مسائل نحوية متفرقة (1)
مسألة [٣٤]
ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر الذي يكون علاجا، زعم حيث مثَّل أن قولك: له صوت صوت حمار، إنما اختير النصب لأن الثاني غير الأول بمنزلة قولك ما أنت إلا سيرا، /٤٧/ لأن السير غيره، ومن رفع فهو أبعد لأنه مثل ما أنت إلا سيرٌ.
قال محمد: ولا أرى هذا كما قال، وذلك أنه إذا قال: له صوتٌ صوتَ حمار، فإنما أراد مثل صوت حمار، ومثل هو الأول، فلما حذف قام ما أضاف إليه (مثل) مقام (مثل) كقوله: ﴿ واسأل القرية ﴾، والسير لم يحذف منه شيء كان مضافا إليه، فهو في النصب أمكن، ولأنه لا يكون إلا فعلا له، وإنما الرفع مجاز بعيد، والوجه عندي في قوله: ما أنت إلا سيرٌ أن يكون ما أنت إلا صاحبُ سير ثم حذف.
قال أحمد: ما زاد محمد بهذا الكلام على أن حكى نص سيبويه، ولم يأت برد عليه ولا قدح في مذهبه، وذلك أن سيبويه قال في هذا الباب نصا: (له صوت أيما صوتٍ، وله صوت مثلُ صوت الحمار) بالرفع، (لأن أيًّا المثلَ صفةٌ) وهما الأول، فالرفع في هذا أحسن، ثم قال: (وقد علمت أن صوت حمار ليس بالصوت الأول)، فهل يقول محمد ابن يزيد: إن صوت حمار هو صوت الرجل فيكون رادا على سيبويه؟ ويقول [: إن (مثل) ليس بالأول فيكون مخالفا له أيضا، وهو لا يقول ذلك، ومذهب سيبويه إذا رفع على ما ذكر في قولهم: له صوتٌ صوتُ حمار، أنه على سعة الكلام وعلى إرادة مثل، وهو نظير ﴿ واسئل القرية ﴾ في حذف الأهل وإقامة المضاف إليه مقام المضاف، وكذلك ما أنت إلا سيرٌ على سعة الكلام أيضا إذا رفع، ومعناه ما أنت إلا ذو سير، على سعة الكلام حملها سيبويه، ولم يأت في هذه المسألة بخلاف ولا رد، وإنما رأى سيبويه- وقد ترك التمثيل- لأن هذا <مما> لا يلبس، فظن أن قوله: ما أنت إلا سيرٌ قول من ذهب إلى أنه لم يحذف منه شيء، فأضاف هذا التأويل إلى نفسه وجعله مذهبا ظفر به.
وقول سيبويه: (إن رفعه على سعة الكلام كما جاز لك أن تقول: ما أنت إلا سير)، دليل على الحذف، لأن المجاز وسعة الكلام كله محذوف منه، لأنك إنما تسند الوصف أو الخبر إلى شيء في اللفظ وهو في المعنى لسواه إذا ان ذلك غير ملبس على المخاطب نحو قولهم: /٤٨/ بنو فلان تطؤهم الطريق: فأسندوا هذا الفعل إلى الطريق في اللفظ وهو في المعنى لأهل الطريق، وكذلك سائر هذا الباب، إنما هو على الحذف والاختصار إذا زال اللبسُ وأُمِن.
مسألة [٣٥]
ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الخبر وهو اسم، زعم أن كلهم وجميعهم أجمعين وعامتهم وأنفسهم لا يكن إلا صفة.
قال محمد: أما عامتهم عندي فلا يجوز أن يكون صفة البتة، لأنك إذا قلت: مررت بقومك أو بهم ثم قلت: عامتهم، فإنما حررته على البدل كما تقول: مررت بهم بعضهم، ولا يكون صفة، لأن الصفة هي الأول وعامتهم إنما هو بعضهم، ولا يوصف الشيء ببعضه.
قال أحمد: عامتهم مشتق من عممت الشيء، فظاهره واشتقاقه على العموم، فهو كجميعهم وكلهم، إلا [أن] منهم من يستعمله على البعض، يريد به الأكثر، وهذا على غير أصل الكلمة، وقد استعمل ذلك في (كل) تقول: جاءني كل الناس، تريد وجوههم وأكثرهم، وجاءني أهل الدنيا، وإنما تريد بعضهم، فهذا توسع في الكلام، والأصل غير ذلك، واشتقاق الكلمة يدل على خلاف ما قاله، لأنها على التعميم، وإنما تستعمل للبعض توسعا كما استعملت كل، ألا ترى إلى قول الله تبارك “وتعالى”: ﴿ فسجد الملائكة كلهم أجمعون ﴾، فذكر (أجمعون) ليزول احتمال التوسع من كل، لأن كلهم يجوز أن تكون بمعنى أكثرهم، فلما قال: أجمعون، زال هذا الاحتمال ووقعت الإحاطة على الحقيقة.
وقال محمد بن يزيد في هذه الآية: إن أجمعين إنما جيء به ليدل على أن سجود الجميع كان في وقت واحد، لأنه لما قال: فسجد الملائكة كلهم، احتمل أن يكون السجود قد وقع في أوقات متفرقة وإن كان قد عمهم فيها، فلما قال: أجمعون، علم أن ذلك كان في وقت واحد على حال اجتماع، وليس كما ذكر، لأن أجمعين معرفة، ولا تقع في موضع الحال، ولا تكون أبدا إلا توكيدا لمعرفة، ولو أراد [الله] ذلك لقال: فسجد الملائكة كلهم مجتمعين، أي: في حال /٤٩/ اجتماع، ولو قال قائل: جاءني القوم أجمعون، لجاز أن يكون مجيئهم في وقت بعد وقت كما جاز ذلك في كلهم، والتأويل فيهما المشبه لكلام العرب هو الأول، لأن كلا قد استعملت على وجهين: على “معنى” الإحاطة، وإزالة احتمال التكثير.
مسألة [٣٦]
ومن ذلك قوله في باب متقدم ترجمته: هذا باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء، وذلك قولهم: سلام عليك، ولبيك وخير بين يديك، فذكر هذا في باب الابتداء فرفعه وأدخل معه لبيك، وقد ذكر أنه اسم مثنى في قول الخليل، وخطأ يونس في قوله: إنه بمنزلة عليك، وأنشد:
فلبي قلبي يدي مسور …
ليوضح أنه مثنى، ثم ترك ذلك في إدخاله إياه في الابتداء، وكان يجب على قوله أن يكون: لباك، فيدخل الألف للرفع، والقول عندي إن لبيك مما لا يقع إلا منصوبا كما ذكر في غير هذا الباب، وذكره إياه في هذا الباب خطأ.
قال أحمد: (هذا الكلام جرى) من محمد بن يزيد مجرى السهو، ومحله في هذه الصناعة فوق ذلك، وذلك أن سيبويه ذكر في هذا الباب المصادر التي ترفع على الابتداء، وهي نكرة تجري مجرى ما فيه الألف واللام، فذكر قولهم: سلام عليك، وقولهم وخير بين يديك، إلا أن الناس لا يكادون يستعملون هذه الكلمة إلا بعد لبيك، فيقولون: لبيك وخير بين يديك، كأنهم يستعملونها مع الإجابة، فأتي بالكلام كله والشاهد في بعضه، كما يؤتى بالشعر كله والشاهد في بعضه، ذلك يؤتى بالمثل والشاهد كلمة منه، فلبيك في قوله نصب وليس هذا بابه، وهو مع ذلك معرفة، وليس هذا الباب للمعرفة ولا للمنصوب، وإنما اعترض به لما بعده إذا كان كلاما ما يذكره الناس جملة، فجاء به على ما يعرفونه ويجري في كلامهم، وهذا أظهر وأبين من أن يحتج له أو يدل عليه بأكثر من هذا.
مسألة [٣٧]
ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور، زعم أن قوله: أما صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف، وأما عالما /٥٠/ فهو عالم، أن هذا ينتصب على الحال، وإذا مثل هذا على ما قال لم يصح له معنى، ألا ترى أنك لو قلت: أما هو فعالم عالما، وأما هو فليس بصديق مصاف صديقا مصافيا، ولكن نصبه على كان، لأنها تقع ها هنا ولا ينتقض المعنى عليها، لأنه قد ذكر قبل رجلا، فكأنه قال: أما أن يكون طاهرا فهو طاهر، أي: كينونة طهارته فصحيحة، ولذلك لم يجز في هذا الرفع، وهذا التفسير مذهب أبي الحسن، وليس مذهب أبي الحسن أيضا بشيء في هذا، وقد فسرنا القول في هذا في غير هذا الكتاب.
قال أحمد بن محمد: أما قوله: إن هذا إذا مثل لم يصح على الوجه الذي مثله وهو يصح على غيره، لأنه مثله بإعمال ما بعده فيه، وقد زعم سيبويه في هذا الباب أن المصادر والصفات التي تقع بعد (أما) تنتصب بما بعدها أو ما قبلها، ألا ترى أنك لو قلت: أما علما فلا علم عنده، إن هذا لا ينتصب بما بعده، وإنما ينتصب بما تقدره قبل، وإذا قلت: أما علما فعالم، جاز أن تنصبه بما بعده، وكذلك الصفات، إذا قلت: أما صديقا فصديق، والتقدير إذا نصبته بما قبله أن تضمر، أما المذكور صديقا فهو صديق، يدل على ذلك قول سيبويه في ترجمة الباب: هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور، ألا ترى انك إذا قلت: أما علما فعالم، إن هذا الكلام إنما تكلمت به بعد شيء جرى وأوصاف تقدمت لموصوف مذكور، فكأنك قلت: مما صح له من هذه الأوصاف فكذا وكذا، وكأن رجلا ذكر بعلم وعقل ونبل، فقلت: أما نبلا فنبيل، أي: أما المذكور نبيلا فنبيل، والدليل على ذلك ما فسره الخليل بتمثيله أن هذا الباب كقولهم: أنت الرجل علما وفهما وأدبا، أي: أنت الرجل في هذه الحال، وكذلك إن قدرته على الوجه الآخر الذي ذكره سيبويه، وهو أن ينتصب المصدر لأنه مفعول من أجله، فكأنه قال: أما المذكور من أجل العلم فعالم، فهو ينساغ على الوجهين جميعا، والمصادر والصفات على /٥١/ هذا التمثيل تصح إذا أعملت ما قبله.
فأما ما حكاه محمد عن الأخفش من أنه يضمر (أن يكون) فقد رجع عنه في آخر الكلام ولسنا نقتصر على رجوعه دون تبيين مذهب الأخفش فيه وإفساده، وذلك أن المصادر في هذا الباب إذا وليت (أما) فالأكثر فيها النصب، فإذا أضمرت (أن يكون) وهو مصدر ونصبته على مذهب من ينصب بإضمار ناصب فقد لزمه على قوله أن يكون المضمر مصدرا أيضا، ويكون منصوبا بمصدر آخر، فيتصل هذا بما لا غاية له، وهذا فاسد.
وأما قول سيبويه في أول الباب: إن المصدر ينتصب بما قبله وما بعده، فلم يرد به أنه منصوب بهما جميعا في حال، وإنما أراد معنى (أو)، وقد بين ذلك في آخر الباب بإعادة هذا القول فقال: ينتصب بما بعده أو ما قبله، وجاء بلفظ (أو)، ولو لم يرد ذلك لكان الكلام فاسدا، لأنه لا ينتصب بشيئين، وإنما جاز إضمار المذكور بعد (أما) لتقدم ذكره.
المصدر: الانتصار لسيبويه على المبرد