المؤلف: أحمد شوقي عبد السلام ضيف
البصرة واضعة النحو
صنيع أبي الأسود [1] الدؤلي وتلاميذه
لما كانت العلوم في الأمم لا تظهر فجأة، بل تأخذ في الظهور رويدا رويدا حتى تستوي على سوقها، كان ذلك مدعاة في كثير من الأمر لأن تغمض نشأة بعض العلوم، وأن يختلط على الناس واضعوها المبكرون. وهذا نفسه ما حدث فيمن نسبت إليهم الخطوات الأولى في وضع النحو العربي، وفي ذلك يقول السيرافي: اختلف الناس في أول من رسم النحو، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، وقيل: هو نصر[2] بن عاصم، وقيل: بل هو عبد الرحمن[3] بن هرمز، وأكثر الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي[4].
وتضطرب الروايات في وضع أبي الأسود للنحو، فمنها ما يجعل ذلك من عمله وحده، ومنها ما يصعد به إلى علي بن أبي طالب، إذ يروون عن أبي الأسود نفسه أنه دخل عليه وهو بالعراق، فرآه مطرقا مفكرا، فسأله فيم يفكر؟ فقال له: سمعت ببلدكم لحنا، فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية، وأتاه بعد أيام فألقى إليه صحيفة فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل” ثم قال له: “اعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر”. وتمضي هذه الرواية فتذكر أن أبا الأسود جمع لعلي أشياء وعرضها عليه، كان منها حروف النصب: إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم يذكر أبو الأسود: لكن، فقال له علي: لم تركتها؟ فقال: لم أحسبها منها، فقال: بل هي منها، فزدها فيها[5]. ولهذه الرواية صور أخرى[6] تلتقي بها.
ويقول القفطي المتوفى سنة 646 للهجرة: “رأيت بمصر في زمن الطلب بأيدي الورّاقين جزءا فيه أبواب من النحو يُجمعون على أنها مقدمة علي بن أبي طالب التي أخذها عنه أبو الأسود الدؤلي”[7].
فالمسألة لم تقف عند سطور أو بعض أبواب نحوية تذكر مجملة، بل اتسعت لتصبح مقدمة أو رسالة صنّفها علي بن أبي طالب، وكأنه لم يكن مشغولا حين ذهب إلى العراق والكوفة بإعداد الجيوش لحرب معاوية، ولا كان مشغولا بحروب الخوارج، إنما كان مشغولا بالنحو ووضع رسومه وأصوله وفصوله. وطبائع الأشياء تنفي أن يكون قد وضع ذلك، ونفس الرواية السالفة وما أشبهها من الروايات تحمل في تضاعيفها ما يقطع بانتحالها لما يجري فيها من تعريفات وتقسيمات منطقية لا يعقل أن تصدر عن علي بن أبي طالب أو عن أحد من معاصريه، ولعل الشيعة هم الذين نحلوه هذا الوضع القديم للنحو الذي لا يتفق في شيء وأولية هذا العلم ونشأته الأولى.
وقد تقف الروايات في الواضع الأول للنحو عند أبي الأسود، غير أنها تعود فتضطرب في السبب الذي جعله يرسمه وفي حاكم البصرة موطنه الذي بعثه على هذا الرسم والأبواب الأولى التي رسمها فيه. فمن قائل: إنه سمع قارئا يقرأ الآية الكريمة:
﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ بكسر اللام في رسوله، فقال: ما ظننت أمر الناس يصل إلى هذا واستأذن زياد بن أبيه والي البصرة “45-53هـ”، وقيل: بل استأذن ابنه عبيد الله واليها من بعده “55-64هـ” في أن يضع للناس رسم العربية.
وقيل: بل وفد على زياد، فقال له: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون -أو يقيمون- به كلامهم. وقيل: بل إن رجلا لحن أمام زياد أو أمام ابنه عبيد الله، فطلب زياد أو ابنه منه أن يرسم للناس العربية.
وقيل: إنه رسمها حين سمع ابنته تقول: ما أحسنُ السماء وهي لا تريد الاستفهام وإنما تريد التعجب، فقال لها قولي: “ما أحسنَ السماءَ”.
وفي رواية أنه شكا فساد لسانها لابن أبي طالب، فوضع له بعض أبواب النحو وقال له: انحُ هذا النحو، ومن أجل ذلك سمي العلم باسم النحو. ويقول بعض الرواة: إنه وضع أبواب التعجب والفاعل والمفعول به وغير ذلك من الأبواب، ويقول آخرون: إنه وضع أبواب التعجب والاستفهام والعطف والنعت وإن وأخواتها.
وقد يكون ذلك من صنع الشيعة، وكأنهم رأوا أن يضيفوا النحو إلى شيعي قديم، فارتفع به بعضهم إلى علي بن أبي طالب، ووقف به آخرون عند أبي الأسود صاحبه الذي كان يتشيع له، ويظهر أن نحلهم إياه وضع النحو قديم، إذ نجد ابن النديم يقول: إنه رأى عند بعض الوراقين أربعة أوراق عن أبي الأسود كتبها يحيى[8] بن يعمر المتوفى سنة 129 للهجرة وفيها كلام في الفاعل والمفعول[9].
وأقدم من ذلك ما جاء عند ابن سلام إذ يقول: “كان أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي، وإنما قال ذلك حين اضطرب لسان العرب وغلبت السليقة وكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم”[10].
وقد يُشرك بعض الرواة معه في هذا الصنيع تلميذيه نصر بن عاصم وابن هرمز، إذ يقول الزبيدي: “أول من أصّل النحو وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدولي ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، فوضعوا للنحو أبوابا وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف”[11].
وكل ذلك من عبث الرواة الوضاعين المتزيدين، وهو عبث جاء من أن أبا الأسود نسب إليه حقا أنه وضع العربية، فظن بعض الرواة أنه وضع النحو، وهو إنما وضع أول نقط يحرر حركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم بأمر من زياد بن أبيه أو ابنه عبيد الله، وقد اتخذ لذلك كاتبا فطنا حاذقا من بني عبد القيس، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت شفتي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت شفتي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت شفتي فاجعل النقطة من تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة “تنوينا” فاجعل مكان النقطة نقطتين. وابتدأ أبو الأسود المصحف حتى أتى على آخره، بينما كان الكاتب يضع النقط بصبغ يخالف لونه لون المداد الذي كتبت به الآيات[12].
وكان هذا الصنيع الخطير الذي سمي باسم رسم العربية سببا في أن يختلط الأمر فيما بعد على الرواة، فتظن طائفة منهم أن أبا الأسود رسم النحو وشيئا من أبوابه، وهو إنما رسم إعراب القرآن الكريم عن طريق نقط أواخر الكلمات فيه.
وحمل هذا الصنيع عن أبي الأسود تلاميذه من قراء الذكر الحكيم، وفي مقدمتهم نصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز ويحيى ين يعمر وعنبسة[13] الفيل وميمون[14] الأقرن، فكل هؤلاء “نقطوا المصحف وأُخذ عنهم النقط وحُفظ وضُبط وقُيِّد وعُمل به واتُّبع فيه سنتهم واقتُدي فيه بمذاهبهم”[15] وأضافوا إلى ذلك عملا جليلا هو اتخاذ نقط جديد للحروف المعجمة في المصاحف تمييزا لها من الحروف المهملة، فقد ذكر الرواة أن الحجاج في ولايته على العرق “74-95هـ” أمر نصر بن عاصم أو يحيى بن يعمر بإعجام حروف المصحف لتمييز الحروف بعضها من بعض[16]. ويروى أن ابن عاصم كان أول من عشَّر المصاحف وخمَّسها، وبعبارة أخرى: كان أول من قسم آيات المصحف أقساما.
وكل من ذكرناهم من تلاميذ أبي الأسود كانوا من قراء الذكر الحكيم، وكان يؤخذ عنهم النقطان جميعا؛ نقط الإعراب ونقط الإعجام. وكان ذلك عملا خطيرا حقا، فقد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه، مما جعل بعض القدماء يظن أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافا منها، وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب لا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة من مثل الباء التاء والثاء والنون.
المصدر: المدارس النحوية
[1] انظر في ترجمة أبي الأسود المتوفى سنة 69 للهجرة الشعر والشعراء لابن قتيبة “طبع دار المعارف” ص707، ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي “طبع مكتبة نهضة مصر” ص6، وأخبار النحويين البصريين للسيرافي “طبع بيروت” ص13، وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي “طبعة الخانجي” ص13، وأسد الغابة 3/ 69، والإصابة 2/ 232، والأغاني “طبع دار الكتب المصرية” 12/ 297، ونزهة الألباء لابن الأنباري “طبع دار نهضة مصر بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم” ص6، ومعجم الأدباء “طبعة فريد رفاعي” 12/ 34، وإنباه الرواة للقفطي “طبعة دار الكتب المصرية” 1/ 13 وما به من مراجع.
[2] انظر في ترجمة نصر المتوفى سنة 89 الزبيدي ص21، والسيرافي ص20، وابن الأنباري ص14، وأبا الطيب اللغوي ص13، ومعجم الأدباء 19/ 224، والقفطي 3/ 343، وما به من مراجع.
[3] راجع في ترجمة ابن هرمز المتوفى بالإسكندرية سنة 117 طبقات ابن سعد 5/ 209، والزبيدي ص19، والسيرافي ص21، وابن الأنباري ص15، وإنباه الرواة للقفطي 2/ 172 وما به من مراجع.
[4] السيرافي ص13.
[5] القفطي 1/ 4.
[6] انظر ترجمة أبي الأسود في ابن الأنباري ص6 وما بعدها، ومعجم الأدباء لياقوت 14/ 49. وعند ابن الأنباري أن أبا الأسود كان كلما وضع بابا من أبواب النحو، عرضه على إمامه علي بن أبي طالب.
[7] القفطي 1/ 5.
[8] انظر في ترجمة ابن يعمر أبا الطيب اللغوي ص25، والزبيدي ص22، وابن الأنباري ص16، والسيرافي ص22، والبيان والتبيين 1/ 377، ومعجم الأدباء 20/ 42، وبغية الوعاة للسيوطي “طبع مطبعة السعادة” ص417.
[9] الفهرست لابن النديم “النشرة الثانية للمكتبة التجارية” ص66.
[10] طبقات فحول الشعراء لابن سلام “طبع دار المعارف” ص12.
[11] الزبيدي ص2.
[12] راجع كتاب المحكم في نقط المصاحف للداني “طبع دمشق” ص3 وما بعدها، والقفطي 1/ 5.
[13] انظر في ترجمة عنبسة أبا الطيب اللغوي ص11، والزبيدي ص24، والسيرافي ص23، وابن الأنباري ص12، ومعجم الأدباء 16/ 133، وإنباه الرواة 2/ 381، وبغية الوعاة ص368.
[14] راجع في ترجمة ميمون أبا الطيب اللغوي ص11، والزبيدي ص24، والسيرافي ص22، ومعجم الأدباء 19/ 209، وإنباه الرواة 3/ 337، وبغية الوعاة ص401.
[15] المحكم في نقط المصاحف ص6.
[16] التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري ص10.