علم الرسم المصحفي
العرب أمّة أمّية:
وممّا لا ريب فيه، ما هو مشهور، أنّ الأمّة العربية كانت أمة أمية، لا تدري
ما الكتابة، ولا الخط؟ وثبّت هذا، القرآن الكريم، لحكمة إرسالية تكون معجزة أبدية.
قال الله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ الجمعة ﴾/ 2/.
وفي المجتمع المكي لم يلف أهله من يخطّ منهم إلّا قليلا، فهؤلاء النفر القليل هم
قطب الكتابة يومئذ، على رأسهم (حرب بن أميّة).
وكادت تتفق كلمة المؤرّخين على أنّ قريشا في مكة لم تأخذ الخط إلّا عن طريق حرب بن
أمية بن عبد شمس، لكنهم اختلفوا فيمن أخذ عنه حرب، على قولين:
الأول: عبد الله بن جدعان، وهذا قد أخذه من أهل الأنبار. أيضا.
الثاني: بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك، صاحب دومة الجندل.
وبقيت الكتابة بين يدي نفر قليل منهم، حتى ظهر الإسلام، فحارب- إضافة إلى
حروبه العسكرية- أميّة العرب، ثمّ عمل على محوها فيما بينهم، ورفع من شأن الكتابة،
وأعلى من مقامها.
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾:
وكان من أوائل، بل من أوّل ما نزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما
يشيد بالكتابة، وواسطتها القلم.
قال الله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ﴾[1] ثمّ تلت سورة ذلك سورة (ن) وفيها يقسم الله بالقلم، وما يسطرون، وتجلّى بذلك أروع ألوان التنبيه إلى جلالة الخط، والكتابة، ومزاياهما.
قال الله تعالى ﴿ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾[2].
ولم يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات مكتوف اليد، فعمل على تجسيد ما تهدف إليه من سبيل، ونهض للقضاء على الأمّية من كافّة الجبهات، ونذكر يوم (بدر) حين أسر (ستّون).
مشركا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي الواحد منهم بتعليم (عشرة) من أصحابه، الكتابة والخطّ.
وبهذا العمل فتح باب الحرية للشعوب، ونشر سبل الثقافة، والعلوم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى بكتابة القرآن:
وعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن، فجنّد له كتّابا مهرة
جهابذة، قد اشتهروا بالعدالة والفطانة، من هؤلاء: الخلفاء الأربعة، ومعاوية، وأبيّ
ابن كعب وغيرهم.
فكان كلّما نزل عليه شيء من القرآن، دعا أحد كتبته، فأمره بكتابة ما نزل، ولو كان
كلمة، وعلى سبيل المثال:
لما نزل عليه قوله تعالى ﴿ لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ [3].
قال ابن أم مكتوم وعبد الله بن جحش: يا رسول الله! إنا عميان، فهل لنا رخصة؟.
فأنزل الله ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالكتف والدّواة. وأمر زيدا أن يكتبها،
فكتبها.
فقال زيد: وكأنّي أنظر إلى موضعها عند صدع الكتف.
رسم المصحف أهو توقيفي أم أنّه اجتهادي؟
وإذا علمنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرص على الكتابة للقرآن،
وأوصى كتّابه برسوماته. كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية وهو من
كتبة الوحي: [ألق الدواة، وحرّف القلم، وأنصب الباء، وفرّق السين، ولا تعوّر
الميم، وحسّن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى، فإنّه
أذكر لك] أخرجه الديلمي. كنز العمال/ 26566/ تحريف القلم:
قطه محرفا. أنصب: أقم.
ثم جاء من بعده أبو بكر رضي الله عنه فكتب به، ثم حذا حذوه (عثمان) رضي الله عنه. أثناء خلافته، فاستنسخ ووحّد
المصاحف، واستمرّ الاحترام له، أحقابا من الزّمن دونما مساسه بأيّ تغيير.
إذا علمنا ذلك كلّه، فإننا مدعوّون أن نبقي عليه، ونلتزم اتباعه واجتناب تغيير أيّ
حرف منه، على غرار قواعد اجتهادية للرسم في الكتابة.
يقينا منّا. أنّ مرور ألف وأربعمائة عام على رسمه دونما أن تطاله يد التغيير لبعض رسومه، جدير أن نميل إلى قول الجمهور
أنّ الرسم توقيفي لا اجتهادي [4]، وأنّه
لا تجوز مخالفته لأيّ سبب كان، سيّما وأنّ الثقات من الأئمّة قد شدّدوا على
التزامه.
رسم المصحف له دستور:
واتّضح من خلال وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للكتبة، وسير أصحابه عليها
دونما زيادة أو نقصان، أنّ للرسم دستورا قد وضعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا
ينطق على الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى.
واشتهر باسم الرسم العثماني، لأنّ عثمان قد شكّل لجنة الكتابة، فنسخ المصحف وفق ما
هو مكتوب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشر من بعيد، أو قريب إلى
قواعد محدّدة فيه، لأنّ التدوين لأيّ فكرة، لم يكن سائدا يومئذ، فبقيت القواعد في
الشّتات الفكري.
وجاء النّاس بعد، فمن لم يكن ذا ثقافة قرآنية، ظنّ أن الرسم قد كان اعتباطيا، ليس
له حظّ من الدراسة، لكنّ الثاقف بهذا الشأن، والمتأني في النظر، ليجد أنّ رسم
المصحف كان مبنيا على قواعد فنية في مجال القراءة.
هذا. وإنّ علماء هذا الفن، قد رصدوا الرّسوم التي خالفت القواعد الكتابية، فخلصوا
منها إلى قواعد ستّ، عليها بنيت المخالفات الرّسمية.