المؤلف: أبو القاسم الزَّجَّاجي
المحقق: الدكتور مازن المبارك
باب علة امتناع الأسماء من الجزم
قال سيبويه في ذلك قولين. قال في أول الرسالة، وهو القول الذي يعتمد عليه أصحابه، لم تجزم الأسماء لخفّتها ولزوم التنوين إياها، فلو جُزمت سقطت منها الحركة والتنوين، فكانت تختل وذلك أنك لو أردت جزم جعفر لزمك إسكان الراء، وبعدها التنوين، فكان يلزم حذف التنوين، لأنه ساكن وقبله الراء ساكنة، فكان يختل الاسم لذلك. ومع ذلك فإنه قد يكون من الأسماء ما يكون الحرف الذي قبل آخره ساكناً، نحو زيد وبكر وما أشبه ذلك، فلو جزم هذا النوع من الأسماء اجتمع فيه ثلاث سواكن فلم يمكن ذلك.
سؤال على أصحاب سيبويه، يقال لهم: فهلا حين قدّرتم إسكان الراء من جعفر للجزم، وبعده التنوين كما ذكرتم، حرَّكتم أحد الساكنين ولم تقدروا حذفه؟
الجواب أن يقال له: لو حرَّكنا الراء من جعفر لالتقاء الساكنين بطل لفظ الجزم من الكلام، لأنه كان كلما جزم وأسكن آخره للجزم، يلزم أن يحرَّك لالتقاء الساكنين، وهما الحرف الأخير والتنوين الذي بعده، وكان يبطل لفظ الجزم من الكلام. مثال ذلك: أنك لو أردت جزم مثال جعفر، لزمك إسكان آخر وتحريكه للتنوين الذي بعده.
سؤال آخر على أصحاب سيبويه في هذا المذهب. يقال لهم: فهلا حذفتم آخر الحروف وأبقيتم على التنوين لالتقاء الساكنين، كما تفعلون ذلك في الأفعال المعتلة اللامات، نحو يقضي ويغزو وما أشبه ذلك، فإذا جزمتموها حذفتم أواخرها، وقد كانت أواخيرها عندكم في نيَّة حركة قبل الجزم في حال الرفع، لأن الجازم يدخل على الفعل المرفوع فيجزمه، لأن المنصوب لا يدخل عليه الجازم. فلمّ أجزتم في الأفعال حذف حركة وحرف، ولم تجيزوا ذلك في الأسماء وقلتم إنها تختل؟
الجواب في ذلك أن يقال: إن الأفعال المعتلة اللامات قد سلبت حركتها في حال الرفع، فصار يُنطلق بها غير متحركة لاستثقال الحركات فيها، فصارت بمنزلة غير متحركة، كقولك زيد يقضي ويمشي ويدعو ويغزو، فصار في هذه الحال بمنزلة سائر السواكن، فلما دخل عليه الجازم حذفت الساكن لأن الجزم هو القطع، فإذا صادف الجازم حركة حذفها، وإذا لم يصادف حركة وصادف حرفاً ساكناً حذفه، لئلا يكون الجزم كالرفع، فلم يحذف الجزم غير حرف واحد، ولم يحذف الحركة لأنها قد كانت حذفت قبله لعلة أخرى، والاسم ليس كذلك لأنه متحرك الأخِر، وأنت تسلب منه الحركة للجزم، ثم يلتقي الساكنان فيحذف آخره، فيكون الجزم ذهاب الحركة والحرف معاً فكان يختل. والدليل على صحة ما قلناه، أن من يجري المعتل مجرى الصحيح من العرب، فيقول: زيد يقضي ويمشي ويغزو ويدعو، فيحرك آخره في حال الرفع، لا يحذف منه في حال الجزم إلا الحركة وحدها، ويدع الحرف، فيقول: زيد لم يقضي ولم يمشي بإثبات الياء، فيجعل حذف الحركة علامة للجزم. وكذلك يقول في الرفع زيد يغزو ويدعو، لأنه يجريه مجرى الصحيح. وهي لغة للعرب مشهورة متفق على حكايتها. وأنشدوا من هذه اللغة:
(ألم يأتيكَ والأنباءُ تَنْمِي … بما لاقت لَبونُ بني زيادِ)
جعل إسكان الياء في يأتيك علامة للجزم، لأنه كان يضمّها في حال الرفع. سؤال آخر على أصحاب سيبويه في هذا المذهب يقال لهم: فإذا كنتم إنما امتنعتم من جزم الأسماء لئلا تحذفوا منها حركة وتنويناً كراهية أن تختل، فما بالكم تقولون: هذا قاضٍ وغازٍ وداعٍ ومشترٍ ومهتدٍ. ومررت بقاضٍ وغازٍ وداعٍ وما أشبه ذلك من الأسماء اللواتي في أواخرها ياءات مكسورة ما قبلها، فتحذفون منها في حال الرفع الضمة، وفي حال الخفض الكسرة، ثم تحذفون الياء لسكونها وسكون التنوين، فتذهبون من الاسم حرفاً وحركة، وهذا هو الذي من أجله امتنعتم من جزم الأسماء بزعمكم؟
الجواب أن يقال: إن هذا الاختلاف، وإنه كان يلحق بعض الأسماء لاعتلالها، فيس بلازم للأسماء كلها، فاحتمل في ذلك أن كان غير عام للأسماء كلها. ونحن لو أوجبنا للأسماء من أول وهلة الجزم لحقها الحذف والاختلال فكان يكون ذلك إجحافاً بها أصلاً. وما لم يكن عاماً وكان نزراً يسيراً في جنب الأسماء الصحاح، كان أسهل فاحتمل فيه ذلك.
جواب آخر أن يقال: إن هذه الأسماء معتلة اللامات نحو قاض وداع وما أشبه ذلك، وإن كان يلزمها الحذف في بعض الأحوال، فليس بلازم لها. ألا ترى إذا أدخلت فيها الألف واللام أو أضفتها لم تسقط منها شيئاً. كقولك: هذا القاضي والغازي والداعي، وهذا قاضي واسط، وغازي بلاد العدو، وما أشبه ذلك. فلما كان الحذف إنما يلحقها في حال واحدة استجازوه فيها، فلم يكن مفسداً لأصولها ولا ناقضاً لمعنى. ولو أوجبنا لها ولسائر الأسماء الجزم، كان حذف الحركة لازماً لها في كل حال، وكان الحكم على لزوم الاختلال لها واجباً، فلم يجز لذلك.
جواب آخر ثالث: وهو أن هذه الأسماء يجريها كثير من العرب بالإعراب ولا يستثقلون فيها الحركات، فلا يحذفون منها شيئاً في حال رفع ولا نصب ولا خفض، فيقولون: هذا قاضي وغازي وداعي. ومررت بقاضي وغازي وداعي وكذلك ما أشبهه فيجرونه بالإعراب ولا يحذفون منه شيئاً. فهذا السؤال ساقط على مذهب هؤلاء.
جواب رابع يقال: هذه الأسماء لما كانت معتلَّة، ولم تسع الحركات فيها في حال الرفع والخفض؛ فجعل التنوين فيها عوضاً من نقصان البناء، لا علامة للصرف فلما لزمها التنوين حذفت الياء وبقي ما يدل عليها وهي الكسرة. فكان في التنوين عوض من نقصان الياء وفي الكسرة دليل على الياء.
والدليل على أن التنوين في هذه الأسماء عوض من نقصان البناء، تنوينك مثل: جوار وقواض وغواش وسوار، في حال الخفض والرفع. فأما في حال النصب فإن البناء يتم لخفة الفتحة؛ فترجع إلى الامتناع من الصرف لكمال البناء، كقولك في الخفض والرفع: هؤلاء جوارٍ وغواشٍ، ومررت بجوارٍ وغواشٍ؛ وفي النصب: رأيت جواريَ وغواشيَ وقواضيَ، لا تصرفه. وكذلك لو سميت امرأة ورجلاً بقاضٍ وغازٍ وما أسبه ذلك، لنونته في حال الرفع والخفض، ومنعته من التنوين في حال النصب إذا كان اسماً لامرأة، ونوته إذا كان لمذكر. وهذا يدل على أن التنوين عوَّض من نقصان البناء، وأن هذا التنوين مخالف للتنوين الذي يلزم الأسماء السالمة.
القول الثاني من قول سيبويه في امتناع الأسماء من الجزم.
قال في آخر الرسالة: واعلم أن الأفعال أثقل من الأسماء، لأن الأسماء هي الأولى وهي أشد تمكناً، فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون، هذا لفظ سيبويه. وقد صرح بهذا القول إن الأسماء أخف من الأفعال، وإن الأفعال أثقل من الأسماء، وإنه إنما جزمت الأفعال لثقلها، فخففت بالجزم لأنه حذف. وإن الأسماء كانت أحمل للخفض لخفتها ليعتدل الكلام فتخفيف الثقيل وإلزام بعض الثقيل للخفيف، وهذا هو قول الفراء.
وأكثر الكوفيين قالوا: لم تخفض الأفعال لثقلها، ولم تجزم الأسماء لخفتها ليعتدل الكلام. وقد مضى القول في الدلالة على ثقل الفعل وخفة الاسم.
وقال جماعة من الكوفيين والبصريين: لم تجزم الأسماء لاستحالة دخول الأدوات الجازمة عليها، لأن الأدوات الجازمة إنما هي للنفي أو للنهي أو الجزاء أو الأمر، وما أشبه ذلك، ودخولها على الأسماء غير سائغ، فامتنعت من الجزم لذلك.
المصدر: الإيضاح في علل النحو