كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل
طبقات الكوفيين الخمس
الطبقة الأولى:
1- الرؤاسي: هو أبو جعفر محمد بن الحسن، مولى محمد بن كعب القرظي، لقب بالرؤاسي لكبر رأسه، نشأ بالكوفة وورد البصرة فأخذ عن “أبي عمرو بن العلاء” وغيره من علماء الطبقة الثانية البصرية، ثم قفل إلى الكوفة، واشتغل فيها بالنحو مع عمه معاذ وغيره، فتكونت الطبقة الأولى الكوفية.
ثم صنف كتابه “الفيصل” في النحو، وقد مر في الكلام على الطور الثاني أن الخليل بعث إلى الرؤاسي يطلبه فأرسله إليه، وأن سيبويه نقل في كتابه عنه كما نقل عن البصريين، فإلى الرؤاسي يرجع بدء النحو في الكوفة دراسة وتأليفا.
فهو رأس الطبقة الأولى الكوفية، وكتابه أول مؤلف في النحو بالكوفة، توفي بالكوفة في عهد الرشيد.
2- معاذ الهراء: هو أبو مسلم، لقب بالهراء لبيعه الثياب الهروية، وهو عم الرؤاسي ومولى القرظي أيضا، أقام بالكوفة واشتغل مع ابن أخيه في النحو، غير أن ولوعه بالأبنية غلب عليه، حتى عده المؤرخون واضع الصرف، ولم يوقف له على مصنف، عمر طويلا، وتوفي بالكوفة سنة ١٨٧هـ.
الطبقة الثانية:
1- الكسائي: هو أبو الحسن علي بن حمزة: مولى بني أسد، فارسي الأصل، سئل عن تلقيبه بالكسائي فقال: “لأني أحرمت في كساء”، وقيل في السبب غير هذا، نشأ بالكوفة وتعلم النحو على كبر، ذلك لأنه حادث قوما من الهباريين لحنوه فأنف من التخطئة، وقام من فوره وطفق يتعلم النحو، فأخذ عن معاذ الهراء ما عنده ثم توجه تلقاء البصرة فتلقى عن ” عيسى ابن عمر والخليل ” وغيرهما، ولما أعجب بالخليل قال له: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فجاب هذه البوادي وقضى وطره، ثم انحدر إلى البصرة فألفى الخليل قضى نحبه، وخلفه يونس، فجلس في حلقته ومرت بينهما مسائل اعترف له يونس بها، من ذلك ما قال المبرد “ويروى أن يونس بن حبيب قال لأبي الحسن الكسائي: كيف تنشد بيت الفرزدق فأنشده:
غداة أحلت لابن أصرم طعنة … حصين عبيطات السدائف والخمر
فقال الكسائي: لما قال: “غداة أحلت لابن أصرم طعنة حصين عبيطات السدائف” تم الكلام، فحنل الخمر على المعنى، أراد: وحلت له الخمر، فقال له: ما أحسن ما قلت”[1].
ثم عاد إلى الكوفة ينشر علمه، والكوفة متعطشة إلى نحو مضارع نحو البصرة وفي الكسائي نشاط في الدراسة والتصنيف فتقوى المذهب الكوفي، وبدأ يناهض البصري على يد الكسائي الذي دوى ذكره حتى وصل مسمع أمير المؤمنين المهدي في بغداد فاستقدمه لحادثة خاصة، ورأى فيه عالما خريتا لقنا[2] فاستبقاه في بغداد وضمه إلى حاشية ابنه الرشيد، فاحتضنه الرشيد بعد الخلافة ليؤدب ولديه الأمين والمأمون، ثم صعد به جده وصار من الجلساء المؤانسين، ومن هنا ساد المذهب الكوفي وتكاثرت أتباعه وعز علماؤه، فعز على علماء البصرة شأنهم وجاءوا بغداد يناهضونهم فكانت المناظرات الماضية وكان الكسائي ذا تدره. [3]الكوفيين في أغلبها.
له مصنفات كثيرة، منها في النحو مختصر.
وعلى يد الكسائي تكاثرت الفوارق بين المذهبين لاختلاف الاتجاهين، وسنعقد مبحثا خاصا نفصل ذلك فيه بمشيئة الله تعالى، وأخباره ذائعة مشهورة.
وبقي الكسائي أثيرا عند الرشيد، صاحبه مع محمد بن الحسن الشيباني في رحلته إلى فارس حتى كانوا في رنبويه “بلد قرب الري” وأحس الكسائي بقرب المنية فتمثل بقول مؤرج السدوسي:
قدر أحلك ذا النجيل وقد أرى … وأبى مالك ذو النجيل بدار
إلا كداركم بذي بقر الحمى … هيهات ذو بقر من المزدار[4]
ثم مات هو ومحمد فقال الرشيد: اليوم دفنت الفقه والنحو برنبويه، وذلك سنة ١٨٩هـ٣.
2- قال صاحب النجوم الزاهرة:
“وكان الكسائي إماما في فنون عديدة: النحو، والعربية، وأيام الناس وقرأ القرآن على حمزة الزيات أربع مرت، واختار لنفسه قراءة صارت إحدى القراءات السبع”.
وذكر الدورقي قال: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت العشاء فقدموا الكسائي فارتج عليه في قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فقال اليزيدي: قراءة هذه السورة يرتج فيها على قارئ أهل الكوفة! قال: فحضرت الصلاة فقدموا اليزيدي فارتج عليه في الحمد، فلما سلم قال:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى … إن البلاء موكل بالمنطق
الطبقة الثالثة:
1- الأحمر: هو أبو الحسن علي بن الحسن المعروف بالأحمر، كان جنديا من رجال النوبة على باب الرشيد، ثم سمت نفسه إلى العلم، فكان يترصد في الطريق الكسائي عند حضوره للرشيد ويسير في ركابه وبحاشيته جيئة وذهابا، يستفيد منه المسألة بعد الأخرى حتى عد في أصحاب الكسائي، وناظر سيبويه عند مقدمه بغداد، كما سلف.
فلما أصيب الكسائي بالوضح[5]، وكره الرشيد ملازمته أولاده، فأشار عليه باختيار نائب عنه، فاستخلف الأحمر إبقاء على مجده واطمنئنانا منه على خضوع الأحمر له، وعاهد الأحمر على أن يلقنه يوما فيوما ما يؤدب به أولاد الخليفة، وكان الأحمر يقظا فطنا فأجاد التعلم والتعليم حتى بز أصحاب الكسائي، وتبوأ مكانته، ونعم برفهنية[6] العيش.
وقد أملى شواهد نحوية واجتمع عليه الناس، وصنف كتاب التصريف، ومات بطريق الحج سنة ١٩٤هـ.
2- الفراء: هو أبو زكريا يحيى بن زياد، مولى بني أسد، لقب بالفراء “لأنه كان يفري الكلام”.
ولد بالكوفة من أصل فارسي، وتلقى عن “الكسائي” وغيره، وتبحر في علوم متنوعة، فكان فذا في معرفة أيام العرب وأخبارها وأشعارها، والطلب والفلسفة والنجوم، وتقصى أطراف علم النحو حتى قيل فيه: “الفراء أمير المؤمنين في النحو، وهو الذي قال: أموت وفي نفسي شيء من حتى لأنها ترفع وتنصب وتخفض “.
طمع في نوال الخلفاء فانحدر إلى بغداد ولج في الاتصال بالمأمون حتى وصله ثمامة بن أشرس [7]، فحاطه الخليفة برعايته، ورغب إليه أن يؤدب ابنيه، كما اقترح عليه أن يؤلف كتابا يجمع أصول النحو، وهيأ له دارا خاصة فيها وسائل النعيم متكاملة فأخرج له كتاب “الحدود” بعد سنتين، وما زال الفراء وجيها عند المأمون، مغبوط المنزلة بين الأمة، يؤلف ويفيض علمه حتى توفي سنة ٢٠٧هـ.
3- اللحياني: هو أبو الحسن علي بن المبارك من بني لحيان، أخذ عن الكسائي وغيره، وله كتاب النوادر، توفي سنة ٢٢٠هـ[8].
الطبقة الرابعة:
1- ابن سعدان: هو: أبو جعفر الضرير محمد بن سعدان، نشأ بالكوفة، وأخذ عن “أبي معاوية الضرير” وغيره، ثم اشتهر بالعربية والقراءات، صنف كتابا في النحو، وتوفي سنة ٢٣١هـ[9].
2- الطوال: هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد، نشأ بالكوفة، وسمع من الكسائي وغيره وقدم بغداد، مات سنة ٢٤٣هـ.
3- ابن قادم: هو: أبو جعفر محمد بن عبد الله بن قادم، أخذ عن الفراء، وحذق النحو وتعليله، واتصل بالعباسيين فأدب المعتز قبل الخلافة، وله مؤلفات منها في النحو: الكافي، والمختصر، توفي ببغداد سنة ٢٥١هـ.
الطبقة الخامسة:
1- ثعلب: هو: أبو العباس أحمد بن يحيى، المعروف بثعلب: مولى بنى شيبان، ولد ببغداد في عصرها الذهبي، وتلقى عن ابن الأعرابي [10] وابن قادم، وسلمة بن عاصم وغيرهم غير أنه كان للنحو من بين علوم اللغة العربية النصيب الأوفى من عنايته، واعتماده فيه كان على سلمة بن عاصم.
وهبه الله حافظة واعية مكنته أن يستظهر ما يقرأه، فحفظ كتب الكسائي والفراء، واستطاع أن يقرأ بنفسه كتاب سيبويه فتزعم رياسة النحو للكوفيين إلا أنه كان لا يحبذ القياس.
اتصل بالخلفاء والأمراء كأسلافه الكوفيين، فأدب ابن المعتز وابن طاهر، وجمعت بغداد بينه وبين أبي العباس المبرد زعيم البصريين الذي نافسه شرف الرياسة العلمية والزلفى عند الخلفاء والأمراء، فكانت بينهما مناظرات ذكرنا سابقا واحدة منها فاز فيها ثعلب، ولكل منهما شيعته وحزبه، وسعى بينهما القتاتون[11].
وكان المبرد يتطلب لقيا ثعلب كثيرا فيراوغه ويتلكأ عن إجابته، ولثعلب مجالسة مع الرياشي سلفت أيضا، وله نادرة طريفة تتعرف منها نفاسة علم النحو، وأنه أحرى العلوم كلها بالرعاية، رأيت إرجاءها الآن لتكون مسك الختام لهذا الكتاب.
له رحمة الله عليه مصنفات شتى منها في النحو:
اختلاف النحويين، والموفقي وما ينصرف وما لا ينصرف، وحد النحو، وفي اللغة: الفصيح وسترى في ترجمة الزجاج تخطئته فيه، وفي الأدب وغيره: مجالس ثعلب وكانت وفاته ببغداد من صدمة دابة له في الطريق، لم يسمع وقع حوافرها وراءه لصممه، سنة ٢٩١هـ.
المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة
[1] راجع الكامل مع الرغبة جـ٤ ص٥٩ وما بعدها، وعبيطات جمع عبيط: اللحم الطري، والسدائف جمع سديف: شحم السنام، والبيت من شواهد التوضيح في باب الفاعل، ومن قصيدة في مدح أخواله بني ضبة.
“وفي البيت رواية أخرى على القلب أي بنصب طعنة وإن كانت فاعلا. ورفع عبيطات وإن كانت مفعولا على حد قولهم خرق الثوبُ المسمارَ، وكسر الزجاجُ الحجرَ”.
[2] الخريت: الحاذق الماهر، واللقن: الحسن التلقن.
[3] يقال هو ذو تدرههم أي: الدافع عنهم.
[4] الشطر الثاني من البيت الأول من شواهد النحاة على رد لام أب عند إضافته لياء المتكلم.
راجع مجالس ثعلب “الجزء العاشر”، وأمالي ابن الشجري “المجلس التاسع والأربعين” والرضي راجع خزانة الأدب الشاهد ٣٢٧.
[5] الوضح: بفتحتين، البرص.
[6] سعة العيش.
[7] ثمامة بن أشرس، كان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق وهو الذي دعا المأمون إلى الاعنزال -وتروى عنه قصص تشير إلى استخفافه بالدين- قتل في زمان الواثق الذي تولى الخلافة من “٢٢٧-٢٣٢” وقيل مات سنة ٢٣١هـ انظر الفرق ولسان الميزان ومعجم الفرق والنجوم الزاهرة سنة ٢١٣هـ.
[8] في هذه السنة توفي “قالون” المقرئ واسمه عيسى وكنيته أبو موسى كان إماما عالما، انتهت إليه الرياسة في النحو والعربية، والفراء في زمانه بالحجاز وهو أحد أصحاب نافع، ورحل إليه الناس، وطال عمره وبعد صيته، النجوم الزاهرة.
[9] في هذه السنة توفي كثير من أعلام الفكر العربي.
[10] هو محمد بن زياد أبو عبد الله بن الأعرابي، كان أحد العلماء باللغة والمشار إليه فيها، وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يعرفان من اللغة قليلا ولا كثيرا، سأل إمام “محنة خلق القرآن” أحمد بن أبي داود: أتعرف معنى استولى؟ قال: لا، ولا تعرفه العرب، لأنها لا تقول: استولى فلان على شيء حتى يكون له فيه مضاد ومنازع، فأيهما غلب استولى عليه والله تعالى لا ضد له. توفى سنة ٢٣٢هـ، وقيل ٢٣١هـ، وقيل ٢٣٣هـ.
[11] النمامون، وفي الحديث: “لا يدخل الجنة قتات”.