نزول القرآن الكريم منجما
ملاحظة: مرر الماوس على الأسهم في الأسفل لعرض المقال كاملاً
المؤلف: مصطفى ديب البغا،
محيى الدين ديب مستو
المصدر الشبكة العربية للمعلومات
البحث في نزول القرآن بحث مهمّ وجليل، لأن العلم به أساس للإيمان بالقرآن وأنه كلام الله المنزل، وأساس للتصديق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
أ- تنزلات القرآن الكريم:
للقرآن الكريم تنزلات ثلاثة:
الأول: تنزله إلى اللوح المحفوظ، ودليل ذلك قول الله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21 – 22].
الثاني: تنزله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ودليله قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]. وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1] وقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة:185].
وأخرج النسائي والحاكم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم [1].
وأخرج النسائي والحاكم من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ﴾ [2] [الإسراء: 105 – 106].
الثالث: تنزل القرآن من بيت العزة في السماء الدنيا على قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام منجما، قال الله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 193 – 195].
تتابع نزول القرآن منجما، فكانت تنزل الآية أو الآيتان أو الآيات في أوقات مختلفة، ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
ويضاف إلى هذا الدليل القرآني الصريح، أنه قد ثبت ثبوتا قاطعا في السنة والسيرة النبوية أن القرآن لم ينزل على رسول الله جملة واحدة، وإنما نزل مفرّقا خلال مدة بعثته المباركة والتي قدرت بثلاثة وعشرين عاما تقريبا، قال السيوطي في «الإتقان»: الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها: أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات وعشرا، وأكثر وأقلّ، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة [3]، وصحّ نزول عشر آيات من أول المؤمنون جملة [4]، وصحّ نزول ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾ [النساء: 95] وحدها [5]، وهي بعض آية [6]…
وكان هذا التنجيم في نزول القرآن سببا في اعتراض اليهود والمشركين وتساؤلهم:
لماذا لم ينزل القرآن كما نزلت التوراة جملة واحدة؟ وقد أنزل الله عزّ وجلّ آية كريمة تسجّل هذا الاعتراض وتردّ عليه، وهي قوله تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان:32].
نستطيع أن نتعرّف على حكم نزول القرآن منجّما من الآيتين الكريمتين:
﴿وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ… ﴾ [الإسراء: 106] ﴿وكَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32] اللتين ورد فيهما الردّ على اعتراض المشركين واليهود بالحجة الدامغة، كما أن هناك أسرارا لهذا التنجيم تدرك بالعقل والاجتهاد، وهذه الحكم والأسرار هي:
1 – تثبيت فؤاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
وهذا ما صرّحت به الآية كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وكان النبيّ عليه الصلاة والسلام بحاجة لهذا التثبيت وهو يواجه من الناس القسوة والنفور، ويجد من الكثيرين في مكة الغلظة والجفاء والإصرار على الكفر، مع رغبته الصادقة في هدايتهم إلى الحق، فكان الوحي يتنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين وقت وآخر فيشحذ من همته ويزيد من صبره وتحمله، بل كان ينزل القرآن في أحلك الأوقات وأقسى الحالات شدة، وإذا بالآيات تدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى متابعة الطريق بكل صبر وثبات، وتقصّ عليه ما لقي الأنبياء من أتباعهم من قسوة وعناد، قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ﴾ [الأنعام:33 – 34].
قال أبو شامة: «فإن قيل: ما السرّ في نزول القرآن منجما؟ وهلّا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولّى الله جوابه فقال تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدّد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشدّ عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه جبريل» [7].
2 – تيسير حفظ القرآن وتسهيل فهمه:
وذلك لأن القرآن نزل على أمة تغلب فيها الأمية، فلا تعرف القراءة والكتابة، وإنما سجلها ذاكرتها؛ قال تعالى في إثبات ذلك: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]. فكان من رحمة الله بهذه الأمة أن يسّر لها حفظ القرآن وسهّل عليهم فهم آياته التي تنزل مفرقة خلال فترات متقطعة من الزمن فيحفظونها ويفهمونها. وكأن القرآن بنزوله منجما رسم للصحابة الكرام منهجا تعليميا طبقوه في حياتهم وتوارثه عنهم التابعون وهو التعلّم التدريجي. أخرج البيهقي في (شعب الإيمان) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تعلموا القرآن خمس آيات.
وأخرج ابن عساكر عن أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.
المصدر الشبكة العربية للمعلومات
[1] رواه النسائي في الكبرى (7991) والحاكم في المستدرك (2/ 223) وصححه، ووافقه الذهبي.
[2] رواه النسائي في الكبرى (7990) والحاكم في المستدرك (2/ 222) وصححه، ووافقه الذهبي.
[3] رواه البخاري في المغازي، باب: حديث الإفك (3910).
[4] رواه أحمد (1/ 34) والترمذي في التفسير (3172) والنسائي في الكبرى (1/ 450).
[5] رواه أحمد (1/ 34) والترمذي (4316).
[6] الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (1/ 137) تقديم وتعليق د. مصطفى ديب البغا- طبعة دار ابن كثير ودار العلوم الإنسانية 1414 هـ.
[7] الإتقان في علوم القرآن (1/ 134) طبعة دار ابن كثير 1414 هـ، وأبو شامة: هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي فقيه شافعي، له كتاب «المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز» توفي سنة (665 هـ).