كتبه: د. فتوح أحمد خليل
الأثر النَّحوي للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ)
في كتاب الدر المصون للسمين الحلبي (ت 756هـ)
الحمدُ لله الذي فضَّلنا باللسانِ العربيِّ، والنبيِّالأُمِّيِّ الذي آتاه اللهُ جوامعَ الكَلِمِ، وأرسله إلى جميعِ الأُمَمِ، بشيرًا ونذيرًا وسِراجًا مُنيرًا، فدمغ به سلطانَ الجهالةِ، وأخمد بهنيرانَ الضلالةِ حتى آض الباطـلُ مقموعًا، والجهلُ والعَمَى مردوعًا، صلىاللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه والتابعينَ ومَنْ سلَكَ طريقَه إلى يومِالدينِ.
وبعدُ…..،
فيتبوأ الخليل بنُ أحْمد الفَراهِيديّ[1] منزلةً سنيّة في مسيرة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة؛ فقد أسهم إسهامات جليلة في عُلُوم العربيّة، تمثل حلقة رئيسة في حلقات المعرفة الإسلاميّة النّظريّة والتّطبيقيّة، مما أفضى إلى أن يُعَدَّ شيخًا وأُستاذًا وعبقريًّا ومُؤسسًا؛ ترك موروثًا ثقافيًّا خالدًا مابرحت ـ مع تقادم العهد وتقدّم العلم – مملوءة إبداعًا وعبقرية وعطاء.
والمتتبع لما نقله سيبويه عن الخليل في معظم كتابه؛ يتبين له أنّه قد ذكر اسمه صراحة، أو عناه دون تصريح باسمه، فكان يقول مثلا: ” وزعم الخليل ـ رحمه الله”[2]، أو”وزعم ذلك الخليل ـ رحمه الله”[3]، أو ” وقال الخليل ـ رحمه الله”[4]، أو ” وهذا قول الخليل – رحمه الله”[5]، أو “وهو قول الخليل”[6]، أو “وكان الخليل يراه”[7]، أو ” وسألت الخليل ـ رحمه الله”[8] أو” وزعم ـ رحمه الله”[9] أو “وسألته ـ رحمه الله”[10] وسألناه رحمه الله[11].
ويعد كتاب [الدر المصون في علوم الكتاب المكنون] للسمين الحلبي[12]، من أجل ما كتب في إعراب القرآن، وذلك من خلال آراء الثقاة السابقين من النحاة واللغويين والبلاغيين، وقد اهتم فيه مصنِّفُهُ بالجانب اللغوي بشكل لافت للنظر، فذكر الآراء المختلفة في الإعراب، فضلًا عن شرح المفردات اللغوية، وتوجيه القراءات القرآنية، كما أنه ألمح إلى الكثير من الإشارات البلاغية، وذكر الكثير من الشواهد العربية فقلما نجد صفحة إلا وفيها شاهد أو أكثر، وقد اعتمد في شواهده على القراءات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال الصحابة والتابعين، كاستشهاده بابن عباس ومجاهد، فضلا عن اعتنائه بالقراءات المتواترة والشاذة، مع بيان ما تحمله من معاني لإظهار معاني القرآن الكريم، ودقيق ألفاظه.
كما ذكر فيه كثيرا من اعتراضات شيخه أبي حيان للزمخشري وابن عطية وأبي البقاء. وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه فقال:” وذكرت كثيرا من المناقشات الواردة على أبي القاسم الزمخشري وأبي محمد بن عطية ومحب الدين أبي البقاء وإن أمكن الجواب عنهم بشيء ذكرته “[13].
قالحاجي خليفة عن الدر المصون: ” فهو ـ معاشتماله على غيره ـ أجلُّ ما صُنِّفَ فيه[14]؛ لأنه جمع العلوم الخمسة: الإعراب، والتصريف، واللغة، والمعاني، والبيان؛ ولذلك قال السيوطي في (باب في معرفة إعراب القرآن): “هو مشتمل على حشو وتطويل، لخصه السفا قسي فحرره”[15]، وهو وهمٌ من السيوطي؛لأن السفا قسي ما لخص إعرابه منه، بل من البحر المحيط؛ كما أن السمينلخصه أيضا من البحر المحيط في حياة شيخه أبي حيان، وناقشه فيه كثيرًا”[16].
والحقَّ أقول: لقد بذل الشيخ السمين مِن الجهد ما يُحمَدُ عليه، فجمعفيه أكثرَ ما في عيون كتب التفسير كـ ( معاني القرآن ) للأخفش، و(معاني القرآن ) للفراء، و(معاني القرآن وإعرابه ) للزجاج، و( إعراب القرآن ) للنحاس، و( المحرر الوجيز)لابن عطية، و( الكشاف) الزمخشري، و( البحر المحيط ) لأبي حيان، وغير ذلك منكتب التفسير ذات الطابع اللغوي، وكذلك كتـب القراءات كـ ( الحجة ) لأبي علي الفارسي، و(الكشف عن وجوه القراءات السبع ) لمكي، بالإضافة إلى الكتب النحوية، كل ذلك معالتنظيم والتنسيـق، والأمانة العلمية في عزو الأقوال إلى أصحابها، وظهور الشخصيةفي الترجيح، والـردِّ، والتضعيف لما يذكره مِنْ آراء.
هدف البحث، وسبب اختيار موضوعه:
يهدف هذا البحث إلى دراسة مدى تأثُّر الشيخ السمين بآراء الخليل وأقواله في بعض القضايا التركيبية، التي تناولها في خطابه التفسيري في كتابه [الدر المصون]، والذي دفعني إلى اختيار كتاب (الدر المصون) ليكون ميدان هذا البحث؛ ما وُصف به هذا الكتاب من بين كتب إعراب القرآن، ولعل ما قاله حاجي خليفة في ” كشف الظنون” واصفا هذا الكتاب وصفًا مفاده: ” أن (الدر المصون) أجل ما صنف في كتب إعراب القرآن” كان هو الباعث على التعرض لمادة هذا الكتاب، ومعرفة تغلغل آراء الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ عبقري العربية الأول ـ الذي يعد أول من أعرب ألفاظ القرآن.
منهج البحث:
سوف ينهج هذا البحث انتقاء بعض المسائل التي تبين وجهة النظر الخاصة بالخليل بن أحمد في قضايا التراكيب النَّحوية، وتركت ما يتردد في جميع المظان النحوية من قضايا وخلافات، إذ الهدف معرفة مدى تأثر السمين برأي تفرد به الخليل الفراهيدي؛ دون غيره من النحاة، وكان فيه نسيج وحده، أو رأي للخليل استحسنه السمين وجَوَّدَه عن غيره، أو رجحه على غيره من الآراء، أو اعترض عليه، أو وافقه وانتصر له، وذلك بعرض المسألة النحوية عرضًا موجزًا يفي بحاجة البحث إليها، محللًا الأقوال فيها، ناقدًا غير المختار منها، ومقويًا الوجه الذي وقع عليه اختياري.
كما أنني بدأت ـ غالباـ برأي السمين في المسائل النحوية والإعراب، ولكنني أحيانا أضطر فأقدم رأي الخليل؛ إذا كان مبنيا عليه رأي السمين، وأنبه إلى أنَّ هذا العمل دار حول المسائل النحوية فقط؛ دون غيرها من المسائل الصرفية واللغوية والدلالية والبلاغية ـ وهي كلها ذات صلة بعبقرية الخليل ـ ولقد وجدت أن تلك المسائل الخاصة بالتراكيب النحوية ـ التي تم انتقاؤها ـ يمكن أن تنحصر في ست مسائل تبدأ بما يتعلق بالألفاظ والدلالة، ثم يأتي ما يتعلق بالتراكيب من تصرف في الكلام، من حذف، وتقديم وتأخير، وتغيير الشيء عن وجهه إلى غير ذلك:
المسألة الأولى: في حروف المعاني بين البساطة والتركيب.
والثانية: في دور التراكيب النحوية في تغيير حرف المعنى في البنية دون الدلالة.
والثالثة: في دور التراكيب النحوية في تغيير حرف المعنى في الدلالة دون البنية.
والرابعة: في دور التراكيب في تغيير حرف المعنى في البنية والدلالة معًا.
والخامسة: في العدول عن مثالية التراكيب النحوية.
والسادسة: نزع الخافض والمضاف في التراكيب النحوية.