من براعة النحويين (قصص)

 

القصة الأولى:

حُكي عن الفراء النحوي؛ أنه قال: “من برع في علم واحد سهل عليه كل علم”، فقال له محمد بن الحسن القاضي – وكان حاضرًا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء -: فأنت قد برعت في عِلمك، فخذ مسألةً أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته, ثم سجد لسهوِه فسَها في سجوده أيضًا؟

قال الفراء: لا شيء عليه.

قال: وكيف؟

قال: لأن التصغير عندنا – أي: النحاة – لا يُصغَّر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يُسجَد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يُجبَر، كما أن التصغير لا يُصغَّر.

فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدْن مثلك[1].

ونظم هذا بعضهم[2] فقال:

ومنه بالأخذ بأصْل علم
في غيرِه توصُّلاً للحكم
من غير أن يَجتمِعا في أصل
ولا يمتَّ بمؤاتٍ عقلي
وإن من مستطرَف الأنباء
في ذاك ما يُروى عن الفراء
كان يقول: إن كل من برع
في علمه في غيرِه به انتفَع
قيل: فقد أحكمت علم النحوِ
فما ترى فيمَن سها في السهوِ
قال: أرى ذاك له يُغتفَرُ
فإن ذا التصغيرَ لا يُصغَّرُ

القصة الثانية:

رُوي أن أبا يوسف – صاحب أبي حنيفة – دخل على الرشيد، والكسائي يُداعبه ويمازحه؛ فقال له – أي: للرشيد – أبو يوسف: هذا الكوفي – يعني: الكسائي – قد استفرغك وغلب عليك.

فقال: يا أبا يوسف، إنه ليأتيني بأشياء يَشتمِل عليها قلبي.

فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف، هل لك في مسألة؟

فقال: نحوٌ أم فقه؟

قال: بل فقه.

فضحك الرشيد حتى فحص برجله[3]، ثم قال: تُلقي على أبي يوسف فقهًا؟!

قال أبو يوسف: نعم.

قال الكسائي: يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لامرأته: “أنت طالق أَنْ دخلت الدار”، وفتح أن؟

قال أبو يوسف: إذا دخلَت طُلِّقت.

قال الكسائي: أخطأت يا أبا يوسف.

فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟

قال الكسائي: إذا قال “أن” فقد وجب الفعل ووقَع الطلاق، وإن قال: “إن” فلم يَجِب ولم يقع الطلاق[4].

قال: فكان أبو يوسف بعدها، لا يدع أن يأتي الكسائي[5].

وإليها أشار الناظم بقوله[6]:

ومثل هذا ما حكَوا في المعنى
في (إنَّ هذانِ) عن ابن البنا
وما كهاتين على السواء
ما لأبي يوسف والكسائي
في: إن دخلتِ الدار فهْو يَرجِعُ
لأصل نحو حكمُه متَّبع

القصة الثالثة:

سُئل أبو العباس ابن البناء، فقيل له: لِمَ لم تعمل إن في ﴿ هَذَانِ ﴾ من قوله تعالى: ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ… ﴾ الآية [طه: 63]؟

فقال في الجواب: لمَّا لم يؤثِّر القول في المقول، لم يؤثر العامل في المعمول.

فقال السائل: يا سيدي، وما وجه الارتباط بين عمل “إن” وقول الكفار في النبيين؟

فقال له المجيب: يا هذا، إنما جئتك بنوَّارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكَّها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق! أو كلامًا هذا معناه[7].

القصة الرابعة:

قال الأصمعي للكسائي وهما عند الرشيد: ما معنى قول الراعي:

قتلوا ابن عفان الخليفة مُحرِمًا
ودَعا فلم أرَ مِثلَه مَخذولا

قال الكسائي: كان مُحرِمًا بالحج، قال الأصمعيُّ فقوله:

قتلوا كسرى بليلٍ مُحرمًا
فتولى لم يُمتَّع بكفن

هل كان محرمًا بالحج؟!

فقال هارون للكسائي: يا علي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي.

وقوله: “محرمًا” أي: كان في حرمة الإسلام.

قال: محمد بن سويد، قال: ابن السكيت، قال الأصمعي: ومِن ثم قيل: مسلم مُحرمٌ، أي: لم يحل من نفسه شيئًا يوجب القتل، وقوله: محرمًا في كسرى، يعني: حُرمة العهد الذي كان له في أعناق أصحابه[8].

القصة الخامسة:

يروى أنَّ الكسائي وأبا يوسف اجتمَعا لدى الرشيد، فأراد الكسائي أنْ يُبيِّن لأبي يوسف أهمية النحو وفضله، فقال له: ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك؟ وقال الآخر: أنا قاتلٌ غلامَك، أيُّهما كنت تأخذُه؟

قال أبو يوسف: آخذُهما جميعًا، قال الرشيد – وكان له بصر بالعربية -: أخطأتَ، فاستحيا أبو يوسف.

قال: الذي يؤخذ بقتلِ الغلام هو الذي قال: أنا قاتِلُ غلامِك، بالإضافة لأنَّه فعلٌ ماضٍ، أمَّا الذي قال: أنا قاتلٌ غلامَك، فلا يؤخذ به؛ لأنَّه مستقبل ولم يكن بعد، كما قال جلَّ شأنه: ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ [مريم: 23، 24] [9].

 


[1] المحاورة بين الفراء ومحمد بن الحسن موجودة في تاريخ بغداد (14 / 151 – 152)، لكن رواها قبل ذلك (14 / 151) على أن بشرًا المريسي هو الذي سأل الفراء، وذكرها كذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان (6 / 179)، وكان ذكرها قبل ذلك (3 / 296) في ترجمة الكسائي أنها جرت بينه وبين محمد بن الحسن، ثم قال: “هكذا وجدت هذه الحكاية في عدة مواضع، وذكر الخطيب في “تاريخ بغداد” أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكور والفراء”، وذكرها الصفدي في الوافي بالوفيات (6 / 382) في ترجمة الكسائي، وانظر: الموافقات (1 / 84) للشاطبي.

[2] نظم “نَيل المنى من الموافقات”؛ لابن عاصم الغرناطي الأندلسي ت829هـ.

[3] يقال: فحص برجله وقحص؛ إذا ركض أو ضرب الأرض برجله؛ انظر: لسان العرب (7 / 17) وغيره.

[4] السر في هذا أن “إن” بالكسرة شرطية؛ فيصير الطلاق معلقًا، وبالفتح مصدرية؛ فيصير مدخولها علَّة لوقوع الطلاق.

[5] قال محقق الموافقات: الصواب في المسألة: التفريق بين العارف بالعربية والجاهل بها، فيقع للعارف بالعربية، إن قال: “أن” بخلاف قوله: “إن”، وإن كان جاهلاً لم يقع شيء، أفاده الإسنوي في الكوكب الدري (ص: 471)، والقصة التي ساقها المصنف ذكرها ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة الكسائي (13 / 175 – 176) عن المرزباني أنها مع أبي يوسف، أو محمد بن الحسن على الشك، وطبقات النحويين واللُّغويين: لمحمد بن الحسن الزبيدي، (2 / 127)، وانظر: الموافقات (1 / 84).

[6] نظم “نيل المنى من الموافقات”؛ لابن عاصم الغرناطي الأندلسي ت: 829 هـ.

[7] انظر: الموافقات (1 / 85)، والإفادات (ص: 110) للشاطبي.

[8] أخبار النحويين (ص: 15)؛ لأبي طاهر المقرئ.

[9] معجم الأدباء (3 / 177).

1 تعليق

ترك تعليق