ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما جرى مجرى الفاعل الذي يتعدى فعله إلى مفعولين، في اللفظ لا في المعنى، وضع فيما فصل فيه بين الجار والمجرور بالظرف في الشعر نحو قوله:
كما خُطّ الكتابُ بكفّ يوما … يهوديٍّ يقاربُ أو يُزيلُ
ونحو:
………. … لله درُّ اليومَ مَن لامها
وقول الأعشى:
إلا عُلالةَ أو بُدا … هةَ قارحٍ نَهْدِ الجُزارهْ
وقول الفرزدق:
يا من رأى عارضًا أُسَرُّ به … بين ذراعَيْ وجبهةِ الأسدِ
أي: بين ذراعي الأسد وجبهته، وكذلك بيت الأعشى، وكذلك ما ذكر أنه يجوز في الشعر، وهو مررت بخيرِ وأفضلِ مَن ثَمَّ، ولم يقل: بخير وأفضلهم من ثم وهذا معطوف والأول ظرف، ولكنه مر في القياس من باب العطف، بمنزلة:
يا تيمَ تيمَ عدي
أضاف الثاني وحذف المضاف إليه الأول، وكذلك:
يا بؤسَ للحربِ
وما أشبهه.
قال أحمد: أما قوله: إن المعطوف الذي فصل [به] بين الجار والمجرور مثل:
يا تيم تيم عدي ……. …. ………………………..
و:
………………….. … يا بؤس للحرب …………..
فـ (يا تيم عدي) جائز في الكلام، وليست التفرقة بالمعطوف جائزة إلا في الشعر، لأن الاسم الثاني في (يا تيم تيم عدي) هو الأول بعينه، وكأنه قال: (يا تيم تيم عدي)، ولم يزد بذكر الثاني معنى في الكلام، فكأنه لم يذكره، وصار هذا مُشبِها لـ (ما) إذا دخلت زائدة ولم توجب في الكلام معنى، فهو في (ما) أحسن، لأنه حرف، ويتلوه (يا تيم تيم عدي)، وكذلك لا أبالك إذا جئت باللام، فهو كمعنى قولك: لا أباك <لو قيل>.
فأما المعطوف في نحو قول الشاعر:
………………… …. بين ذراعي وجبهة الأسد
فقد أوجب في الكلام “معنى” وزيادة لم تكن فيه قبل دخولها، فصار أقبح من (يا تيم تيم عدي) ولم يجز إلا في الشعر، لأنها فصل في اللفظ والمعنى، وذلك فصل في اللفظ دون المعنى، وكان حق الكلام، بين ذراعي /٣١/ الأسد وجبهته، فيكون الأول مضافا إلى الاسم الظاهر، والثاني إلى مضمره، ويكون مع كل واحد منهما اسم مضاف إليه في اللفظ، فلما كانا في المعنى مضافين إلى شيء واحد، ولم تكن إضافتهما جميعا إليه في اللفظ بمحيل للمعنى، أجازوه في الشعر، وإنما قبح من جهة لفظه لا من استحالة معناه، ولو كانا مضافين إلى شيئين في المعنى لم يجز الحذف للالتباس.
وأما قوله: ولو أراد التفرقة لقال: بين ذراعي وجبهته الأسد، فهو مفرِّق قال ذلك أو لم يقله، لأن المعنى قد علم أنه يريد إضافتهما إلى الأسد، والأول هو أولى بالإضافة إلى الاسم الظاهر من الآخر، ألا ترى أنه إذا قدر قيل: ذراعي الأسد وجبهته، فإن قال: إنه حذف الأسد من الاسم الأول، وكان التقدير بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد، قيل له:
إنما يتأول للوجه حتى يخرج من القبح إلى الحسن، فإذا كان التأويل يخرجه إلى الأقبح سقط ولم يكن له وجه، ولو جاز ما قلت لجاز أن تأتي بمضاف وتسقط المضاف إليه فتقول: عجبت من يَدَيْ، تريد زيد: إذا علم ذلك بضرب من الاستدلال على زيد، وهذا أقبح من التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، لأن ذلك كثير في أشعار العرب، وهذا لا يكاد يُعرف، أعني عجبت مِن يَدَيْ، ورأيت غلامَيْ.
المصدر: الانتصار لسيبويه على المبرد