متى يتكلم العلم العربية؟ (الطب نموذجًا)
د. محمود فوزي المناوي
مسيرة اللغة:
قبل أن تشرق شمس الإسلام على الدنيا، كانت لغتنا العربية الباقية، قد استقرت مكانتها – زمنًا طويلاً – لغة للحديث، تلهج بها الألسنة، ولغة للتجارة يستخدمها أهل البيع والشراء، ولغة للشعر ينشد بها الشعراء، وينقل عنهم الرواة، ووسيلة لأرباب الفصاحة من الخطباء، يعبرون بها عن عواطفهم، ويعربون بها عن أفكارهم، وما يجيش في صدورهم من إحساسات ومشاعر. وعندما اختارها الرحمن، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وعاءً للقرآن، ازدادت به رقيًا في الأداء، ودقة في التعبير، وازدانت بسمات الجمال والجلال، وضمن لها الخلود. وحين شاء الله أن يفتح لعباده المؤمنين أقطار الدنيا، حملها المجاهدون معهم لأنها لسانهم، ولأنها لغة العبادة ولغة الدعاء. وما كاد القرن الأول الهجري يوشك على التمام، حتى اتسعت رقعتها فيما بين حدود فرنسا (بلاد الغال)، إلى أقاصي أرض التركستان، على حدود الصين. وكلما دخل الناس في دين الله أفواجًا، صحبته “العربية” لغة للشعائر، وإقام الصلاة، وتلاوة الذكر الحكيم.
ومع انتصاف القرن الثاني الهجري، بدأ التمازج بين الحضارة الإسلامية وحضارات البلاد المفتوحة، التي أصبح من أهلها حفاظ القرآن الكريم، ورواة الحديث الشريف، كما أصبح من العرب من يعرف العلوم النظرية والعلوم التطبيقية، ولتصير “اللغة العربية” بعد ذلك لسان العلماء في هذه العلوم، ولغة للعلم بمفهومه الحديث.
وقد سبقت ذلك بوادر على الطريق، وظهر من قبل علماء تحدث عنهم التاريخ.
بوادر على طريق العلم والطب
أول الأطباء:
لاشك أن كل مجتمع قديم كان فيه من يعالج الأمراض، ويصف للمرضى الدواء. والمجتمع العربي، قبل الإسلام، مثل غيره من المجتمعات، كان فيه “الأساة” و”الآسيات” و”المتطببون“، غير أن واحدًا من هؤلاء – دون غيره – قدر له أن يتلقى الطب في أشهر معهد علمي في الشرق حينذاك، وهي جامعة “جنديسابور” في بلاد فارس، والتي اجتمع فيها علماء من الروم والفرس، ومن مدرسة الإسكندرية القديمة. أما الطبيب العربي الذي تعلم فيها، فهو “الحارث بن كلدة الثقفي” الذي رحل من “الطائف” إلى “جنديسابور” وأخذ الطب عن علمائها، ومارسه هناك، ثم عاد إلى بلده الطائف. وتروي كتب التراجم عنه حكايات كثيرة تظهر علمه وبراعته، ومنها حديث مطول دار بينه وبين كسرى فارس. وإذا أسقطنا جميع هذه الحكايات التي تروى عنه، بقيت لنا صورة تاريخية عن طبيب متعلم يتقن صنعته.
أول الكيميائيين:
هو خالد ابن الخليفة الأموي “يزيد بن معاوية بن أبي سفيان” الذي اهتم بعلم “الصنعة” ومعرفة الطب، ومؤلفاته عديدة في صنعة الكيمياء، نثرًا وشعرًا، حتى إن واحدًا منها فقط بلغ خمسمائة ورقة – شعرًا. إلى جانب كتاب “الحرارات” وكتاب “الصحيفة الكبرى” وكتاب “الصحيفة الصغرى” وكتاب “وصيته إلى ابنه في الصنعة“، و”مقالتي مريانس الراهب في الكيمياء“.
لقد انصرف عن طلب الخلافة إلى طلب العلم، واستطاع أن يحيط بعلم العرب وعلم العجم، واستقدم بعض العلماء من الإسكندرية، ممن يعرفون اللغتين اليونانية والعربية، فنقلوا له كتب العلم من اللسان اليوناني واللسان القبطي إلى العربي، وكان هذا أول نقل للعلم، في الإسلام من لغة إلى لغة.
عندما تكلم الطب العربية
كانت للمسلمين – عربًا وغير عرب – عقيدتهم التي جمعتهم ووحدت قلوبهم، وصارت “العربية” لغة علمهم ومعارفهم، حتى صح لديهم القول المأثور “ليست العربية بأب أو أم إنما هي لسان“. وفي نطاق سماحة الإسلام واتساع لغة العرب، شارك الجميع في بناء صرح الحضارة الإسلامية، لا فرق بين عربي وغير عربي.
أحدث نزول الوحي في المجتمع القبلي الجاهلي ثورة ثقافية عظمى. فكان القرآن هو المركز الذي دارت حوله دوائر علوم الحضارة العربية. فكان تقعيد قواعد اللغة – أي علوم اللغة – هو أول إنجازات الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وأساسها الوطيد.
ولقد كانت للمسلمين – منذ عصر النبوة – علومهم التي شغفوا بها: رواية ودراية، حتى إذا جاء العصر العباسي ورسخت أصولها، أصبحت لها مناهج واضحة، وضعوها على غير مثال. وفي مقدمة ذلك: علم الحديث، وعلم الفقه، وعلم اللغة، وعلم النحو، وعلما العروض والقافية.
ومن ثم أعدتهم علومهم ومناهجهم لاستيعاب علوم وحضارات اليونان والهند وغيرها، من رياضيات وفلك وفيزياء وكيمياء وطب.
ركة ترجمة الطب:
كان الطب من أبرز العلوم التي عنى الخلفاء العباسيون الأوائل بنقلها، فاستعانوا بالخبراء لنقلها إلى لغة العرب، حتى صارت هناك نهضة طبية، تعاقبت خطواتها سراعًا، من مرحلة الترجمة إلى مرحلة التأليف، منذ استقدم “الخليفة أبو جعفر المنصور” رئيس أطباء “جنديسابور” وهو “جورجيس بن بختيشوع” السورياني، الذي حضر إلى “بغداد” ومعه اثنان من تلاميذه هما “إبراهيم” و”عيسى” بن شهلا.
ثم عمرت بغداد بالوافدين من العلماء في شتى العلوم، من أنحاء الدولة الإسلامية، ولما بدأت حركة الترجمة، شارك فيها أهل العراق وفارس والشام والهند.
كان من مشاهير الذين عربوا الطب عن اليونانية وغيرها من اللغات آنذاك مجموعة من أبناء الأسر المشهورة بهذه المعرفة ومنهم: آل “بختيشوع” وأولهم جورجيس ثم ابنه “بختيشوع“. وآل حنين من أهل “الحيرة” وأولهم “حنين بن إسحاق” وآل “ماسرجويه” وأولهم “ماسرجويه” طبيب “البصرة” وآل “ثابت” وأولهم “ثابت بن قرة” من مدينة “حران” ومن أشهر الأفراد: “حبيش الأعسم الدمشقي” و”قسطا بن لوقا البعلبكي“.
مرحلة التأليف العربي في الطب
يمكن القول بأن حركة التأليف العربي المستقل؛ بدأت قرب نهاية القرن الثالث الهجري، وكان من أوائل المؤلفين في هذا المضمار “سنان بن ثابت بن قرة”، الذي ألف بعض الرسائل التي تعتبر بمنزلة “المذكرات” التي ينقلها الطلبة عن الأساتذة، خاصة أن “سنان” عهد إليه بامتحان الأطباء قبل الإذن لهم بممارسة المهنة، كما كان يسهم مع أبيه “ثابت” في إنشاء المستشفيات.
علي بن سهل وفردوس الحكمة:
هو أبو الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري، من أطباء القرن الثالث الهجري، عمل في ديوان الخليفة العباسي “المعتصم” واعتنق الإسلام على يد الخليفة المتوكل، وتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري، وله حوالي عشرة مؤلفات في الطب والصيدلة، أشهرها جميعًا كتابه المسمى “فردوس الحكمة” وهو أقدم كتاب جامع لفنون الطب والصيدلة مما وصل إلينا من كتب العلماء العرب. وقد رتبه على سبعة أقسام في ثلاثين مقالة، جمعها في 360 بابًا. وعلى سبيل المثال: يشتمل القسم الرابع على اثنتي عشرة مقالة، ويتناول فيه الأمراض بصفة عامة، ثم الأمراض الخاصة، فيدرس أسبابها وعلاجها، مبتدئًا من الرأس حتى القدم، وينتهي بمقالة في الفصد والحجامة وفحص البول.
الرازي ومؤلفاته:
هو “أبو بكر محمد بن زكريا الرازي” (251-311هـ)، المولود في مدينة “الري”، والذي أمضى شطرًا من شبابه في بلاد فارس انتقل بعدها إلى بغداد. وتبلغ مؤلفاته حوالي 224 كتابًا، ضاع منها الكثير وبقي القليل. ومن أشهر كتبه في الطب كتاب “الحاوي” وهو موسوعة كبرى تقع في اثنين وعشرين جزءًا، وكتاب “المنصوري” في التشريح، وكتاب في الأمراض، وآخر في الحصبة والجدري، وكتاب “من لا يحضره الطبيب” ويعرف بطب الفقراء. وله دراسات كثيرة في أمراض النساء والولادة والأمراض التناسلية، والعيون، ومن كتبه “منافع الأغذية”. كما اهتم الرازي بكيفية اختبار الطبيب، لمعرفة علمه وقدرته، فألف في ذلك كتابًا عنوانه “محنة الطبيب”.
وللرازي كتب أخرى في الكيمياء، والرياضيات والهندسة وغيرها، وإذا كان بعض قدماء المؤلفين العرب يعتبره “إمام وقته في علم الطب”، فإن بعض العلماء الأوربيين في العصر الحديث يعتبره “أعظم أطباء العرب… وكيميائيًا ذا مقام رفيع، وعالمًا طبيعيًا”.
وقد ترجم الكثير من كتبه إلى اللغة اللاتينية وغيرها، وظل كتابه “الحاوي” عدة قرون أهم مرجع طبي في أوربا. أما رسالته في الجدري والحصبة فيقول عنها “ول ديورانت” في كتابه “قصة الحضارة”: “كانت (أي هذه الدراسة) أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين المرضين (أي الجدري والحصبة)” ويدل على أثرها وشهرتها “أنها طبعت بالإنجليزية أربعين مرة ما بين عامي 1498 و1866م”، ثم يقول ديورانت “كان الرازي – بإجماع الآراء – أعظم الأطباء المسلمين، وأعظم أطباء الطب الإكلينيكي في العصور الوسطى”.
ابن سينا وقانونه:
هو الطبيب الفلكي والفيلسوف الرياضي “أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا” المولود في سنة 371هـ والمتوفى في سنة 428هـ، أي أنه عاش حياته فيما بين القرنين الرابع والخامس.
اشتهر بلقب الشيخ الرئيس، وأطلق عليه المشتغلون بالفكر والفلسفة لقب المعلم الثالث، تاليًا في الترتيب أرسطو والفارابي. يهمنا من كتبه الكثيرة “القانون” الذي حظي بالتفضيل على ما سبقه من مؤلفات طبية، لما تميز به من دقة وحسن تبويب، ومن عرضه تجاربه وخبرته.
ويشتمل “القانون” على خمسة كتب، يختص الكتاب الأول منها بالأمور الكلية في الطب، ويهتم الكتاب الثاني بمفردات الأدوية، أما الثالث فيتناول الأمراض الجزئية، التي تصيب كل جزء من أجزاء الجسم، ويعرض الرابع للأمراض العامة، ويعنى الكتاب الخامس بالأدوية المركبة وتحضيرها.
وقد ظلت طبعات هذا الكتاب العربية تتتابع منذ ظهرت طبعته العربية الأولى في روما سنة 1593م حتى منتصف القرن العشرين، كما ترجم إلى اللاتينية، وطبع بها عشرين مرة، كما طبع باللغات الأوربية العديدة، وظل عماد دراسة الطب في جامعات أوربا عدة قرون.
ومما يدل على امتلاكه ناصية علم الطب وفن النظم في وقت واحد، أن “ابن سينا” لخص هذا الكتاب في أرجوزة مطولة، أوردتها بنصها لأهميتها في كتابي “حكماء، وشعراء من أون إلى قصر العيني”.
وإذا كان ما تقدم واحدًا من نماذج وأمثلة محدودة للطب والأطباء في المشرق الإسلامي، عندما كانت لغتنا خير وعاء لهذا العلم، فقد كانت في المغرب الإسلامي نهضة مماثلة شاركت في إثراء تراثنا العلمي العريق في شتى المجالات، ومنها الطب. ويمكن – نظرًا لضيق المقام – الإشارة إلى بعض أعلامها الذين ذاع صيتهم في بلاد المغرب والأندلس ومصر، بل وفي أوربا نفسها.
من أشهر هؤلاء الأعلام في مصر، علي بن رضوان، ثم ابن النفيس (607-687هـ)، ومن أشهرهم في المغرب والأندلس، ابن طفيل وابن رشد (520-595هـ)، وغيرهم كثيرون. ويكفي التمثيل بنموذج متفرد من بين هؤلاء المشاهير.
الزهراوي وكتابه التصريف:
هو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (936-1013م)، نسبة إلى “الزهراء” ضاحية قرطبة، ويأتي في نهاية نسبه كلمة الأنصاري، لتشير إلى ارتباطه وأسرته بالأنصار أهل المدينة المنورة.
عاش الزهراوي في القرن الرابع الهجري وتوفي في أوائل القرن الخامس الهجري، حوالي 427هـ، والزهراوي من العلماء المتعمقين في الطب والصيدلة معًا، ينبئ عن ذلك كتابه “التصريف لمن عجز عن التأليف” الذي يشتمل على ثلاثين مقالة، تشتمل المقالة الأولى – إلى جانب الأمزجة وتركيب الأدوية – “على عيون من التشريح” كما تختص المقالة الثالثة والعشرون بالكلام على الضمائد لجميع علل البدن ومن القرن إلى القدم. أما المقالة الثلاثون فتتناول العمل باليد من الكي والشق والبط والجبر والخلع.
وبالرغم من أن بقية المقالات تهتم بالأدوية وأنواعها، فقد كانت شهرة الزهراوي قائمة على علمه بالجراحة، حتى اعتبر أشهر جراحي العرب وأشهر من ألف في الجراحة منهم. ويرجع ذلك إلى إبداعاته في هذا المجال، فهو أول من استعمل ربط الشرايين لمنع النزيف، وأول من رفع حصاة المثانة عن طريق المهبل، وأول من شق جيب المياه في أثناء المخاض لتعجيل الولادة، وأول من وصف “الهيموفليا”. ومن أهم ميزات كتابه أنه أكثر فيه من الرسوم، وأشكال الآلات الجراحية وأنواعها واختلاف تصميماتها، تبعًا لشكل الأعضاء، ومواضعها من الجسم، وأهم من ذلك كله، أن معظم هذه الآلات من اختراعه.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، واللغة العبرية، ونال شهرة واسعة في أوربا – في مجال الجراحة – حتى العصر الحديث.
أوربا تنقل علمنا:
يرى الباحثون في تاريخ الحضارات وفي تاريخ العلم – حتى من الأوربيين أنفسهم – أنه كان للعرب دور بارز في تكوين الفكر الأوربي، وأنه أكثر بروزًا في العلم بمختلف فروعه: الطب، والطبيعة، والكيمياء والفلك، والرياضيات، والتاريخ الطبيعي، والفلاحة.
وقد تم انتقال علمنا إليهم من خلال الاحتكاك الحضاري في ثلاث مناطق: الشرق العربي إبان الحروب الصليبية، وصقلية في أثناء حكم العرب لها حيث كان التفوق للحضارة العربية، والأندلس الإسلامية خصوصًا مدينة قرطبة.
إنتقال علومنا الطبية إلى أوروبا
عندما كان الطب عندنا في أوج شموخه وازدهاره، كانت الأمم الأوروبية تجهله جهلاً يكاد يكون تامًا، ولكنهم عندما علموا بتقدم الطب في بلاد الإسلام، أقبلوا على بلادنا يتعلمون فيها الطب على أيدي أساتذته. غير أن جهدهم الأكبر كان مقصورًا على الترجمة من لغتنا العربية إلى اللغة اللاتينية، مع جهد المترجمين اليهود من النقل عن العربية إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية في بعض الأحيان.
وكان من أوائل الكتب المترجمة من العربية كتاب “كامل الصناعة” أو “الملكي” الذي ألفه الطبيب “علي بن عباس” – لعضد الدولة البويهي. وقد ترجمه إلى اللاتينية “قسطنطين الإفريقي” (1020-1087م)، وكانت ترجمته فتحًا في تاريخ الطب الأوربي.
ومن الكتب التي نقلها الأوربيون – بالترجمة – عن طريق الأندلس، كتب الأدوية والعقاقير لابن البيطار، وأبي منصور الهراوي، وماسويه المارديني. ومن طب العيون (الكحالة) كتب علي بن عيسى، وعمار الموصلي.
أما كتب الرازي، وابن سينا، والزهراوي، فقد نالت عناية فائقة في ترجمتها وطبعها، وظلت تدرس في جامعات أوربا عدة قرون، في “مونبلييه” و”رانس” و”بولونبا” و”بادوا” و”أورليان” و”نابلي” و”اكسفورد” و”كمبردج” و”انجيه”، حيث أنشئت فيها مدارس للطب، وكلها كانت تستخدم الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية، أساسًا لتدريس الطب.
طور الكمون
ازدهرت لغتنا وتبوأت مكانتها الرفيعة، مع ازدهار أمتها ومنعتها، وقوة بأسها ورفعتها. وهكذا تقوى اللغة بقوة أبنائها، وتضعف بضعفهم. ولولا القرآن الكريم الذي ظل يحفظها، ولا يزال في الصدور وعلى الألسنة، لعصف بها ما عصف بلغات أخرى، تراجعت مكانتها بتراجع مكانة أهلها. وإذا كانت النهضة الأوربية تكونت في جانب منها بما نقلته عن لغتنا، فقد أتى علينا حين من الدهر – منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي – تعرضنا فيه للتضعضع، وتأثرت لغتنا بأوضاعنا المتداعية، بينما كانت أوربا تنشط فكريًا وعلميًا، بعلم تجريبي وفكر جديد، فانتزعت منا قصب السبق، علمًا وقوة، ثم ظهرت علينا في العصر الحديث بعلمها وقوتها وثقافتها. ولولا أصالة تراثنا وعمق قيمنا، لانتزعنا من جذورنا، وبهتت هويتنا، ومن ثم شهد القرن التاسع عشر الميلادي، شيئًا من الصحوة في بعض بلادنا، كان من بينها أرض النيل مصر. ويهمنا من شواهد تلك الصحوة هنا أن الطب عاد يتكلم العربية من جديد.
مؤقتًا: عاد الطب يتكلم العربية
واسمحوا لي أن أتحدث هنا عن معهدي “مدرسة طب قصر العيني”، الذي أعتبره بحق بيت الطب العربي الحديث، فمنذ نشأته، وهو يضم بين صفوفه طلابًا عربًا، وبخاصة من سورية ولبنان، منهم في عهد محمد علي: يوسف اسطفان، وغالب الخوري العقلني، والجراح النجار، ويوسف الجلخ، ويوسف لطيف، وسليم ملوك. ومنهم في عصر إسماعيل: فارس نجم، والشيخ شيبان الخان، وميلاد صغير، وإبراهيم صافي وسليمان أبو التحول. ثم شاكر الخوري، وإليال المرور، ونقولا لويس. وقد أصبح هؤلاء الأعلام المرجع الطبي لأبناء سورية ولبنان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
التدريس باللغة العربية:
على الرغم من أن مدرسة طب قصر العيني قامت على البعثات العلمية إلى أوربا، فإن تدريس الطب فيها كان باللغة العربية، وقد كتب كلوت بك (أنطوان برتسيلي كلوت) إلى محمد علي باشا والي مصر يقول “إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه” ولكي يحقق كلوت بك رؤيته تلك، ألحق المترجمين بمدرسة الطب واعتبرهم طلاب بها، وألحق بها معهم مائة طالب، اختيروا من الأزهر الشريف، وكان من هؤلاء التراجمة المسيو عينهوري، والمسيو رافائيل، اللذان ساعدا بكفاءة نادرة على ترجمة مؤلفات عديدة. ولم ترق فكرة التعليم باللغة العربية لفريق كبير من الأجانب، حتى إن بارون دي بواسليكوم الذي بعثته الحكومة الفرنسية لدراسة حال مدرسة الطب المصرية كتب يقول “إن مدارس الطب والصيدلة وفن البيطرة والكيمياء مكونة تمامًا من عرب، والمسيو كلوت يحاول أن يعطي تلاميذه روحًا وطنية عربية، ولا أعرف هل يستحق التأنيب أو التشجيع!!” وظل التعليم كذلك باللغة العربية حتى سنة (1903م) عندما أصدر اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني أمره باستبدال اللغة الإنجليزية باللغة العربية.
مكتبة طبية عربية:
وفي عهد رئاسة كلوت بك المدرسة عرب الأساتذة المصريون 86 مرجعًا طبيًا عن الفرنسية، وبذلك تكونت أول مكتبة عربية، وكانت تعتبر أكبر مكتبة طبية – في العالم – ترجمت من لغة إلى لغة أخرى آنذاك.
الطب يفقد لغته العربية
ظلت اللغة العربية لغة الدراسة بطب قصر العيني، وظل الأساتذة يؤلفون كتبهم الطبية بالعربية، إلى ما بعد الاحتلال البريطاني حوالي عشرين عامًا كاملة، ولكن سير آفلين بارنج (لورد كرومر) المعتمد البريطاني في مصر، ظل يضيق الخناق على مدرسة طب “قصر العيني” حتى تراجع عدد الطلاب بها إلى أقل من ثلاثين طالبًا.
ولما جاءت سنة 1903م اكتملت المؤامرة ونحيت اللغة العربية عن دراسة الطب، وحلت اللغة الإنجليزية مكان لغتنا العريقة.
ويمكننا أن نتفهم سياسة اللورد كرومر الملتوية والاستعمارية تجاه قصر العيني بقوله في تقريره سنة 1906م “تخرج في هذه المدرسة 20 طبيبًا في السنة الماضية، ولو أن عدد الراغبين في دخولها كثير، إلا أنه لا يقبل فيها غير 50 كل سنة، وذلك بالرغم من أن عدد الأطباء في القطر المصري لا يزال أقل بكثير، وكلما زاد الأهالي تنورًا زادت حاجتهم لاستشارة الأطباء، إلا أن الدكتور كتنج رئيس المدرسة يقول “إنه مقتنع تمامًا بوجوب الحذر في التقدم بهذه المدرسة، خصوصًا من جهة عدد خريجيها”، ويقول: “إنه لو تخرج كثير من الشبان ولم يجدوا عملاً كافيًا في الخارج فيؤثر ذلك في حالة المدرسة، فينقص عدد الراغبين في دخولها، ولا ضرورة لزيادة طلبة المدرسة ما دامت الحكومة لم تشك سنوات متتالية من قلة الأطباء (!!!) ومع كل فأنا مقتنع بأننا لا نجد عاملاً في هذه البلاد أشد خطرًا من إيجاد أطباء محتاجين!!” سبحان الله!!!
ولا مبالغة في القول بأن ما حدث في مصر إبان الاستعمار البريطاني، حدث مثله في البلاد العربية التي ابتليت به، من محاولات “النجلزة” والقضاء على الهوية، وكذلك ما حدث في بلادنا العربية التي منيت ببلاء الاحتلال الفرنسي، ومحاولة “فرنسة” هذه البلاد، لولا كفاح أهلنا في كل مكان، وتشبثهم بأصالتهم، واستماتتهم في الدفاع عن كيانهم وثقافتهم ولغتهم، وإن كانت هناك ندوب ماثلة تحتاج إلى علاج ومداواة.
العربية والعلم وعصر العولمة
إن ما يشهده العصر الحاضر من “ثورة معلوماتية” وتقنيات حديثة، يوجب على الناطقين باللغة العربية العناية بها، لأن اللغة العربية تقبع الآن في أدنى درجات الاهتمامات بها، على الخريطة السياسية والعلمية والثقافية والاقتصادية، ولا يخفى على الجميع وجود المخططات لإقصاء العربية الفصحى عن سيادتها في أوطانها.
إن اللغة العربية تعيش اليوم واقعًا معزولاً عن وظيفتها، فلا هي أصبحت أداة للتعليم العالي ولا البحث ولا الفكر، وهو ما يبعدها عن خصائصها ومقوماتها المسايرة دومًا للتقدم الحضاري، بما تتميز به من غزارة، وما لها من تراث عريق، بعيد الأثر في مراحل التاريخ المختلفة، الأمر الذي جعلها لغة التعليم والتعليم لسنوات طوال، نهضت خلالها الأمة العربية نهضة علمية زاهرة بين أمم العالم، وكانت لها الصدارة العالمية بسبب تفوقها العلمي.
لقد أجمع علماء علم النفس اللغوي وعلم اللغة العام وفلاسفة اللغة ومناطقة التحليل اللغوي وسواهم، على العلاقة بين التفكير واللغة، فبعضهم يرى أن التفكير واللغة وجهان لعملة واحدة، والبعض يرى أن التفكير يصوغ اللغة ويؤثر فيها. ومنهم من يرى أن اللغة هي التي تصوغ التفكير وتؤثر فيه. فهل يمكن لأمة أن تنمي تفكيرها العلمي الأصيل وتوسعه وتجعله قادرًا على الابتكار دون لغتها؟
إن تعريب العلوم لا ينقص من قيمتها، بل إنه في رأينا يرفع شأنها ومستواها، فالشخص الذي يتعلم أحد العلوم بلغته، يعمل على نقل ما تعلمه إلى هذه اللغة، وإننا قد نقبل أن تدخل اللغة الأجنبية بيوتنا وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية، لكي نتعلم من كل ماهو جديد في العالم، ونعبر عنه بلغتنا القومية حتى لا تضيع، فالانفتاح على الحضارات والثقافات والعلوم الحديثة والمتطورة بات واجبًا قوميًا مع الحفاظ على هويتنا، وهو ما يحفظ لنا قوميتنا وكرامتنا العربية شامخة دائمًا بين الأمم.
وصفوة القول، أن الدعوة إلى استخدام اللغة العربية في التعليم الجامعي والعالي، لا تعني أبدًا إهمال اللغة الأجنبية أو التقليل من شأنها، بل هي مقترنة دومًا بالدعوة إلى وجوب إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، لاتخاذها أساسًا لاستمرار الاتصال بالتطور العلمي والتقني العالمي، والتمكن من إكمال الدراسات العليا والتخصصية، ونشر البحوث العلمية في المجلات والدوريات العلمية العالمية. إن هناك فارقًا كبيرًا بين تعلم لغة أجنبية لكي تثري حضارتنا وثقافتنا، وبين أن نتعلمها لكي تحل محل لغتنا وتحيلنا إلى مسخ شائه.
إن العلم والتكنولوجيا عالميان، وليس بالإمكان توطينهما في بلد إلا بلغة ذلك البلد، كما أن العالمية لا تظهر إلا من خلال المحلية، وخبرات الأمم والبلدان المتقدمة خير شاهد ودليل على هذا المنطق، فمما ساعد اليابان على أن ترقى بصناعتها خلال نصف قرن، أنها وضعت بين أيدي العمال والفنيين أحدث النظريات التطبيقية، في الصناعة الأمريكية والأوربية بلغتهم القومية، كذلك أخذت روسيا العلوم الغربية بما فيها من مصطلحات وكتبتها بحروفها السلافية. والصين أيضًا قد أخذت علومهم ومصطلحاتهم وكتبتها بحروف صينية، كما أن إنجازات الطلاب الألمان أو الإيطاليين أو المجريين أو من سواهم ممن يتابعون دراستهم في أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا، تشهد على أن الدراسة العلمية باللغة الأم، ما كانت أبدًا عقبة أمام متابعة التخصص الجامعي بلغة أخرى، لا يستغرق الإعداد لها أكثر من عام واحد.
لقد نجح التغريبيون إلى أبعد مدى في محاصرة اللغة العربية في مدارسنا، وفي جامعاتنا الرسمية والخاصة، وإنه لمن المؤسف والمحزن أن المدارس الأجنبية الخاصة التي يلتحق بها أبناء النخبة، تقدم كل شيء باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وهذا أمر في غاية الخطورة على وطننا سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا.
إننا عندما ندعو إلى تأكيد تعليم العلم وإجراء البحوث العلمية بالعربية لا نعني بذلك انكفاءً على الذات، ولا دعوة إلى الانعزال، بل إننا نظن إننا ندعو إلى المشاركة والتفاعل مع اللغات والثقافات الأخرى، فالتعريب من وجهة نظرنا ليس معاداة للغات الأجنبية الحية، بل هو في المقابل دعوة إلى تجويدها، وإلى ديمقراطية التعلم، وإشاعته بين الجماهير العريضة، وهكذا يكون العلم عطاء قوميًا متاحًا للجميع.
وأرى أنه بات واجبًا علينا إدخال اللغة العربية في صلب تدريس الحاسوب وأساليب الربط المعلوماتي بين المدارس والجامعات والمراكز البحثية، وحتى في عمليات الربط مع المواقع الإلكترونية العالمية، من أجل المساهمة في الارتقاء باللغة العربية بالطرق المتجددة عالميًا، ولتصبح اللغة القومية هي أساس المعرفة والهوية.
ويقول الدكتور وائل خوري العالم السوري المغترب في أمريكا في الأول من يناير 2004م “عندما درسنا الطب بالعربية، لم نشعر بأي قصور بسبب اللغة نفسها، فمعظم الأسماء معروفة منذ مئات السنين، والمصطلحات الجديدة المعربة تثير الاهتمام والشغف، وكنا نقرأ المواد الطبية باللغتين، كتب جامعة دمشق العربية وبعض المصادر المعربة (المترجمة) والمراجع الإنجليزية، لم تمنعنا دراستنا بالعربية من حفظ المصطلحات باللغتين، علمًا بأن النص الطبي ليس مجموعة من المصطلحات الطبية، بل هو وصف وشرح وعرض وتحليل، تتخللها المصطلحات، وهذا الشكل من الدراسة جعل الطلاب يبذلون جهودًا مكثفة دفعتهم للدراسة بجدية، وكماهو معروف فإن خريجي كلية الطب في جامعة دمشق يحوزون أعلى العلامات في فحوص القبول الأمريكية، دون أن تكون اللغة بحد ذاتها معوقًا لذلك، إن نسبة نجاحهم ومستوى علاماتهم مماثلة لباقي الجامعات العربية التي تدرس بالإنجليزية أو أفضل، وثمة أرقام تدل على ذلك. إن عدد الأطباء العرب في أمريكا يزيد على عشرة آلاف طبيب، يشكل العرب السوريون من 40 إلى 50 في المئة منهم، تخرجوا في الجامعات السورية التي درسوا الطب فيها باللغة العربية، والعشرات منهم لهم مراكز أكاديمية مرموقة ورفيعة المستوى، هذا بالإضافة إلى المئات من الأطباء الذين يحتلون مناصب مرموقة طبية وإدارية، كرؤساء أقسام، ومديري فروع في الولايات المتحدة والمدن الأمريكية”.
إن المخططين للعولمة يعلمون أن اللغة هي أم المرجعيات في بناء الحضارة والثقافة، واللغة هي الوسيلة التي تحرك المشروع الثقافي والحضاري المعاصر. فاليابان تدرس العلوم كلها بلغتها، مع ما في اللغة اليابانية من صعوبة، وكذلك إسرائيل التي أحيت العبرية لتمييز شخصيتها وهويتها، وجعلتها لغة التعليم والحياة بالرغم من موت العبرية وانتهائها من الاستعمال المعاصر منذ آلاف السنين.
قد يبدو للوهلة الأولى أن العولمة موجهة نحو المال والاستهلاك، ولكن الواقع يؤكد أن سلاحها الحقيقي موجه نحو عقل الإنسان، فهي غزو ثقافي كامل، لأنها موجهة إلى فكر الإنسان ولغته وثقافته، بفضل حيازتها معرفة منظمة، ووسائل فاعلة لنشر هذه المعرفة. إن التعليم باللغة القومية يعد محورًا للحفاظ على الثقافات الموروثة وتنميتها. ومن هذا المنطلق يجب التأكيد على ضرورة الارتقاء باللغة والتعريب، حفاظًا على القيم المكتسبة على مر العصور.
ويستخدم مهندسو العولمة اللغة وسيلة للاختراق الحضاري للتأثير على الهوية الثقافية، ثم خلخلتها من الداخل، تمهيدًا للقضاء على الموروث الثقافي الذي هو أهم مقومات الدول، وهناك هجوم منظم على لغتنا العربية يتخذ شكل الحرب الذكية، تنكشف حينا وتتخفى أحيانًا أخرى.
إن رياح التغريب تهب علينا قاصدة قوميتنا تارة، وتتجه إلى منظومة قيمنا، وديننا تارة أخرى، لاقتلاع أوتاد تراثنا الفكري والديني والأخلاقي. ولاشك أن اللغة العربية هي المستهدف الأول، نظرًا لأهميتها باعتبارها سمة من سمات الهوية، وملمحًا أساسيًا من ملامح الشخصية.
إننا نتعرض اليوم لمشروعات ودعوات ظاهرها الرحمة والتقدم، وباطنها العذاب والخراب وفقدان الهوية، دعوات بمسميات مختلفة: تغيير الحرف العربي، استعمال اللهجات العامية المحكية (كي تلحق العربية بمصير اللاتينية)، الشرق أوسطية، الأورومتوسطية، إلغاء النحو، تجديد القواعد، إلى غير ذلك من المشروعات التي تستهدف إذابة الأمة العربية ولغتها.
إن العدوان على اللغة العربية محاولة لهز استقرارها، لينفرط عقد العرب، وتطمس هويتهم، ويذوبوا في بحر العولمة.
اللغة ومنظومة المعرفة
اللغة – بلا منازع – هي أبرز سمات المجتمع الإنساني، وما من حضارة إنسانية إلا وصاحبتها نهضة لغوية، وما من صراع بشري – في رأي الكثيرين – إلا ويبطن في جوفه صراعًا لغويًا، واللغة هي الأداة التي تصنع من المجتمع واقعًا، والوسيلة الأساسية التي تحدد صلة الإنسان بهذا الواقع.
لقد أصبحت معالجة اللغة آليًا بواسطة الكمبيوتر هي محور تكنولوجيا المعلومات، وتعاظم أهمية موقع اللغة على خريطة المعرفة، حيث ازدادت علاقة اللغة توثقًا بجميع فروع المعرفة على اختلاف أنواعها، ويتعاظم الدور الذي تلعبه اللغة على صعيد السياسة والاقتصاد، بعد أن أصبحت اللغة من أشد الأسلحة الأيديولوجية ضراوة.
إن تعريب التعليم الجامعي وثيق الصلة بنقل المعرفة واستيعابها، فهو شرط أساسي لتنمية أدوات التفكير والقدرات الذهنية والملكات الإبداعية، علاوة على سرعة استيعاب المعرفة التي تتجدد بمعدلات متسارعة في مجتمع المعرفة، مع ضرورة أن تتوازى جهود التعريب، مع زيادة الجهد المبذول في تدريس اللغات الأجنبية لجميع التخصصات العلمية.
وسواء كانت العولمة وفاقًا أم صراعًا فللغة – في كلتا الحالتين – شأن خطير. فإن كانت العولمة “وفاقًا”، فاللغة ذات شأن جليل في حوار الحضارات. وإذا كانت العولمة صراعًا فإن الإنجليزية تريد أن تكون منفردة، كلغة عالمية، مع تهميش نشيط لبقية اللغات، ومنها العربية.
وعلى ذلك فإن على العرب أن يدركوا ما يعنيه اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا قرار منظمة التجارة العالمية بعدم اعتبار اللغة العربية ضمن لغاتها الرسمية، وفي المقابل، ما يعنيه من مزايا القرار الذي اتخذه أخيرًا المجلس الدولي للأرشيف – من حيث المبدأ – باعتبار اللغة العربية ضمن لغاته الرسمية.
متى يتكلم الطب العربية من جديد؟
قد يبادر البعض فيقول: كأنكم تريدون عزلة ورفضًا لثقافات الآخرين ولغاتهم، بزعم أن ذلك يخالف أعرافنا ويناقض قيمنا!. إن ذلك غير صحيح على الإطلاق، فالحقيقة أننا نريد الانتفاع إلى أقصى حد بكل ما في الثقافات من علوم حديثة وتقنيات رفيعة المستوى، ونرحب بأن يتعلم المرء لغة واثنتين وثلاثًا، وما أسعفته به قدرته على استيعاب ما يستطيع من لغات ومعارف، يسهم بها ومن خلالها في إثراء التنوع الثقافي للبشرية كلها.
إن الشأن الآن ليس شأن حديث العلم باللغة العربية، أو أن يعود الطب وحده فيتكلم بالعربية، إن الأمر يتجاوز اللغة إلى السياسة، وإلى الاقتصاد، وإلى الاجتماع، وإلى كل جوانب الحياة بعد أن تلاحقت موجات ما يسمى “بالعولمة” وخاصة في ظاهرة ما يسمى: بالشركات عابرة الجنسيات، أو عابرة القوميات… إن القرار الاقتصادي يؤدي بغير مواربة إلى قرار ثقافي، وبشكل أوضح، إن الذين يقررون شكل اقتصادنا، يأتي في قرارهم ضمنًا – حتى ولو بدون نية مبيتةً – اللغة التي يتكلم بها هذا الاقتصاد، في قراراته، في بحوثه، في مخاطباته، في مكاتباته، حتى في محادثاته المحدودة.
لقد شهدنا كثيرًا من المؤتمرات الاقتصادية التي يتحدث فيها قومنا بلغة أصحاب القرار الاقتصادي، وهي غير اللغة العربية يقينًا، حتى وإن كان المؤتمر منعقدًا على أرض عربية. ولا يقتصر الأمر على الاقتصادي فحسب، بل ينسحب على السياسي والثقافي… الخ.
ونحن نرى الآن – في كثير من بلادنا – أن اللغة الرئيسة في شركات الاستثمار الوافدة، أو في فروع المصارف العالمية هي اللغة الإنجليزية، التي توشك أن تكون لغة الأسواق المالية والتجارية والاتصال عامة.
ولعل هذا هو ما أدى إلى أن تكون هناك أقسام – ببعض جامعات البلاد العربية – يتم التدريس فيها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وعلى الأخص في كليات التجارة والحقوق، حتى يجد الخريجون فرصًا لهم في سوق العمل.
أي أننا ونحن نسعى إلى تعريب “الطب”، نجد مجالات أخرى قد انفتحت، لإحلال لغة أجنبية للتدريس مكان لغتنا القومية، بتأثير ما يقال عن ضرورة ذلك، لتلبية ضرورات سوق العمل. بما يعني أن هذا الاستخدام للغات الأجنبية، جاء بمقتضى ضرورة لا نملك لها دفعًا!!
وفي طريق البحث عن حل
علينا أن نبحث عن الوسائل التي تقنع “السياسي” المحلي في أي بلد من بلادنا، بأن الحفاظ على “هويتنا” قاعدة للحفاظ على المكانة السياسية لأي نظام من أنظمة “الحكم”، وأن المدخل إلى ذلك هو الحفاظ على لغتنا القومية، في حومة الصراع العالمي، وفي مواجهة حركة العولمة، أيًا كانت القوى المحركة لها.
وهناك خبرات تاريخية – قديمًا وحديثًا – تشير إلى دور السياسي في تعريب العلوم ومنها الطب:
– الأولى: في العصر العباسي الأول.
– والثانية: في مصر الحديثة.
وكلتاهما أدت إلى أن يتكلم الطب بالعربية، بالتعريب أولاً، ثم بالتأليف ثانيًا.
ولذلك إذا قلنا الآن: إننا يجب أن ننشط في مجال تعريب الطب، أو غيره من العلوم، فإنما نعني أن يكون التعريب مرحلة ممهدة لمرحلة تالية وهي مرحلة التأليف بلغتنا القومية، وهي مرحلة تتلو الترجمة والتعريب يقينًا.
ولابد أن يكون ذلك مدعومًا بموقف سياسي، بل أن يكون “تبنيًا” من السياسي.
والسبب هو: أن الدعم السياسي أو المساندة السياسية، بل الموقف السياسي القومي، هو الذي يفتح الطريق إلى الدعم المالي، وتيسير النفقات وتحمل أعباء التكاليف.
نعم هناك جهود مشكورة من أهل العلم، والمفكرين، والمثقفين في مجال تعريب الطب والمصطلحات العلمية، والحديث عنها معاد، ولكننا لكي نحقق الانتفاع المنشود بهذه الجهود نحتاج إلى أشياء لا تقل أهمية عما يتم تحقيقه، فكلنا يعلم أن الطب الآن مرتبط بعدد من فروع العلم الأخرى، كما أنه وثيق الصلة بالتكنولوجيا المتقدمة، سواء في التشخيص أو في العلاج. ولكي نوفق في الانتفاع بإنجازات التكنولوجيا الحديثة، يجب أن تكون لدينا “موازنات” سخية للإنفاق على البحث العلمي، كمدخل مهم، لأن تكون لنا إبداعاتنا وابتكاراتنا في هذا المجال، نعرف بها، وتزهو بها لغتنا.
ولننظر إلى “موازنات” البحث العلمي في دولنا، ولنقارنها بموازنات دول أخرى – أحدث منا تاريخًا، وأقل عددًا، ولا تقارن مساحتها بعشر مساحة أرضنا العربية، ولا مواردها بمواردنا – لنعرف خطورة الأمر في هذا الجانب.
فهل يمكن أن تكون لنا على المستوى العربي، مؤسسات تكنولوجية متقدمة، بموازنات مشتركة، تتيح لنا قدراتها المالية والتنظيمية والبحثية، أن ندخل سراعًا هذا الميدان، ومن ثم نستطيع مستقبلاً أن نسهم في القرار التكنولوجي العالمي، وريادة العالم علميًا مرة أخرى؟
ولنا أن نتساءل عن كيفية تطبيق هذه الآمال العريضة وتنفيذها؟ والإجابة عن هذا التساؤل تتركز حول ممارسة التدريس الجامعي في الكليات العلمية، والبحث العلمي، والتأليف باللغة العربية، التي تعد هي السبيل الوحيد الذي يمكننا من تنفيذ تعريب العلم في الوطن العربي بأسره. والذي لاشك فيه أنه ستظهر عند الممارسة العديد من المشكلات التي يجب أن ندرسها ونحللها مسبقًا، كي نضع لها الحلول المناسبة لإمكاناتنا ومواردنا البشرية والمادية والتقنية، وأولى هذه المشكلات هي اللغة من حيث كونها وسيلة للطالب في التلقي والاستيعاب والتعبير، والتفكير والتصور أيضًا، وعلى ذلك فلا يجب أن نكبل هذه اللغة بقيود تحد نشاطها واستمرار التعليم بها، ولعل أهم هذه القيود هو المصطلحات العلمية التي تتسم في معظمها بالعالمية، حتى كادت تكون متماثلة في كل اللغات الحية، وهنا يمكننا الإبقاء على المصطلح باللغة التي وضع بها حتى نتفق فيما بيننا على مقابل له باللغة العربية، يمكن استخدامه في المحافل العلمية المختلفة.
إن كثرة هذه المصطلحات العلمية الحديثة تعد أيضًا قيدًا آخر، يمكن أن يعوقنا عن النهوض بالمستوى العلمي في مؤسساتنا العلمية والتطبيقية، ولذا فإن التخطيط لاستيعاب هذا الكم الهائل المتدفق علينا باستمرار يصبح ضرورة لا غنى عنها حتى نستطيع التعامل معه والاستفادة منه إلى أقصى حد ممكن. وحتى لا تصبح قضية المصطلحات ذريعة يتعلل بها أولئك الذين يعملون – عن قصد أو غفلة – على تأجيل تعريب العلم في المرحلة الجامعية والعالية.
كذلك سوف تظهر إحدى المشكلات الجوهرية التي تتعلق بالأساتذة، الذين لهم الدور الرئيسي والمحوري في هذا الشأن، فمعظمهم لا يعرفون شيئًا عن المعاجم اللغوية العربية ولا طرق استخدامها بدقة، بل إن كثيرين منهم لم تسنح لهم الفرصة للاطلاع على المصطلحات العلمية في تراثنا العلمي العربي، سواء ما كان منها عربيًا أصليًا أم دخيلاً ومعربًا.
إن معظم المشكلات ليست نابعة من ذات اللغة العربية، ومدى قدرتها على استيعاب كل ماهو جديد وحديث في مختلف جوانب العلوم وتخصصاتها، فتراثنا وتاريخنا يشهدان على أن اللغة العربية قد استوعبت كل ماهو جديد على مر العصور السالفة عندما كان العلم يتكلم بالعربية.
ولذا، فإن حل هذه المشكلات وغيرها يستوجب الاعتماد على تعريب العلوم، بحيث يتحقق الغرض منه، وهو جعل اللغة العربية وافية بمطالب العلوم في تقدمها، وملائمة لحاجات الحياة العصرية، ولهذا يجب ألا يكون التعريب للنقل – فقط – من اللغات الأخرى إلى العربية، بل أيضًا لتكوين وحدة علمية عربية، قوامها توحيد المصطلح العلمي، بحيث نتمكن من المشاركة الفعالة في التقدم العلمي العالمي، ومواكبة المتغيرات العالمية، التي فرضتها تحديات العولمة، وسرعة الاتصالات، وثورة المعلوماتية والبيولوجية الجزيئية.
وحتى نساير التقدم المذهل والسريع في التطور العلمي والتكنولوجي يجب:
1- أن تكون الدراسة في المرحلة الجامعية باللغة العربية، أما المصطلحات فتستخدم كما هي في لغاتها، إذا تعذر وجود المعادل العربي لها، حتى نجد هذا المعادل ونتداوله فيما بين أهل التخصص.
2- أن نلجأ إلى ترجمة هذه المصطلحات كلما كان ذلك ممكنًا، ونعتمد على الوسائل اللغوية التي تتمتع بها اللغة العربية، من الاشتقاق والنحت وغير ذلك من الوسائل المتاحة لدينا الآن.
3- الاستمرار في استخدام المصطلح الأجنبي ومرادفه العربي، حتى يتسنى لنا ملاحقة التطورات العلمية العالمية المتسارعة.
4- إنشاء مؤسسة قومية للترجمة تتبع أعلى سلطة في الدولة، بوصفها جزءًا من المشروع القومي للتعليم، ولمتابعة التطورات العلمية العالمية.
5- إنشاء مركز للمصطلحات العلمية في كل جامعة، على أن يتولى مجمع اللغة العربية التنسيق بين هذه المراكز في الجامعات المختلفة.
6- إنشاء بنك للمصطلحات العلمية والإنسانية والعلوم المستخدمة، يكون مقره مكتبة اتحاد مجامع اللغة العربية، واتحاد الجامعات العربية، تصب فيه محتويات مراكز المصطلحات التي يجب إنشاؤها في الجامعات والمراكز العلمية والبحثية، ليكون هذا همزة الوصل بني المجامع العربية وبين دول العالم، ونافذة للباحثين في العالم الغربي.
7- أن تعمل مجامع اللغة العربية، بالتعاون مع مراكز المصطلحات العلمية في الجامعات ومراكز البحوث والمؤسسة القومية للترجمة، على توحيد المصطلحات العلمية كلما أمكن ذلك.
8- أن تدرس مادة دراسية رئيسة واحدة بلغة أجنبية حية في كل عام دراسي جامعي، ويقدم الامتحان بتلك اللغة، مع إلزام الطالب برصد المصطلح الأجنبي وحفظه في حقل اختصاصه إضافة إلى المصطلح العربي – إن وجد، ضمانًا لمواكبة التقدم العلمي العالمي والمتابعة العلمية المستمرة.
9- أن يخصص جزء قائم بذاته في كل رسالة ماجستير أو دكتوراه خاص بالمصطلحات العلمية، في التخصص باللغة العربية وما يقابلها باللغة الأجنبية، على ألا تجاز الرسالة إلا إذا تمت مراجعة وإجازة هذا الجزء من مركز المصطلحات العلمية بالجامعة.
10- ألا يحصل أي عضو من أعضاء هيئة التدريس على درجة الأستاذية إلا إذا قام هو نفسه أو بالاشتراك مع بعض زملائه بترجمة كتاب علمي أو ثقافي أو تقني في مجال تخصصه.
11- أن يشترط نشر بحثين باللغة العربية على الأقل عند التقدم لدرجة علمية أعلى.
12- إضافة باب إلى مجلاتنا العلمية المتخصصة، يختص بترجمة الأبحاث العلمية الحديثة المتخصصة.
13- تنشيط الحملات الإعلامية على جميع الأصعدة لبيان أهمية التعريب الشامل وفوائده الجمة، التي تحصدها لغتنا العربية، والتي يجب تدعيمها باعتبارها الركيزة الأساسية في استقلالنا، وفي القضاء على التخلف العلمي في الوطن العربي بأسره.
14- معالجة اللغة العربية آليًا باستخدام الحاسوب (الكمبيوتر)، لأن اللغة هي المنهل الطبيعي الذي تستقي منه تكنولوجيا المعلومات أسس ذكائها الاصطناعي، والأفكار المحورية بلغات البرمجة.
لقد أصبحت معالجة اللغات الطبعية آليًا بواسطة الحاسوب أحد المقومات الأساسية في تصميم نظم المعلومات. ولعلنا إذا نجحنا في أن يتكلم الحاسوب بالعربية، فسوف ننجح في أن يتكلم بها العلم الحديث أيضًا. ويقول أحد العلماء العرب المتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات – الدكتور نبيل علي: “جاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى أزمات العربية بعدًا فنيًا متعلقًا بمعالجة اللغة العربية آليًا بوساطة الحاسوب، ولا يخفى على أحد أن وضعنا اللغوي الراهن، ينذر بفجوة لغوية تفصل بيننا وبين كثير من الأمم، التي تولي لغاتها أقصى درجات الاهتمام، بوصفها – أي اللغة – شرطًا أساسيًا للحصول على عضوية نادي المعلومات العالمي”.
أيها السادة:
لن نمل من الترديد أن الفرق بين التعريب والتغريب نقطة، ولكنها نقطة سوداء بحجم الكرة الأرضية، تغشى عيوننا فلا نرى ما حولنا، وعندما حدثونا عن تنوير مصطنع، بدلوا هذه النقطة بقرص الشمس عند الظهيرة، فبدل أن ينير الطريق، غشيت الأبصار فضللنا الطريق.
فإلى كل المعتزين بلغتنا العربية الخالدة، المشغوفين بها، المستمسكين بعراها، المنافحين عنها، صمودًا إلى آخر المدى في حصن العروبة. وإلى المغتربين عن لغتهم، المعتزين بلسان غيرهم، المبهورين بسلطان خصوم قومهم: تعالوا إلى هويتكم، إلى أصالتكم، إلى جذوركم، إلى قوميتكم، حتى نتمكن جميعًا من تجاوز المحنة، ونجتاز الأزمة.
أيها السادة:
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [سورة الرعد: الآية 11].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،