كتبه: د. فتوح أحمد خليل
دور التراكيب النحوية في تغيير حرف المعنى في البنية دون الدلالة
ومن ذلك ما يكون بين ( أَنَّ) و(إنَّ) المؤكدتين، كما في قوله تعالى: ” {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، حيث ذهب السمين إلى أنه من الجيد أن تكسر همزة (إنَّ)، اعتدادا بما ذهب إليه الخليل بن أحمد، قال: “وقرأ العامَّة “أنها” بفتح الهمزة[1]، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر – بخلاف عنه – بكسرها، فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ، استجودها الناس: الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية”[2].
وقال سيبويه: ” وسألته عن قوله عز وجلّ: ” وما يشعركم إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون “، ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذا في ذا الموضع، إنما قال: وما يشعركم، ثم ابتدأ فأوجب فقال: إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون. ولو قال: وما يشعركم أنَّها إذا جاءت لا يؤمنون، كان ذلك عذرًا لهم “[3].
إقر أيضا:
دور التراكيب النحوية في تغيير حرف المعنى في الدلالة دون البنية
ومن ذلك أن تكون (لولا) بمعنى (هلا)، وذلك في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ}، قال السمين[4]: ” ( لوْلاَ) تحضيضية دخلها معنى التَّفجُّع عليهم، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد}، وما يروى عن الخليل- رحمه الله- أنه قال:“كلُّ “لولا” في القرآن فمعناها “هَلاَّ” إلا التي في الصافَّات: {لوْلاَ أنَّهُ}، لا يصحُّ عنه؛ لورودها كذلك في غير الصافات{لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ}، و{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ}، و{وَلَوْلاَ رِجَالٌ}، إلا أن الشيخ السمين لم يأخذ برأي الخليل هنا على إطلاقه، ورأى أن مثل هذا لا يصح عن الخليل.
أو تكون واو القسم بمعنى واو العطف، ومنه ذلك قوله عزّ وجلّ: {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}؛ حيث ذهب كل من السمين والخليل إلى أن الواوين الأخيرتين ليستا بمنزلةِ الأولى، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضْمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولك: “مررتُ بزيدٍ وعمرو” والأولى بمنزلةٍ التاء والباء[5]، قال سيبويه: ” قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنَّما أقسم بهذه الأشياء على شيء واحد”[6].
أو تكون أم العاطفة بمعنى أم الاستفهامية، ومن ذلك قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ}، قال: “قال الثعلبي: “قال الخليل: كلُّ ما في سورة الطور مِنْ “أم” فاستفهامٌ وليس بعطفٍ”[7].
أو تكون ما الشرطية موصولة، وذلك كما في قوله تعالى: “{ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ}، قال السمين: “وقال سأل سيبويه[8] الخليلَ عن هذه الآية؛ فأجابَ بأنَّ “ما” بمنزلة الذي، ودَخَلَتِ اللامُ على “ما” كما دخلت على “إنْ” حين قلت: واللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لأفعلنَّ، فاللامُ التي في “ما” كهذه التي في إنْ…، هذا نصٌّ الخليل”[9].
أو تكون لمَّا بمعنى إلا، وذلك في قوله تعالى: “{وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قال: “واستدلَّ أصحابُ هذا القول – أعني مجيء “لَمَّا” بمعنى “إلا” – بنص الخليل وسيبويه على ذلك[10]، ونصره الزجاج، قال بعضهم: “وهي لغة هُذَيْل يقولون: سألتك باللَّه لمَّا فعلت؛ أي: إلا فعلت”[11]، وما يفهم من نص الخليل وسيبويه أنَّ (لمَّا) تأتي بمعنى (إلا) في سياق القسم، وليس على إطلاق ذلك.
أو تكون (أنَّ) بمعنى (لَعَلَّ) وذلك في قوله تعالى – أيضا -: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}؛ حيث ذهب السمين الحلبي إلى أن أظهر وجها لفتح همزة (أنَّ)، هو أنَّها بمعنى: لَعَلَّ، وهذا ما قال به الخليل في قولهم: “ائت السُّوق أنَّك تَشْتَرِي لَنَا مِنْهُ شَيْئًا”؛ أي: “لَعَلَّك”[12]، وقد أُطْلِق على تلك الظاهرة مصطلح “الاشتراك الصيغي”، وفسرت بأنَّ الصيغ لا تكلفنا مادة جديدة بل يأتي المعنى الوظيفي للصيغة محمولًا على المادة متراكبًا مع الدلالة المعجمية أو اللفظية، وذلك عن طريق صورة اللفظ، فضلًا عن أن المعاني الوظيفية ذاتها تتعدد وتتراكب للصيغة الواحدة في الوقت الواحد في السياق الواحد[13].
المصدر: الأثر النَّحوي للخليل الفراهيدي في كتاب الدر المصون للسمين الحلبي
جزاكم الله خيرا