مسألة [١٤] في باب الأفعال التي تستعمل وتلغى
ومن ذلك قوله في باب الأفعال التي تستعمل وتلغى، ذكر أنه إذا أخر ظننت وما أشبهها بعد المفعولين أو بعد أحدهما فهو مخير، إن شاء أعمل وإن شاء ألغى، وذلك أنه إن قدرها مؤخرة مثلها مقدمة لم يكن من الإعمال بد، وإن تكلم وهو يريد بالاسم الابتداء فقال: زيد، وهو متيقن ثم أدركه الشك بعد فقال: أظن منطلق، لم يعمل ظننت وقد عمل الابتداء، لأن عاملا لا يدخل على عامل، وهذا قول جميع من يوثق بعلمه، وكذلك إن قال: أين تظن زيدا؟ إذا جعل (أين) مستقرا، وإن شاء نصب، وإن قال: أين تظن زيدا قائما؟ وجعل المفعولين زيدا وقائما، “فلا بد من النصب”، لأنه ابتدأ بالفعل قبل أن يعمل بالابتداء، وأجاز سيبويه متى تظن زيد منطلق، وقال: أجيزه، لأن قبله كلاما، فألغى بين كلامين، وهذا نقض جميع هذا الباب.
قال أحمد: ليس هذا بنقض شيء من الباب، لأن سيبويه إنما يبدأ بجيد الكلام ووجهه، ثم يأتي بما يجوز بعد ذلك، والدليل على جواز إلغاء ظننت وهي متقدمة في الكلام قول العرب: ظننت إنك لقائم- بكسر إن- ودخولها ها هنا على إن المكسورة كدخولها على المبتدأ، فإن قال: مجيئهم باللام معها منعها العمل، قيل: فإذا جاز أن يأتوا باللام “أخيرا” فيمنعوها العمل وقد بنوا صدر الكلام على الشك، جاز أن يبنوا الابتداء والخبر في آخر الكلام وقد مضى صدره على الشك، ومع ذلك إن هذه الأفعال غير مؤثرة، فاستعملوا ذلك “فيها” وألغوها في مواضع كثيرة من الكلام ولم يعملوها، ألا ترى أنها تلغى مع الأسماء المستفهم بها إذا وقعت قبلها في مثل قولهم: قد عملت أين زيد، وقد ظننت ومع اللام إذا قلت: قد علمت لزيد خير منك، والذي ظنه /٢٤/ محمد من تأويل قول سيبويه: إنه لا يجيز إلغاءها إلا أن يمضي صدر الكلام على اليقين ثم يدرك المتكلم الشك غلظ، وليس كما ظن، بل هو يجيز إلغاءها وإن ابتدأ شاكا.
والذي رده أحد وجهيها، والدليل على ذلك قول سيبويه في هذا الباب: (وإنما كان التأخير أقوى)، يعني في الإلغاء، (لأنه يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين، أو بعدما يبتدئ وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك) فقول سيبويه: (يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين)، عند السامعين لا عند المتكلم، ولو أراد عند المتكلم لم يقل: (أو بعدما يبتدئ وهو يريد “اليقين” ثم يدركه الشك) فقوله ها هنا: وهو يريد اليقين، غير قوله في الوجه الأول: بعدما يمضي كلامه على اليقين، فهو ها هنا غير مريد لليقين، وإنما خرج كلامه على اليقين عند السامعين، وقد بناه في نيته على الشك، لأن الشك إرادته.
ولو تأمل محمد هذه المسألة لم ينسبه في المسألة التي أجازها إلى نقض الباب، وقد أجاز النحويون ومحمد معهم- أين تظن زيد؟ لا اختلاف بينهم في يذلك، إذا جاء عن العرب في قول الشاعر:
أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني… وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور
فـ (أين) كلام مضى قبل الظن على اليقين ها هنا، وإن لم يذكر المخبر عنه غلا بعد الظن، وإنما أوقعت حرف الاستفهام على الظن قبل مجيئك بزيد فالكلام مبني على الشك وهو ملغى.
وسيبويه يذهب إلى أن إعمالها في التأخير وهي مؤخرة عن المفعولين ضعيف، وكذلك إلغاؤها وهي مقدمة ضعيف، وإلغاؤها في التقديم كإعمالها في التأخير، فأما إجازة سيبويه، متى تظن زيد منطلق؟ على الإلغاء، لأنه قد تقدم بعض الخبر، فجيد بالغ، لأن تقدم بعض الخبر كتقدم الخبر، وذلك أن تقدم الخبر لا يوجب الكلام يقينا، وكذلك تقدم بعضه.
الانتصار لسيبويه على المبرد