الحديث.
وروى الخطيب عن شعبة، قال: من طلب الحديث ولم يتعلَّم العربية، كمثل رجل عليه برنس وليس عليه رأس”[33].
وجاء في الكفاية[34]: قال الشافعي رحمه الله عنه حاكيًا عن سائل سأله: قد أراك تقبل شهادة من لا تقبل حديثه! فقلت: لكبر أمر الحديث، وموقعه من المسلمين، ولمعنًى بَيِّن، قال: وما هو؟ قلت: تكون اللفظة تُترك من الحديث فيختل معناه، أو ينطق بها بغير لفظ المحدث، والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث، فيحيل معناه، فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى، وكان غير عاقل للحديث، فلم يُقبل حديثه؛ إذ كان يحمل ما لا يعقل إن كان ممَّن لا يُؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه، وهو لا يعقل المعنى، قال: أفيكون عدلًا غير مقبول الحديث؟ قلت: نعم، إذا كان كما وصفت، كان هذا موضع ظِنَّةٍ بيِّنة يُردُّ بها حديثه.
ومن أبرز صور الارتباط بين علوم الحديث واللغة العربية: أنهم جعلوا من أنواع علوم الحديث ما عُرف باسم “معرفة غريب الحديث”، وهو يهتمُّ ببيان معاني الألفاظ الغريبة، وقد صنَّفُوا في ذلك مُصنفات، من أشهرها: النهاية في غريب الحديث؛ لابن الأثير، وغريب الحديث؛ لأبي عبيد، ومثله لابن قتيبة.
مما سبق يتبيَّن للقارئ أن العناية باللغة العربية عناية بالشريعة الإسلامية، وأن من يريد فهم القرآن وعلومه فهو بحاجة إلى أن يُتقن علوم اللغة العربية، وأن لا سبيل إلى معرفة أحكام الشرع إلا بمعرفة اللغة العربية وعلومها، وأن اللغة العربية تتميز بخصائص انفردت بها عن غيرها من اللغات في العالم، فهي لغة القرآن الكريم، تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ اللغة العربية بحفظه للقرآن الكريم، وتبيَّن أيضًا اهتمام سلف الأمة من العلماء والخلفاء بدراسة اللغة العربية وآدابها، ووضوح ذلك في أقسام العلوم الشرعية من تفسير وحديث وأصول.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: شبكة الألوكة
[1] تفسير ابن كثير (4/ 313) المحقق: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت
[2] تنبيه الألباب، أبو بكر محمد الشنتريني، تاريخ النشر: 01/ 01/ 1995.
[3] الخصائص لابن جني ( 1/ 35).
[4] الموافقات للشاطبي (5/ 53).
[5] حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 24).
[6] الفقيه والمتفقه؛ الخطيب البغدادي: 2/ 41.
[7] آداب الشافعي ومناقبه؛ الرازي: 150.
[8] شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي (231).
[9] المفصل في علم الإعراب، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (18).
[10] روضة الإعلام، لابن الأزرق المالكي (1/ 311-312).
[11] الإيمان، لابن تيمية (111).
[12] مقدمة ابن خلدون (1 / 753-764).
[13] المطالع السعيدة في شرح الفريدة 1/ 74.
[14] تفسير القرطبي (1/ 24).
[15] فقه اللغة وسر العربية، للثعالبي (15).
[16] المزهر في علوم اللغة وأنواعها (136).
[17] الضروري في صناعة النحو، لابن رشد الحفيد (99).
[18] تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (14 / 151 – 152).
[19] طبقات النحويين واللغويين، للزبيدي (ص 127).
[20] أسرار العربية، انظر على سبيل المثال: الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، المسألة 5.
[21] الأشباه والنظائر، للسيوطي (1/ 9).
[22] التفسير اللغوي للقرآن الكريم، لمساعد الطيار (154).
[23] آل جعفر، مساعد مسلم والسرحان، محيي هلال – مناهج المفسرين مساعد آل جعفر ومحيي هلال (46).
[24] “أهمية الشاهد النحوي في تفسير القرآن الكريم تفسير (جامع البيان لابن جرير الطبري) نموذجًا”، مجلة الآداب واللغات في جامعة قاصدي مرياح، العدد 6، صفحة 210. لخضر رويجي.
[25] الرسالة، للإمام الشافعي (50).
[26] ينظر: الحكم الشرعي عند الأصوليين؛ لحسين حامد حسان، دار النهضة العربية، القاهرة، 1972م (ص65).
[27] ينظر: الاقتراح في علم أصول النحو، للسيوطي (ص 10-11).
[28] لمع الأدلة في أصول النحو، لابن الأنباري، 1956م، (80).
[29] أخرجه مسلم في “مقدمة صحيحه” (1/ 15).
[30] لمع الأدلة في أصول النحو، لابن الأنباري (80).
[31] فتح المغيث شرح ألفية الحديث، لشمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي (2/ 257).
[32] فتح المغيث شرح ألفية الحديث (2/ 225).
[33] الجامع في آداب الشيخ والسامع، للخطيب البغدادي (2/ 26).
[34] الكفاية للخطيب، البغدادي (1/ 389).