ظاهرة الاستبدال في النحو العربي.. آفاق غير محدودة
(ردًّا على زاعمي محدوديته من دارسي نحو النص)

[هذا المبحث جزء من رسالة دكتوراة بعنوان: “شعر محمد مهدي الجواهري: دراسة نحوية نصية، بإشراف أ.د. محمد عبدالمجيد الطويل، نوقشت في كلية دار العلوم بتاريخ 22 يوليو 2009، وحصل صاحبها على مرتبة الشرف الأولى]

الاستبدال وسيلة أخرى من وسائل السبك النحويَّة، تعمل على الترابط بين أجزائه، وأصل الاستبدال في اللغة أخذ شيء مكان شيء، ففي لسان العرب: “تبدَّل الشيء واستبدله واستبدل به كلِّه: اتَّخذ منه بدلاً… واستبدل الشيء بغيره وتبدَّله به: إذا أخذه مكانه، والأصل في الإبدال جعل شيء مكان شيء آخر”[1].

وبالانتقال إلى مفهوم الاستبدال في نحو النص نجد المعنى نفسه، إلا أنَّه مخصوص بالتعبيرات اللغوية، فهو: “إحلال عنصر لغويٍّ محلَّ عنصر لغوي آخر”[2]، وعملية الإحلال الملحوظة هذه تجعل من السهل الربط بين الاستبدال والإحالة؛ “حيث يستبدل لفظ لاحق بـ(لفظ أو فعل أو جملة) سابقة، فيعمل على سبك النص وتماسكه، ويعمل أيضًا على اختصاره”[3]، وربما تتَّضح العلاقة بين الاستبدال والإحالة إذا علمنا اشتراط المطابقة الإحالية بين المستبدَل والمستبدل به [4].

إلا أن ثمَّةَ فروقًا بين الإحالة والاستبدال، وهي التي تُميِّز الاستبدال وتمنحه خصوصيَّة، ومن هذه الفروق[5]:

1- أنَّ الاستبدال لا يقع إلا داخل النص، في حين تقع الإحالة داخل النص وخارجه، فالاستبدال أخص من الإحالة في ذلك.

2- أن الاستبدال يعدُّ علاقة بين طرفيه على المستويين النحوي والمعجمي، أما الإحالة فهي علاقة على المستوى الدلالي[6].

3- أنه يشترط في الاستبدال كون عنصريه مشترِكَيْن في البنية الوظيفية، في حين لا يُشترط ذلك في الإحالة.

ويعدُّ الاستبدال وسيلةً قويَّةً تكفل اتِّساق النص؛ فإذا كان النص تتابعًا لوحدات لغويَّة، فالتسلسل الضميري هو الوسيلة الحاسمة لتشكيله، وعن طريقه يمكن ربط الجمل مع ضمان تنوُّع الأسلوب واختصاره، والاستبدال من العمليات التي تحقِّق ذلك[7].

كما أنَّ الاستِبدال وسيلة من وسائل التأليف على المِحور الرأسي داخل الجملة أو النص – في مقابلة ظاهرة كالتقديم والتأخير مثلاً التي تعمل على المحور الأفقي – والاستبدال بهذا يعدُّ صنوًا للقافية في فنِّ الشعر، يَتقاسمان العمل ويتكاملان: الاستبدال على مستوى البيت الواحد، والقافية على مستوى القصيدة بأكملها.

وفي الاستبدال خاصيَّة غير حقيقيَّة ألصقها به أغلب الباحثين في البحوث النصية، وهي كونه محدود العبارات والأساليب، فعلى مستوى الاسم لا نَجدهم يذكرون إلا كلمات نمطية مثل: (آخر، وآخرون، وأخرى، وواحد، وواحدة) تقع مستبدلاً للأسماء الواردة في النص، ولا نجد إلا صيغة عامَّة للفعل (فَعَلَ) تقع مستبدلاً لأي فعلٍ في النصِّ أيًّا كان معناه أو جذره اللغوي، وعلى مستوى العبارات لا نجد إلا كلمة (SO) الإنجليزية (ذلك) ترد بديلةً لجملة كاملة (أو عبارة من عدَّة جمل) في النص، فجعلوا في الاستبدال محدوديَّة بشكل ما تختلف عن الاتِّساع والثراء الذي نجده في وسائل الإحالة المتنوِّعة (الضمائر، أسماء الإشارة، الموصولات، بعض الظروف)، وفي حين يعتمد الاستبدال على عناصر لغوية بعينها نجد الإحالة – من هذا المنظور – تعتمد على أجناس لغوية.

ويذكر الباحثون في الدراسات النصِّيَّة للاستبدال أقسامًا ثلاثة بحسب الْمُستبدل به، وهي[8]:

1- الاستبدال الاسمي، وفيه يُستبدل اسم بكلمة، مثل: (آخر، وآخرون، وأخرى، وواحد، وواحدة).

2- الاستبدال الفعلي، وفيه يحل فعل محلَّ فعل آخر متقدِّم عليه، ويمثل المستبدل هنا مادة (فعل) بصيغها المختلفة.

3- الاستبدال القولي أو العباري، وفيه يستبدل عنصر لغوي بعبارة (جملة، أو عدَّة جمل) داخل النص، بشرط أن يتضمن المستبدل معنى ومحتوى المستبدل به، ويمثَّل له غالبًا بالعنصر اللغوي (SO) في الإنجليزية.

ويبدو بشيءٍ من النظر أنَّ عناصر الاستبدال أوسع مجالاً من هذه الألفاظ التي ذكروها وأرادوا حصر الاستبدال فيها، فمثلاً:

بعض الإحالات لغير مذكور تدخل في مفهوم الاستبدال الاسمي.

وكذلك صنوف الاستعارات، حيث يحل اسمٌ ظاهر مكان آخر من غير أن تتحقَّق شروط الإحالة.

كذلك يدخل في الاستبدال الاسمي قضيَّة التنوين المعوِّض عن اسم مفرد، وإقامة الصفة مقام الموصوف، والمضاف إليه مقام المضاف.

وقد يُستبدل الاسم بالضمير، كما في قول الشاعر:

سعادُ الَّتي أضناك حبُّ سعادا ♦♦♦ ……………… [9]

والأصل: حبها، وكذلك يُستبدل الحرف بضمير، نحو: ﴿ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 41]، والأصل: مأواه.

ومِن نافلة القول أن نذكر هنا تبديل لفظ بآخر في روايات الشِّعر، واختلاف بعض الألفاظ في بعض القراءات القرآنية[10].

كما أنه لم يُذكَر للاستبدال الفعلي وسيلة غير الفعل العام (فَعَلَ)، مع أنَّه يمكن – فيما يبدو لي – استعمال غير هذه الصيغة العامة وسيلةً للاستبدال، فمثلاً:

التضمين في الأفعال من الاستبدال[11].

واستعمال أسماء الأفعال من الاستبدال أيضًا [12].

وجزم المضارع في جواب الطلب داخلٌ فيه.

وإذا حلَّ العامل عمل الفعل محلَّ الفعل الذي من صيغته فهو استبدالٌ بلا شك[13].

وإذا سئِل شخص مثلاً لتقريره: أقابلت فلانًا أمس؟ فأجاب: حدث، أو حصل، كان الفعل المذكور في الجواب بديلاً عن الفعل الوارد في السؤال، فكأنه قال: “قابلته”.

بالإضافة إلى أنَّ (كان) التامة في سياق نفي قد تأتي بديلاً لأي فعل، كما في الحديث حين سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: أقصرت الصلاة أم نسيتَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((كل ذلك لم يكن))[14]، فـ(لم يكن) تُساوي (لم تُقصر الصلاة، ولم أنس).

أما الاستبدال العباري فيدخل فيه:

التنوين المعوِّض عن جملة اللاحق للظرف (إذ).

وكذلك أحرف الجواب التي “تُحذف الجمل بعدها كثيرًا، وتقوم هي في اللفظ مقام تلك الجمل” [15].

هذا، ولكي تتَّضح الصورة وتتبيَّن أقسام الاستبدال بشكل واضح، سنعرِّج على بعض شواهد كل قسم:

فالاستبدال الاسمي شائعٌ في كتاب الله عزَّ وجلَّ، ومن شواهده قوله تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68] يقول البيضاوي: “ثم نفخ فيه أخرى: نفخة أخرى، وهي تدلُّ على أن المراد بالأولى: ونفخ في الصور نفخة واحدة؛ كما صرَّح به في مواضع”[16]، فهذا التوجيه يدلُّنا على استبدال (أخرى) بـ(نفخة)، وحتَّى لو كانت صفة حُذف موصوفها فقد أخذت مكانه في التركيب وحكمه الإعرابي، ما يعني أنها جاءت بدلاً منه في البنية السطحية للنص.

ومن شواهده أيضًا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾ [الطلاق: 6]، أي: “امرأة أخرى”[17].

ومن الاستبدال الفعلي قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24]، فـ(تفعلوا) مستبدل من (فأتوا)، ومنه أيضًا: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِن لا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ))، فقد استبدل الفعل العمومي “تفعلوا” بالفعل سابق الذكر في نصِّ الحديث “زوِّجوه”، والمعنى: “إن لا تزوِّجوه”.

أما الاستبدال العباري فلعلَّ أوضح شاهدٍ عليه قوله تعالى في قصة ابني آدم: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [المائدة: 32]، فقد فسَّر المفسِّرون قوله تعالى: (ذلك) بأنَّه “ما ذُكر في تضاعيف القصة” [18]، أي أنَّه جاء بديلاً للعبارات السابقة كلها.

ومن ذلك يتضح أن محدودية ظاهرة الاستبدال ليست متفقًا عليها، وهذه دعوة للدارسين إلى استكشاف الآفاق الواسعة لظاهرة الاستبدال، عروجًا على مستوياته المختلفة صوتاً وصرفاً ونحوًا ودلالة، ووصولاً إلى إمكاناته البلاغية الأسلوبية، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.

المصدر: شبكة الألوكة


[1] لسان العرب (بدل).

[2] انظر: المدخل إلى علم اللغة / 239.

[3] معايير النصية / 59.

[4] مدخل إلى علم النص / 61.

[5] انظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق / 20.

[6] انظر: علم النص / 310.

[7] انظر: مدخل إلى علم لغة النص / 23.

[8] انظر: لسانيات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب؛ د. محمد خطابي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1991م، ص19.

[9] انظر: شرح شذور الذهب، لابن هشام الأنصاري، تحقيق: عبدالغني الدقر، دمشق، الشركة المتحدة للتوزيع، 1984م، جـ1 ص184.

[10] كما في الأثر الذي رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قرأ رجل عنده: ﴿ إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ ﴾ [الدخان: 43، 44] بلفظ (اليتيم) فقال أبو الدرداء: “قل: طعام الأثيم” فقال الرجل: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل: “طعام الفاجر”، فقوله: (الفاجر) استبدال بـ(الأثيم) بغرض مراعاة المعنى.

[11] انظر في التضمين: الخصائص 2 / 310، ومغني اللبيب 299، 899.

[12] راجع في ذلك كتاب: من وظائف الصوت اللغوي / 86؛ ففيه معالجةٌ مميَّزة لقضايا اسم الفعل وبيانٌ لعلاقاته النحوية والصوتية.

[13] انظر: شرح قطر الندى؛ لابن هشام الأنصاري، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، ط11، القاهرة، 1383ﻫ، ص260 وما بعدها.

[14] انظر: مغني اللبيب / 265.

[15] مغني اللبيب / 65، 319.

[16] حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ عبدالرزاق المهدي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417ﻫ – 1997م، 8 / 226.

[17] الدرُّ المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، تحقيق: د. أحمد الخرَّاط، دار القلم، 1406ﻫ – 1986م، 10 / 357.

[18] روح المعاني في تفسـير القرآن العظيم والسبع المثاني؛ لأبي الفضل شهاب الدين الألوسي، بيروت، دار الفكر، 1398ﻫ – 1978م، 6 / 117.

ترك تعليق