دروس في النقد والبلاغة
الدرس السادس: مزيد بيان

لعلَّك تبينْتَ أَنَّ السجعَ والجناسَ عملانِ صوتيانِ لهما بعض الأثر في المعنى، وَأَنَّ المقابلة مِن وادي تداعي المعاني حينَ تنتقل النفس من النقيضِ إلى النقيضِ.

وَمِنَ الأدباء من كَانَ يتخذُ لنفسهِ مذهبًا في التعبيرِ قوامُه الإكثارُ من هذه الحلي حَتَّى تُصبح ضريبةً محتومةً.

وإِنَّ الأدبَ الذي تكثر فيه المقابلة والجناس والسجع لن يصور إِلَّا الزينة، ولَا يستطيع أَن يستوعب مَا في الحياةِ من معانٍ وخبرة، وسرعان مَا يُدرك الكَاتبُ أَنَّه يتحرَّك في قيودٍ ثقيلةٍ وأَنَّه مضطر إلى توزيع جهدِهِ بينَ المعنى والأسلوب.

والنُّقَّاد يريدونَ للأدب أن يكونَ طلقًا سمحًا يفي بالتعبيرِ عن النفس، وهم يميلون الآن إلى ذوق اليُسْر والقصد في الأناقةِ.

وشعار الأسلوب الأدبيِّ أَن يُطابق التعبير الفكرة والشعور دونَ أن يسيطر عليهما.

وانظر إلى قول أحدِ الأدباء: «خُلف الوعد خُلُق الوغْدِ» تجد الجناس والسجع معًا، وعلى الرغم من أَنَّ هذا التعبير في إيجازهِ أشبه بالحكمةِ؛ فَإِنَّه لا يشيع على الألسنةِ، وقصوره عَن الشيوعِ أمارة واضحة على تكلُّف صياغتهِ.

ومن جريرة التكلُّف أنه قصر الحكم على الأوْغادِ، وليس خُلف الوعد خلق الأوغادِ دونَ سواهم.


إقرأ أيضا: دروس في النقد والبلاغة الدرس الثالث: السجع

ثُمَّ انظر في قول القائل:

فَإِن حَلُّوا فليسَ لهم مقرٌّ 
وإنْ رحلُوا فليسَ لهم مفرٌّ

وقول المادحِ: «في حُسامهِ فَتْحٌ لأوليائهِ، وحَتْفٌ لأعدائهِ».

فهنا نجد كدًّا وجهدًا لا ثمرةَ له، فإِذا كان المعنى يستقيم بالجناسِ؛ فَإِنَّه لا يزيد به حُسنًا، وليسَ يكشف الجناس منه وجهًا.

وقال “الصاحب بن عباد” في رثاء “كثير بن أحمد”:

يقولونَ قد أودَى كثيرُ بنُ أحمدٍ
وذلك رزءٌ في الأنامِ جليلُ 
فقلتُ دعوني والعُلا نبكِه معًا 
فمِثْلُ كثير في الأنامِ قليلُ 

فالطباق في هذين البيتينِ يُعبِّر عن الظَّرف، وليس الفن منه في شيء.

إقرأ أيضا: دروس في النقد والبلاغة الدرس الأول: الأسلوب

ترك تعليق