المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين
مسألة: [حد الاسم]
اختلفت عبارات النحويين في حدّ الاسم، وسيبويه لم يصرح له بحدِّ:
فقالَ بعضُهم: الاسم ما استحقّ الإعراب في أول وضعه.
وقالَ آخرون: ما استحقَّ التنوين في أصلِ وضعه.
وقالَ آخرون: حدّ الاسم ما سَما بِمُسَمَّاةُ، فأوضحه وكشف معناه.
وقالَ آخرون: الاسمُ كلُّ لفظٍ دلّ على معنى مُفرد في نَفسِهِ.
وقالَ آخرون: هو كلُّ لفظٍ دلّ على معنى في نَفْسِهِ ولم يدل على زمان ذلك المعنى.
وقالَ ابنُ السّراج: هو كلّ لفظٍ دلَّ على معنى في نفسِه غير مقترنٍ بزمانٍ مُحصّل، وزادَ بعضهُم في هذا الحدِّ دلالةَ الوضعِ.
وقبل الخوض في الصّحيح في هذه العبارات نُبيّن حدَّ الحدّ، والعبارات الصحيحة فيه مُختلفة الألفاظ مُتفقة المعاني.
فمنها اللَّفظُ على كمالِ ماهيَّة الشَّيءِ، وهذا حدُّ صَحيحُ؛ لأنَّ الحدَّ هو الكاشفُ عن حَقيقةِ المَحدودِ، ويُرادُ بالماهية ما يُقالُ في جوابِ ما هو؟ واحتَرزوا بقولهم: ((كمالُ الماهِيّة)) من أنّ بعضَ ما يدلُّ على الحقيقة قد يَحصلُ من طريقِ الملازمةِ لا من طريقِ المطابقة، مثالُه: أن تَقولَ: حدُّ الإنسان هو الناطقُ فلفظُ الحدّ يكشف عن حقيقة النُّطق، ولا يَدُلّ على جنس المحدود، وإن كان لا ناطق إلاّ الإنسان، ولكن ذلك معلوم من جهة الملازمة، لا من جهة دلالة اللَّفظ، ومثالُه من النَّحو قولهم: المَصدرُ يدلُّ على زمانٍ مَجهولٍ، ولَيس كذلك، فإن لفظَ المَصدَرِ لا يَدُلُّ على زمانٍ البَتَّة وإنَّما الزّمان من ملازماته، فلا يَدخلُ في حدّه، ولو دَخَل ذلك في الحدّ لوجَب أن يُقالَ: الرَّجل والفَرسُ يدلان على الزَّمان والمكان، إذْ يُتَصَوَّر انفكاكه عنهما.
ولكنْ لمّا لم يَكُن اللَّفظُ دالاً عليهما يَدخلا في حدّه، وقالَ قومّ: حدُّ الحدّ: هو عبارةُ عن جُملة ما فرّقه التَّفصيلُ.
وقالَ آخرون: حدُّ الحدِّ: ((ما اطّرد وانعكس))، وهذا صحيحُ؛ لأنَّ الحدَّ كاشفُ عن حقيقة الشَّيءِ فاطّرادُهُ يُثبِتُ حقيقتَه أينما وُجِدَتْ وانعكاسُهُ يَنفيها حَيثُما فُقِدت وهذا هو التَّحقيقُ، بخلاف العلامة، فإِنّ العلامة تَطّردُ ولا تنعكسُ، ألا تَرى أنّ كلَّ اسمٍ دخلَ عليه حرفُ الجرّ والتَّنوين وما أشبههما أَنَّى وُجِدَ حُكِمَ بكون اللّفظ اسمًا، ولا ينفي كونه اسمًا بامتناع حرف الجرّ، ولا بامتناع التَّنوين ونحوهما؛ وإذْ قد بانت حقيقةُ الحدّ فنشرعُ في تحقيق ما ذكر من الحُدود وإفساد الفاسد منها.
أما قولهم: الاسمُ كلُّ لفظٍ دلَّ على معنى مفردٍ في نفسه، فحدُّ صحيح إذ الحدُّ ما جمع الجنس والفصل واستوعبه جنسُ المحدود، وهو كذلك هاهُنا، ألا ترى أنّ الفعل يدلُّ على معنيين حدث وزمان، ((وأمس)) وما أشبهه يدلُّ على الزَّمان وحده، فكان الأول فعلاً والثاني اسمًا، والحرفُ لا يدلُّ على معنى في نفسِهِ، فقد تَحقّق فيما ذكرناه الجنس، والفصل، والاستيعاب، وأمَّا قولُ ابنِ السّراج فصحيحُ أيضًا، فإنّ الاسم يدل على معنى في نفسِهِ، فيفه احترازُ من الحرف وقوله ((غير مقترن بزمانٍ محصّل)) يخرج منه الفعل فإنه يدلُّ على الزمان المقترن به، وأما المَصادر فلا دلالة لها على الزمان، المَجهول ولا المُعَيّن على ما ذكرنا، ومن قالَ منهم: يدلُّ على الزَّمان المجهول فقد احترز عنه بقوله ((مُحَصّل)) فإن المصدر لا يدلُّ على زمان معيّنٍ، وأمَّا من زاد فيه ((دلالة الوضع)) فإنّه قَصَدَ بذلك دفع النَّقض بقولهم: ((أتيتكُ مَقدم الحاجّ)) و ((خفوق النَّجم)) وأتت الناقة على منتَجِها فإن هذه مَصادر، وقد دلَّت على زمانٍ محصّلٍ، فعندَ ذلك تخرج عن الحدِّ، وإذا قالَ دلالة الوَضع لم يَنتقض الحدّ بها، لأنها دالةُ على الزَّمان لا من طريقِ الوضعِ، وذلك أن مَقدم الحاجّ يتفقُ في أزمنَةٍ معلومة بينَ النّاس، لا أنّها معلومةُ من لفظِ المَقدم، والدّليلُ على ذلك أنّك لو قلتَ: أتيتُكَ وقت مقدم الحاج صحّ الكلامُ، وظهرَ فيه ما كان مقدّرًا قبله، والتّحقيقُ فيه أن الحُدود تكشف عن حقيقة الشيء الموضوع أولاً، فإذا جاء منها شيءُ على خلاف ذلك لعارضٍ لم ينتقص الحد به وسَيَاتي نظائر ذلك فيما يمر بك من المسائل.
فأمَّا من قال: هو ما استحق الإعرابُ في أولِ وضعِهِ، أو ما استحقَّ التَّنوين، فكلامُ ساقطُ جدّاً وذلك أنّ استحقاق الشيءٍ لحكمٍ ينبغي أن يَسبِقَ العلم بحقيقته، حتى يرتب عليه الحُكْمُ، ألا ترى أنّه لو قالَ في لفظة ((ضَرَبَ)) هذا الاسم لأنه يستحق الإعراب في أولِ وضعه لاحتَجتَ أن تُبيّنَ أنه ليس باسمٍ، ولا يُعترض في ذلك بالإعرابِ وعدمه، ولو قال قائلُ: أنا أعربه أو أحكم باستحقاقه الإعراب؟ لقيلَ له: ما الدَّليلُ على ذلك؟ فقال: لأنّه اسمُ فيقال له: ما الدّليل على أنه اسم؟ فإن قال بعدَ ذلك: لأنّه يستحق الإعراب أدى إلى الدَّور؛ لأنه لا يثبتُ كونه اسمًا إلا باستحقاق الإِعراب، ولا يَستحق الإِعراب إلا بكونِهِ اسمًا، وهكذا سبيلُ التّنوين وغيره.
وأمَّا قول الآخر ((ما سَما بِسُمّاه)) فحدُّ مدخولُ أيضًا؛ وذلك أنَّه أرادَ ما سمّي مُسَمَّاه، ولهذا قال: فأوضحه، فجعلَ في الحدِّ لفظَ المَحدودِ، وإذا كُنَّا لا نَعلمُ معنى الاسم فكيفَ يُجعل فيما يُوضحه لفظًا مشتَقًا منه؟ وذلك أنّ الاشتقاق يَستدعي فهم المُشتق منه أولاً، ثم يؤخذ منه لفظ آخر يدلُ على معنى زائد، قالَ عبدُ القاهر: في ((شرح جملة)): حدّ الاسم: ما جازَ الإخبارُ عنه قال: والدّليلُ على ذلك من وجهين:
أحدهما: أنه مُطّرد ومُنعكس، وهذا إمارة صحّة الحد.
والثاني: أنّ الفعلَ لا يصحُّ الإخبار عنه، والحرفُ لا حظَّ له في الإخبار، فعنى أن يكون الاسمُ هو المخبر عنه، إذ لا يجوز أن تخلو الكلمة من إسنادِ الخبرِ إليها، [كان] الفعلُ والحرفُ والاسمُ لا يُسند إليه خبر ارتفعَ الأخبارُ عن جملةِ الكلامِ، والدَّليلُ على أنه ليس بحدٍّ وإنّما هو علامةُ، وقد اختارَ ذلك عبد القاهر في ((شرح الإِيضاح)) أنَّ هذا اللّفظ يطرد ولا ينعكس. والدَّليل عليه قولك ((إذ)) و ((إذا)) و ((أيّان)) و ((أَين)) وغير ذلك، وأنها أسماء ولا يصحّ الإخبار عنها، فعندَ ذلك يَبطل كونها حدّاً.
والوَجهُ الثّالِثُ: أنَّ قولَكَ: ما جازَ الإخبار عنه لا يُنبئ عن حَقيقةِ وَضعه، وإنّما هو من أحكامِه، ولذلك لو ادَّعى مُدَّعٍ أنّ لفظةُ ((ضَرَبَ)) يصحُّ الإخبار عنها بأن يقول: ضَرَبَ اشتدّ كما تقول: الضَّربُ مشتدّ، لم يصح معارضته بالمنع المُجرَّدِ حتّى يُبيّن وجه الامتناع، والحدُّ لا يَحتاجُ إلى دليلٍ يُقام عليه، لأنَّه لفظُ موضوعُ على المَعنى، ودلالةُ الأَلفاظِ على المَعاني لا تَثُبتُ بالمناسبة والقياس.
فإن قيلَ: ((إذ)) و ((إذا)) ونحوهما يَصحُّ الإخبارُ عنهما من حيثُ إِنَّهما أوقاتُ وأمكنةُ وكلاهما يَصحُ الإخبار عنه وإنما عَرض لها أنّها لا تَقَعُ إلا ظُروفًا فمن حيثُ هي ظروفُ لا يخبرُ عنها، ومن حيثُ هي أوقاتُ وأمكنةُ يصح الإخبار عنها، ألا ترى أنَّك لو قلتَ: طابَ وقتُنا، واتّسع مكانُنا كان خبراً صحيحًا.
فالجواب: أن كونها ظروفًا أو صفات انضمّت إلى كونها وقتًا أو مكانًا لم تستعمل إلا بهذه الصفة، فهي كالخصوص من العُموم والخُصوص، لا يحدُّ بحدِّ العُموم، ألا ترى أن الإنسان حيوان مخصوص، ولا يحدُّ بحدٍّ الحيوان العام؛ لأنَّ ذلك يسقط الفصل الذي يميّز به من بقيّة أنواع الحيوان والحدُّ ما جَمَعَ الجنسَ والفصلَ، فالوقت الذي يدلُ عليه إذاً هو الجنس، وكونه ظرفًا بمنزلة الفصل، كالنطق في الإنسان وبهذا يحصل جواب قوله يطّرد وينعكس، لأنا قد بيّنا أنه لا ينعكس والله أعلم بالصواب.
الكتاب: التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين