كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

‌‌أطوار النحو الأربعة

طور النشوء والنمو

هذا الطور من عهد “الخليل بن أحمد البصري، وأبي جعفر محمد بن الحسن الرؤاسي” إلى أول عصر “المازني البصري وابن السكيت الكوفي”.

فهذا الطور مبدأ الاشتراك بين البلدين في النهوض بهذا الفن والمنافسة في الظفر بشرفه، فقد تلاقت فيه الطبقة الثالثة البصرية برئاسة الخليل، والأولي الكوفية بزعامة الرؤاسي، وكذا بعدهما طبقتان من كل من البلدين فوثب هذا الفن وثبة حيي بها حياة قوية أبدية بعد، وكان هذا الطور حريا أن يسمى طور النشوء والنمو.

ونقصد الآن بالنحو معناه العام الذي يشمل مباحث الصرف لأن مباحث رجال الطور الماضي كانت منصرفة حول أواخر الكلمات كما عرف عنهم بخلاف رجال هذا الطور، فإنهم قد اتجهت أنظارهم إلى مراعاة أحوال الأبنية أيضا، فقد راعهم ما اعتورها من خطأ يجب درؤه، وذلك أنهم ما حاولوا صون الكلام من غوائل اللحن في أطرافه إلا ضنا به ألا ينهض بالإفادة والاستفادة المقصودتين منه، ورعاية أواخر الكلمات بقوانين النحو، وإن كفلت دفع اللحن عن الكلام وأصلحت هيكله الصورى للتأدية العامة إلا أن تلك التأدية لا تتم فيه إلا إذا سلمت جواهر أجزائه التي يتقوم بها، وما تأخرت ملاحظتها لهذا الحين إلا لقلة العثرات فيها بالإضافة إلى العثرات التي كانت تعترض الكلام في أواخر أجزائه، ولأن الخطأ فيها لا يذهب بالمعنى المقصود للمتكلم كالخطأ في أواخر الكلمات، كما لمست هذا في سبب وضع النحو.

فمن هذا الحين ظهرت مباحث الصرف في طي كتب النحو وشغلت منها فراغا وعم الأمرين اسم النحو، واستمر هذا الاندماج طويلا من الزمن حتى تدوول في بعض كتب المتأخرين، ولذا عرف بعضهم النحو بأنه: علم يعرف به أحوال الكلم العربية إفرادا وتركيبا ليشمل الأمرين.

نعم قد تقلص عن كتاب النحو من أوائل هذا الطور ما لا يتصل به هذا الاتصال الوثيق كمباحث اللغة والأدب والأخبار ولا ريب أن للصرف من بين سائر علوم اللغة العربية قرابته الدنيا بالنحو، على أن الخليل وهو غرة جبين هذا الطور قد جمع بين اللغة والنحو فإنه ذكر في كتاب العين الذي هو الأساس لكتب اللغة فيما نعلم مقدارا كبيرا من النحو.

ابتدأ هذا الطور وأخذت العلماء في كتب النحو ومباحثه سمتا آخر غير ما اتجهوا إليه في الماضي على ما عرفت ونشطوا في التقصي، والاستقراء للمأثور عن العرب وفي إعمال الفكر واستخراج القواعد، وكان مبعث ذلك النشاط هو التنافس البلدي الذي عرض إبان هذا الطور فرام كل من أهل البلدين “البصرة والكوفة” ظفرا على الآخر، فالخليل بعد أن جاب بوادي الحجاز ونجد وتهامة مواجها العرب في صحرائها مستمعا لأحاديثها يعود إلى البصرة، ويستجمع كل ما سمع ويشحذ ذهنه الحاد ويفرغ للبحث عن لآلئ هذا الفن من بحر علمه العميق حتى جمع أصوله وفرع تفاريعه وضم كل شيء إلى لِفْقِهِ، وساق الشواهد وعلل الأحكام وبلغ في ذلك غاية محمودة فاقت كل من سبقه، بيدَ أنه اكتفى عن تدوينه موسوعة فيه بطلبته الذين كان يملي عليهم، وممن حمل الراية في البصرة مع الخليل يونس إلا أنه قصر مجهوده على التلقي عنه ونصب نفسه للإفادة فكانت له حلقات دراسة يؤمها القاصي والداني من فصحاء الأعراب وأهل العلم، وكان له في النحو أقيسة ومذاهب خاصة تفرد بها.

ولقد عاصرهما الرؤاسي الكوفي شيخ الطبقة الأولى الكوفية، فإنه بعد اشتراكه معهما في التلقي عن الطبقة الثانية البصرية يمم الكوفة وألقى عصاه فيها وقد ألفى عمه معاذ بن مسلم الهراء الذي كان أقدم منه سنا يزاول هذا العلم، إلا أنه كلف بالبحث عن الأبنية والتمارين إلى أن غلبت عليه الناحية الصرفية التي التفت إليها الكوفيون واستنبطوا للصرف كثيرا من القواعد التي سبقوا بها البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين في المحل الثاني، ولم يكف ذلك الكوفيين في دفع التخلف اللاحق بهم على ما فاتهم من شرف النحو فتهالكوا عليه وتزاحموا بالمناكب شأن المفرط الذي يحاول تلافي خطئه، فظهرت فيهم علماء وانبعثت فيهم فكرة التأليف، وكان أول مؤلف تداولوه بينهم كتاب “الفيصل” للرؤاسي.

روى ابن النديم وغيره “وقال الرؤاسي: بعث الخليل إلي يطلب كتابي فبعثت به إليه فقرأه، وكل ما في كتاب سيبويه”، “وقال الكوفي كذا فإنما

يعني الرؤاسي”[1].

تكون على يد الإمامين الخليل ومن معه من البصريين، والرؤاسي ومن معه من الكوفيين بكل من البلدين مدرسة خاصة لها علم تنحاز إليه كل فرقة، وتتابعت الطبقات المتعاصرة من كلا البلدين.

فسطع في سماء البصرة نجوم متألقة تألف منها عقد الطبقة الرابعة بزعامة سيبويه الذي وُهب ملكة التصنيف والتنسيق، فأبدع كتابه على مثال لم يسبق إليه، ولم يدع للمتأخرين استدراكا عليه، وكان يعاصرها الطبقة الثانية الكوفية التي كان يقودها الكسائي الذي لم يأل جهدا حتى أخرج للناس مؤلفات استفادوا منها، وشد من أزره إقبال الدنيا عليه بعد اتصاله بالخلفاء والأمراء ببغداد، فاعتد[2] للكوفيين فيها متكأ وسعى سعيه حتى كون من الكوفيين جبهة قوية ثبتت أمام الجبهة البصرية ووقفت منها موقف الند للند، فإنه الذي يعتبر بحق المؤسس للمذهب الكوفي، ولولا هو لذهبت ريحهم ولما خفقت بنودهم[3] على بغداد التي عطفت عليهم من هذا الحين، ورفعت شأنهم، فاستفز ذلك البصريين لمناصبتهم أشد العداء وإشهار سلاح الخصام في وجوههم، وما زال كل من البلدين جد حريص على حوز قصب السبق رغبة في التغلب وحرصا على الإزراء بالآخر وتفانيا في الدنو من العباسيين، فاتسعت رواياته واستفاض تعليمه بين الدهماء[4] وازدادت تآليفه.

فالأخفش البصري شيخ الخامسة يصنف ويذيع على الناس ما أوتيه من علم، ومعاصره الفراء الكوفي أستاذ الثالثة تغمره عطايا المأمون وتحفزه إلى نشر العلم، وتتيح له أن يدون طوال الكتب التي راجت في بغداد والكوفة.

كل ذلك بفضل المناظرة التي بدأت هادئة أول الأمر بين البلدين على يد الخليل والرؤاسي، ثم اشتدت على مرور الأيام، وكان لها أثرها الفعال، إذ كانت وقودا صالحا لإشعال نار الاجتهاد والدأب على استكمال ما بقي من مواد هذا الفن، فحمي وطيسها في غضون هذا الطور، واندلع لهيبها إلى نهاية الطور الثالث فصلي بنارها كثير من جلة البصريين[5] وقليل من الكوفيين، وسنذكر لمحة عنها إن شاء الله تعالى بعد إتمام الكلام على هذين الطورين “البصريين والكوفيين” فإنه عند تلاقي الفريقين ببغداد وابتداء الطور الرابع الجديد قد انطفأت نار العصبية البلدية واختبى أوارها، فلم تك مناظرات بصرية وكوفية.

وقصارى القول أنه لم ينصرم هذا الطور حتى قطع النحو شوطا كبيرا شارف فيه النهاية فأرهفت له الأسماع وكثرت فيه المؤلفات التي أزيل منها ما ليس من فن النحو، وإن كان التصريف ما لبث مندسا فيه عند البصريين، فإن كتابه سيبويه وهو البقية الباقية بأيدينا من مؤلفات هذا الطور، والمرآة التي تنكشف بها صورة التأليف فيه قد جمع بين الفنين.

ولقد بهر العلماءَ أمر هذا الكتاب إذ قصرت هممهم عن مطاولته حينا من الدهر، فلم يروا إلا الطواف حوله تعليقا عليه في النواحي المختلفة شرحا واختصارا وانتقادا واستدراكا وردا وإعرابا للشواهد، وكان لذلك أثره في استبقاء الفنين معا بحثا وتصنيفا مدة مديدة عند كثير من العلماء الذين انتضوا للتأليف[6] في كتبهم الخاصة بعد فاحتذوا حذو سيبويه ومزجوا بينهما، واستمر ذلك طويلا حتى تخطى “ابن مالك” لمن بعده.

أما الكوفيون فقد ألفوا في بعض أبواب الصرف كتبا خاصة اعتناء بشأنها، لكن لم تصل تآليفهم إلى حد يجعل الصرف منفردا عن النحو بالتأليف، صنف الرؤاسي كتاب التصغير، والكسائي كتاب المصادر والفراء كتاب فَعَلَ وأَفْعَلَ، مع هذا فإن النحو قد طفق يتخلص من الصرف ويستقل الصرف بالتأليف في مستهل الطور الآتي على ما سترى.

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة

 


[1] راجع الفهرست الفن الثاني من المقالة الثانية، ونزهة الألبا ترجمة الرؤاسي ومعجم الأدبا ترجمته أيضا جـ١٨ ص١٢٢.

[2] اعتد: أي أعد.

[3] اضطربت أعلامهم وتحركت.

[4] الدهماء هنا: العدد الكثير وجماعة الناس.

[5] جلة: جمع جليل وهي من جموع القلة.

[6] انتضى السيف: أخرجه من غمده، والمراد: برزوا للتأليف.

ترك تعليق