المسألة الأولى

في حروف المعاني بين البساطة والتركيب

 

استقر بين النحاة واللغويين أنَّ الحروف منها ما هو بسيط ـ وهو الأصل ـ ومنها ما هو مركَّب ـ وهو الفرع، والتركيب يكون في جزأين لا أكثر، وهو عبارة عن جمع الحروف البسيطة ونظمها لتكون كلمة، ومن اللاَّفت للنظر أنَّ الحروف الدالة على معانٍ إذا زيد منها حرفٌ إلى حرف، وضُمَّ إليه دلَّت بالضمِّ على معنًى آخر لم يدلَّ عليه واحدٌ منهما قبل الضم.

هذا وقد تعرض السمين في إعرابه لآي القرآن الكريم لستة أحرف من حروف المعاني، مما اختلف فيه النحاة من حيث القول بالبساطة والتركيب؛ وقد اتبع فيها آراء الخليل:

الحرف الأول: (إِذَنْ) للجواب والجزاء، قال الأكثرون: إنه بسيطة، وذهب الخليل إلي أنه مركب من (إِذْ) وَ(أَنْ)، وذهب السمين إلى أنه مركبٌ من (همزة وذال ونون)، وقد شَبَّهَتِ العربُ نونَه بتنوين المنصوبِ؛ فَقَلَبُوه في الوقفِ ألفًا وكتبه الكُتَّاب على ذلك، وهذا نهايةُ القولِ فيه[1]، وذلك عند تعرضه لقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، إلا أنَّ مذهب السمين أنه ناصب للمضارع بنفسه، ومذهب الخليل أنّه ليس ناصبًا له بنفسه، وأنّ (أنْ) بعده مقدّرة[2].

والثاني: (لَنْ) مركب، وليس بسيطًا، وهذا ما ذهب إليه الخليل في قوله: ” وأما لن فهي ” لا أنْ “؛ وُصِلَت لكثرتها في الكلام”[3]، وذهب السمين مذهب الخليل في ذلك؛ حيث يرى أنَّ “لن” أصلها “لا أَنْ” فحذفت الهمـزة استخفافًا، ثم حذفت الألف من “لا” للتخلص من التقاء الساكنين[4].

والثالث: (هُلمَّ)، مركب من “ها” التي للتنبيه ومن “لَمّ” أمرًا مِنْ “لَمَّ الله شَعْثَه” أي جمعه، والمعنى عليه في (هلم)، لأنه بمعنى: اجمع نفسك إلينا، فحُذِفت ألف “ها” لكثرة الاستعمال[5]، وهو مذهب الخليل[6] وسيبويه[7] – وقد استسهل السمين هذا الرأي عن غيره من الآراء وفضله )، وذلك عند تعرضه لقوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُم}.

والرابع: (وَيْكَأَنَّ)، ذهب السمين[8] إلى أنه مركب، وذلك عند تعرضه لقوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، على أن هذا مذهب الخليل[9]، قال سيبويه: ” سألت الخليل عن هذا الحرف، فقال: (وَيْ) مفصولة من (كَأَنَّ)[10].

والخامس: (مهما)، وهي مركبة عند السمين تبعا لما قال به الخليل، وقد أفاض فيها عند تعرضه لإعراب قوله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ}، حيث قال: “واختلف النحويون في “مهما”: هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هي مركبةمِنْ ماما، كُرِّرت “ما” الشرطية توكيدًا فاستثقل توالي لفظين فأُبْدلت ألف “ما” الأولى هاء، وقيل: زيدت “ما” على “ما” الشرطية كما تُزاد على “إنْ” في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم}، فعُمِل العمل المذكور للثقل الحاصل. وهذا قول الخليل وأتباعه من أهل البصرة[11]، وقول الخليل قريب قياسا على أخواتها، وقد اعتبر الشيخ السمين غير هذا الرأي ليس بشيء[12].

والسادس: (لا جرم)، وهي مركبة عند السمين في قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ}، ذهب الشيخ السمين إلى أنَّ في هذه اللفظةِ خلافًا بين النحويين، ويتلخص في خمسة أوجه، إلا أنه أخذ برأي الخليلِ في هذا الشأن[13]، ومفاده أنها رُكِّبَت من “لا” النافيةِ، و”جَرَم”، وبُنِيَتَا على تركيبَ خمسةَ عشرَ، وصار معناهما معنى فِعْلٍ وهو “حقَّ”، فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ}؛ أي: حَقَّ وثَبَتَ كونُ النار لهم، أو استقرارها لهم”[14].

 

الأثر النَّحوي للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ)
فيكتاب الدر المصون للسمين الحلبي (ت 756هـ)

 


[1] الدر المصون 2/ 167ـ 168

[2] ينظر الكتاب 3/16

[3] العين 8 / ص 350 والكتاب 3/5

[4] الدر المصون 4/617

[5] الدر المصون 5/212

[6] الكتاب 2/157

[7] الكتاب 2/160

[8] الدر المصون 8/698ـ699

[9] كتاب العين 8 / 443

[10] الكتاب 1/290

[11] كتاب العين 3 / 358 وكتاب سيبويه 1/ 433

[12] الدر المصون 5/430ـ431

[13] الكتاب 1/469

[14] الدر المصون 6/303