كتبه: أحمد شوقي عبد السلام ضيف
البصرة تضع النحو
رأينا البصرة تضع على يد أبي الأسود الدؤلي نقط الإعراب، وقد مضى الناس يأخذونه عن تلاميذه. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن ذلك كان باعثا لهم ولمعاصريهم على التساؤل عن أسباب هذا الإعراب، وتفسير ظواهره مما هيأ لبعض أنظار نحوية بسيطة. وكان طبيعيا بعد أن رسموا نقط الإعجام أن يضعوا له هذا الاسم وأن يضعوا لنقط أبي الأسود اسم نقط الإعراب تمييزا لهما بعضهما عن بعض، كما كان طبيعيا أيضا أن يطلقوا على علامات النقط الخاصة بالإعراب أسماء تفرق بينها، وقد اشتقوها من كلماته لكاتبه “فتحت شفتي وضممتهما وكسرتهما” فسموه على التوالي نقط الفتحة ونقط الضمة ونقط الكسرة. ولا بد أنهم لاحظوا اختلافا في إعراب الأسماء حسب مواضعها من الكلام، فهي إذا ابتدأ بها المتكلم في العبارة لزمها الرفع إلا إذا تقدمتها إن وأخواتها، وإذا تلت فعلا كانت إما مرفوعة وإما منصوبة. ولا يبعد أن يكونوا قد وضعوا لذلك “مصطلحات المبتدأ والفاعل والمفعول”، ولا يبعد أيضا أن يكونوا لاحظوا اختلافا في كلمات اللغة وأن منها ما يقبل الحركات الثلاث: الضمة والكسرة والفتحة، وهو الأسماء المعربة، وأن منها ما يلزم حركة واحدة وقد يلزم السكون، وسموا الأولى معربة والثانية مبنية. كل ذلك من الممكن وقوعه، ولكن ليس بين أيدينا ما يثبته إثباتا قاطعا سوى ما تمدنا به طبائع الأشياء، فالأصل في كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة هنا وهناك، ثم يتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية تقوم على اتخاذ القواعد وما يطوى فيها من أقيسة وعلل. وأول نحوي بصري حقيقي نجد عنده طلائع ذلك هو ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 117 للهجرة، وهو ليس من تلاميذ أبي الأسود، ولكنه من القراء، ومن الملاحظ أن جميع نحاة البصرة الذين خلفوه يسلكون في القراء، فتلميذاه عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وتلميذا عيسى: الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب كل هؤلاء من القراء. ويكثر سيبويه في كتابه من التعرض للقراءات، وكأن ما كان بينها من خلافات في الإعراب هو الذي أضرم الرغبة في نفوس قراء البصرة كي يضعوا النحو وقواعده وأصوله، حتى يتبين القارئ مواقع الكلم في آي الذكر الحكيم من الإعراب المضبوط الدقيق.
ومعروف أنه لكي يصاغ علم صياغة دقيقة لا بد له من اطراد قواعده، وأن تقوم على الاستقراء الدقيق، وأن يكفل لها التعليل وأن تصبح كل قاعدة أصلا مضبوطا تقاس عليه الجزئيات قياسا دقيقا. وكل ذلك نهض به ابن أبي إسحاق وتلاميذه البصريون، أما من حيث الاطراد في القواعد فقد تشددوا فيه تشددا جعلهم يطرحون الشاذ ولا يعولون عليه في قليل أو كثير، وكلما اصطدموا به خطئوه أو أولوه. وأما من حيث الاستقراء فقد اشترطوا صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادي الحجاز وتهامة يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة، وبعبارة أخرى: رحلوا إلى القبائل المتبدية المحتفظة بملكة اللغة وسليقتها الصحيحة، وهي قبائل تميم وقيس وأسد وطيئ وهذيل وبعض عشائر كنانة [1]. وأضافوا إلى هذا الينبوع الأساسي ينبوعا بدويا زحف إلى بلدتهم من بوادي نجد، وهو نفر من الأعراب الكاتبين قدم إلى البصرة واحترف تعليم شبابها الفصحى السليمة وأشعارها وأخبار أهلها. وفي الفهرست لابن النديم ثبت طويل بأسماء هؤلاء المعلمين[2] من الإعراب الذين وثَّقهم علماء البصرة وأخذوا عنهم كثيرا من المادة اللغوية والنحوية سجلوها في مصنفاتهم. وكان القرآن الكريم وقراءاته مددا لا ينضب لقواعدهم، وتوقف نفر منهم إزاء أحرف قليلة في القراءات لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وجدوها لا تطرد مع قواعدهم، بينما تطرد معها قراءات أخرى آثروها، وتوسع في وصف ذلك بعض المعاصرين، فقالوا: إنهم كانوا يردون بعض القراءات ويضعفونها، كأن ذلك كان ظاهرة عامة عند نحاة البصرة مع أنه لا يوجد في كتاب سيبويه نصوص صريحة مختلفة تشهد لهذه التهمة الكبيرة. وسنرى الأخفش الأوسط يسبق الكوفيين المتأخرين إلى التمسك بشواذ القراءات والاستدلال عليها من كلام العرب وأشعارهم. وفي الحق، إن بصريي القرن الثالث هم الذين طعنوا في بعض القراءات، وهي أمثلة قليلة لا يصح أن تتخذ منها ظاهرة ولا خاصة عامة، وقد كانوا يصفونها بالشذوذ ويؤولونها ما وجدوا إلى التأويل سبيلا. وكانوا لا يحتجون بالحديث النبوي ولا يتخذونه إماما لشواهدهم وأمثلتهم؛ لأنه روي بالمعنى إذ لم يكتب ولم يدون إلا في المائة الثانية للهجرة، ودخلت في روايته كثرة من الأعاجم، فكان طبيعيا أن لا يحتجوا بلفظه وما يجري فيه من إعراب، وتبعهم نحاة الكوفة، وفي ذلك يقول أبو حيان: إن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمرو والخليل بن أحمد وسيبويه من أئمة البصريين والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يحتجوا بالحديث، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين[3]. وأما من حيث القياس والتعليل فقد توسعوا فيهما، إذ طلبوا لكل قاعدة علة، ولم يكتفوا بالعلة التي هي مدار الحكم فقد التمسوا عِلَلا وراءها. وقانون القياس عام، وظلاله مهيمنة على كل القواعد إلى أقصى حد، بحيث يصبح ما يخرج عليها شاذا، وبحيث تفتح الأبواب على مصاريعها ليقاس على القاعدة ما لم يسمع عن العرب ويحمل عليها حملا، فهي المعيار المحكم السديد.
وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه، بينما كانت الكوفة مشغولة عن ذلك كله، على الأقل حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، بقراءات الذكر الحكيم ورواية الشعر والأخبار، وقلما نظرت في قواعد النحو إلا ما سقط إلى بعض أساتذتها من نحاة البصرة إذ كانوا يتتلمذون لهم ويختلفون إلى مجالس محاضراتهم وإملاءاتهم. وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة دقيقة، فنصوا عليه بعبارات مختلفة، من ذلك قول ابن سلام: “وكان لأهل البصرة في العربية قدمة، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية”[4]، ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحا أكثر وضوحا إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة: “إنما قدمنا البصريين أولا؛ لأن علم العربية عنهم أخذ”[5]. وحاول بعض المستشرقين أن يصلوا بين نشوء النحو في البصرة والنحو السرياني واليوناني الهندي، غير أنه لا يمكن إثبات شيء من ذلك إثباتا علميا وخاصة أن النحو العربي يدور على نظرية العامل وهي لا توجد في أي نحو أجنبي، وكل ما يمكن أن يقال: إنه ربما عرف نحاة البصرة الأولون أن لبعض اللغات الأجنبية نحوا، فحاولوا أن يضعوا نحوا للعربية راجعين في ذلك إلى ملكاتهم العقلية التي كانت قد رقيت رقيا بعيدا بتأثير ما وقفوا عليه من الثقافات الأجنبية، وخاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من المنطق، مما دعم عقولهم دعما قويا، وجعلها مستعدة لأن تستنبط قواعد النحو وعلله وأقيسته.
ويظهر أنه كُفل للبصرة من الصلة بهذه الثقافات في القرن الثاني للهجرة ما لم يكفل للكوفة، فقد كانت مرفأ تجاريا للعراق على خليج العرب. فنزلتها عناصر أجنبية كثيرة أعدت في سرعة لوصلها بثقافاتها المختلفة، وأيضا فإنها كانت أقرب من الكوفة إلى مدرسة جُنْدَيْسابور الفارسية التي كانت تدرس فيها الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، مما جعل جداول من تلك الثقافات تصب فيها؛ ولذلك كان طبيعيا أن نجد بها أقدم المترجمين، ونقصد ماسرجويه الذي عهد إليه عمر بن عبد العزيز بترجمة كتيب في الطب، ولا نلبث أن نلتقي بابن المقفع الذي نشأ بها وتوفي سنة 143 للهجرة وكان يتقن الفارسية، ويحذق العربية فترجم إليها أروع ما في الفارسية من كنوز تاريخية وأدبية، كما ترجم كليلة ودمنة الهندية منها، وكذلك منطق أرسططاليس.
وبذلك نفهم السر في أن عقل البصرة كان أدق وأعمق من عقل الكوفة وكان أكثر استعدادا لوضع العلوم، إذ سبقتها إلى الاتصال بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليوناني وما وضعه أرسططاليس من المنطق وحدوده وأقيسته. ويمكن أن نلاحظ آثار ذلك في نشاط المباحث الدينية في البلدتين، فقد عُنيت الكوفة بالفقه بينما عُنيت البصرة بعلم الكلام، وحقا أشاع أبو حنيفة في الفقه القياس والرأي أو الاجتهاد، ولكن من يرجع إلى كتب الفقه الحنفي حتى في العصور المتأخرة يلاحظ أنه ينقصها دائما شيء من التعميم والتعريف ووضع القواعد الكلية، فباب البيع مثلا يفتح، ولا يصاغ له تعريف محدد، ولا تذكر له أركان وشروط، وإنما مسائل متناثرة يتوالى بعضها في إثر بعض. وهكذا دائما في الفقه الحنفي يغلب أن يفتح الباب على فروع دون أصول عقلية تضم شعبها الكثيرة. بينما علم الكلام يناقش مسائل كلية، وهي مسائل ميتافيزيقية، والمسألة تثار في ضوء تفكير فلسفي معقد، مما يدل على صلة المتكلمين العميقة بالفلسفة اليونانية، حتى لنرى الجاحظ يقول: “لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام، متمكنا في الصناعة، يصلح للرياسة حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة”[6].
فعقل كل من البلدتين كان مختلفا: عقل مصبوغ بالصبغة الفلسفية المنطقية، وعقل لا يرتفع إلى هذه المنزلة إلا في حدود ضيقة؛ لذلك كان طبيعيا أن لا يصاغ الفقه الحنفي الكوفي صياغة علمية دقيقة، بينما يصاغ النحو في أدق صورة علمية ممكنة على نحو ما سنرى في كتاب سيبويه، وهي صياغة لم تستطع العصور التالية أن تضيف إليها إلا بعض تعريفات وبعض تسميات، أما الأصول وأما القواعد والضوابط والأسس فإنها ظلت قائمة كالأطواد الراسخة.
المصدر: المدارس النحوية