المحسنات اللفظية
“الجناس وأمثلة عليه”
شرح دروس البلاغة للشيخ محمد بن صالح العثيمين
تحقيق الأستاذ أشرف بن يوسف (19)

 

الجناس هو تشابه اللفظين في النطق، لا في المعنى، ويكون تامًّا وغير تام.

فالتامُّ: ما اتفقت حروفه في الهيئة والنوع، والعدد والترتيب (2).


(1) يعني: لما انتهى المؤلف من المحسنات المعنوية، ذكر المحسنات اللفظية التي تعود إلى اللفظ فقط.

(2) الهيئة والنوع والعدد والترتيب أربعة أشياء:

الهيئة؛ أي: الحركات: “فتحة – ضمة – كسرة – سكون”.

النوع؛ “باء – تاء – سين…” إلخ.

العدد: مثلًا أربعة وأربعة.

الترتيب.

وهذا يسمى جناسًا تامًّا، ويتضح ذلك بالمثال[1].

نحو:

لم نَلْقَ غيرَك إنسانًا يلاذُ به فلا برِحْتَ لعينِ الدهر إنسانًا (1)

ونحو:

فدارهم ما دمت في دارهم وأَرْضِهم ما دمت في أرضهم (2)


(1) الشاهد قوله: إنسانًا يلاذ به،والمراد به البشر.

وقوله: لعين الدهر إنسانًا.

والمراد به إنسان العين؛ لأن إنسان العين هو الذي يكون به البصر[2].

(2) في هذا البيت شاهدان:

الشاهد الأول: قوله: فدارهم ما دمت في دارهم؛ فـ: (دارهم – ودارهم) متفقان في الهيئة والنوع والعدد والترتيب، والمعنى مختلف.

فـ (دارِ) الأولى: فعل أمر.

و(دار) الثانية: اسم.

والشاهد الثاني: قوله: أرضهم ما دمت في أرضهم؛فــ: (أرضهم وأرضهم) متفقان في الحروف ترتيبًا وعددًا وهيئة ونوعًا، ومختلفان في المعنى.

فـ: (أرضهم) الأولى فعل أمر من رضي.

و(أرضهم) الثانية اسم[3].

ومثال ذلك أيضًا قول الشاعر:

وسميتُه يحيى ليحيى فلم يكن ♦♦♦ إلى ردِّ أمر الله فيه سبيل

فقوله (يحيى – ليحيى) جناس تام؛ لأن اللام حرف جر، وليست من الكلمة.

وغير التام، نحو:

يمدون من أيدٍ عواصٍ عواصم ♦♦♦ تصل بأسيافٍ قواضٍ قواضب (1)

14- السجع: هو توافق الفاصلتين نثرًا في الحرف الأخير (2)، نحو:

الإنسان بآدابه، لا بزيه وثيابه، ونحو: يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه (3).


(1) الشاهد: قول الشاعر: (عواصٍ – عواصم)، و(قواضٍ – قواضيب).

فهذا جناسٌ غير تام؛ لأن الثانية أزيد من الأولى بحرفٍ.

(2) قوله: نثرًا،احترازًا من الشعر، مع أن الشعر يكون فيه أيضًا السجع، لكن الغالب أن السجع يكون في النثر.

(3) السجع كثيرٌ في كلام العرب، وفي الحديث النبوي[4]، وفي كلام العلماء.

ومن أجدر من قرأت كتابه على السجع: ابن الجوزي رحمه الله في (التبصرة)؛ فهو يأتي بسجعٍ عجيبٍ، يأخذ باللب، وتشعر بأن الرجل لا يتكلف.

ويوجد الآن معنا من يكون كلامه كله سجعًا، ويتكلم بطلاقة، فهو يسهل عليه السجع.

وهل السجع محمودٌ أم مذمومٌ؟

نقول: أما إذا كان غير متكلفٍ، وجاءت به الطبيعة هكذا، فإنه محمود؛ لأنه ينمق الكلام، ويحسنه، ويطرب الأسماع.

وأما إذا كان متكلفًا، فإنه لا شك أنه مذمومٌ؛ ولهذا تجد السجع المتكلف يحصل فيه غموضٌ في المعنى؛ لأن المتكلم يحاول أن يأتي بالكلمات المتناسبة، ولكن مع مشقة.

وأما إذا أريد به الباطل، فهو واضحٌ أنه سواء كان سجعًا، أو غير سجعٍ، فإنه مذمومٌ بلا شك.

فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق))[5].

هذا سجعٌ بلا شك، وهو محمودٌ؛ لأنه غير متكلفٍ، جاءت به السليقة هكذا، فلا يكون مذمومًا.

وكذلك يوجد في بعض خطب العلماء رحمهم الله، التي تكون قبل بدء الكلام يكون فيها سجعٌ كثير[6].

مسجوع؛ لينمق الكلام، ويكون أشد طربًا للأسماع.

والخلاصة:

أولًا: السجع المتكلف مذمومٌ.

ثانيًا: السجع الذي يراد به إبطال الحق مذمومٌ.

لكن الأول مذمومٌ من حيث الشكل، والثاني مذمومٌ من حيث المضمون.

ثالثًا: السجع الذي لا يبطل حقًّا، ولا يأتي متكلفًا: محمودٌ؛ لأنه لا شك أنه يحسن الكلام.

 


[1] قال الشيخ العلامة محمد فضل حق الرامفوري في كتابه (شموس البراعة) ص146: فالتام من الجناس ما – أي: لفظ – اتفقت حروفه مع حروف لفظ آخر في الأمور الأربعة: الأول في الهيئة؛ أي: في هيئة الحروف الحاصلة باعتبار الحركات والسكنات، فنحو: البَرَد – بفتح الباء – والبُرْد – بضمها – ليس بينهما جناس تام؛ لاختلاف حركة الباء.

والثاني: في النوع؛ أي في نوع الحروف، بأن يكون كل حرف في أحد اللفظين هو في الآخر، وإنما أورد لفظ النوع تنبيهًا على أن كل حرف من الحروف الهجائية التسعة والعشرين نوع برأسه.

فالألف نوع تحته أصناف؛ لأنها إما أصلية أو مقلوبة عن واو أو عن ياء، والباء كذلك؛ لأنها إما مدغمة أو مشددة أو لا، وبهذا القياس يخرج عن التام؛ نحو: يفرح ويمرح؛ لكونهما مختلفين في الميم والفاء.

والثالث: في العدد، بأن يكون مقدار حروف أحد اللفظين هو مقدار حروف اللفظ الآخر، فيخرج نحو (الساق) و(المساق)؛ لأن الميم في الثاني لا يقابلها شيء في الأول، فلم يتفق عدد الحروف في اللفظين.

والرابع: في الترتيب، بأن يكون المقدم والمؤخر في أحد اللفظين هو المقدم والمؤخر في الآخر، فيخرج نحو: الحتف والفتح؛ لاختلافهما في الترتيب؛ اهـ.

[2] وهذا النوع من الجناس التام يسمى مماثلًا؛ لأنه جاء بين لفظين من نوع واحد من أنواع الكلمة التي هي الاسم والفعل والحرف.

فالإنسان الأول الذي بمعنى البشر، والإنسان الثاني الذي بمعنى حدقة العين، قد اتفقا في نوع الاسمية، مع كونهما متفقين في جميع الأوجه السابقة، فكان الجناس التام بينهما متماثلًا.

وإنما سمي هذا بالمتماثل؛ جريًا على اصطلاح المتكلمين من أن التماثل هو الاتحاد في النوع.

[3] ويسمى هذا النوع من الجناس التام مستوفًى، والجناس المستوفى هو ما كان التام من الجناس فيه بين لفظين من نوعين؛ أي: من اسم وفعل، أو اسم وحرف، أو من فعل وحرف، والمؤلف رحمه الله مثَّل لما كان من اسم وفعل.

ومثال الذي بين اسم وحرف، نحو: رُبَّ رجل شرب، رُب رجل آخر.

فـ: رب الأولى حرف جر، والثانية اسم للعصير المعلوم.

والذي بين حرف وفعل، نحو: علا زيد على جميع أهله؛ أي: ارتفع عليهم؛ فـ: علا الأولى فعل، والثانية حرف.

[4] سيأتي في كلام الشارح رحمه الله قريبًا مثال على السجع في الحديث النبوي.

[5] رواه البخاري (2729)، ومالك في الموطأ 2/ 610(17)، ورواه أحمد في مسنده 6/ 213(25786)، بلفظ: “كتاب الله أحق”.

[6] ومن ذلك خطب الشيخ الشارح رحمه الله في كتابه (مجالس شهر رمضان)، ومنها:

الحمد لله الذي لا مانع لما وهب، ولا معطي لما سلب، وطاعته للعالمين أفضل مُكتسب، وتقواه للمتقين أعلى نسب، هيأ قلوب أوليائه للإيمان وكتب، وسهَّل لهم في جانب طاعته كل نصَب، فلم يجدوا في سبيل خدمته أدنى تعب، وقدر الشقاء على الأشقياء حين زاغوا فوقعوا في العطب، أعرضوا عنه وكفروا به فأصلاهم نارًا ذات لهب، أحمده على ما منحنا من فضله ووهب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هزم الأحزاب وغلب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه الله وانتخب، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الفائق في الفضائل والرتب، وعلى عمر الذي فر الشيطانُ منه وهرب، وعلى عثمان ذي النورين التقي النقي الحسب، وعلى عليٍّ صهره وابن عمه في النسب، وعلى بقية أصحابه الذين اكتسبوا في الدين أعلى فخر ومُكتسب، وعلى التابعين لهم بإحسان ما أشرق النجم وغرب، وسلم تسليمًا؛اهـ.