الحذف والتقدير في اللغة العربية

الحذف اصطلاحًا:

“هو حذف العامل مع بقاء أثره الإعرابي؛ أو هو: إسقاط صيغ داخل التركيب في بعض المواقف اللغوية، وهذه الصيغ التي يرى النحاة أنها محذوفة تلعب دورًا في التركيب في حالتي الذكر والإسقاط، وهذه الصيغ يفترض وجودها نحويًا لسلامة التركيب وتطبيقًا للقواعد، ثم هي موجودة ويمكن أن تكون موجودةً في مواقف لغوية مختلفة”[1].

وبعضهم يطلق الحذف على “ما لا يبقى له أثر في اللفظ”[2]، ويمكن أن يطلق على “حذف العامل وتدع ما عمل فيه على حاله من الإعراب”[3]، ويمكن القول هنا: إن المحذوف شبه معروف على الرغم من غيابه؛ ويمكن تقديره بسهولة لأنه مفهوم من السياق.

ويرى ابن هشام أن “الحذف الذي يلزم النحوي النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة، وذلك بأن يجد خبرًا بدون مبتدأ أو بالعكس، أو شرطًا بدون جزاء أو بالعكس، أو معطوفًا أو معمولًا بدون عامل”[4].

ويشترط النحاة والعلماء شروطًا لوقوع الحذف النحوي، وتتلخص فيما يلي:

1- وجود دليل مقالي: وهو كلام يدل على المحذوف؛ كما في قوله تعالي: ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ﴾ [النحل: 30]؛ أي: أنزل خيرًا، فحذف الفعل للدليل المقالي.

2- وجود دليل حالي: يفهم من سياق الكلام وحال المتكلمين؛ نحو قوله: ﴿ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان:63].

3- وضوح المعنى وأمن اللبس: وهذا من أهم الشروط التي يجب مراعاتها مع كل ما يتصل بالنشاط اللغوي

وظواهره المختلفة؛ كالاستغناء، والحذف، والتقديم والتأخير، والتضمين، والحمل بأنواعه، وغير ذلك.

ويشيع الحذف ومظاهره في معظم أبواب النحو العربي والصرف؛ وذلك لأن ” العرب قد حذفت الجملة، والمفرد، والحرف، والحركة، وليس من شيء من ذلك إلا عن دليل عليه، وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته”[5].

وتأتي أهمية القول بالحذف في أنه “أحد المطالب الاستعمالية؛ فقد يعرض لبناء الجملة المنطوقة أن يحذف أحد العناصر المكونة لهذا البناء – أو الجملة المكتوبة – وذلك لا يتم إلا إذا كان الباقي في بناء الجملة بعد حذفها مغنيًا في الدلالة، كافيًا في أداء المعنى، وقد يحذف أحد العناصر؛ لأن هناك قرائن معنوية أو مقالية تشير إليه[6]” كما سبق أن ذكرنا، ولذلك يقول ابن جني:” إن العرب إذا حذفت من الكلمة حرفًا – أو كلمةً أو جملةً – راعت حال ما بقى منه، فإن كان مما تقبله أمثلتهم أقروه على صورته”[7]؛ لأن” حذف ما حذف من الكلمة يبقي منها بعده مثالًا مقبولًا، لم يكن لك بد في الاعتزام عليه، وإقراره على صورته تلك البتة”[8]. وهذا يطلعنا” على حقيقة العربية، وميلها إلي الإيجاز الشديد، وأن المحذوفات في كتاب الله تعالي – لعلم المخاطبين بها – كثيرة جدًا، وهي إذا أظهرت تم بها الكلام، وحذفها أوجز وأبلغ”.[9]

وقد امتدح كثير من النحاة والعلماء الحذف في اللغة؛ يقول عبد القاهر الجرجاني: ” باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر؛ فإنك ترى أن ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عند الإفادة أزيد للإفادة، وتجد أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تبن”[10].

ويقول ابن جني: “لأنهم قد يستعملون من الكلام ما غيره أثبت في نفوسهم منه؛ سعةً في التفسح وإرخاءً للتنفس، وشحًا على ما جشموه فتواضعوه، أن يتكارهوه، فبلغوه، ويطرحوه، فاعرف ذلك مذهبًا لهم، ولا تطع-ن عليهم متى ورد شيء منه”.[11]

ويقول أيضًا: “لا ينكر أن يكون في كلامهم أصول غير ملفوظ بها؛ إلا أنها مع ذلك مقدرة، وهذا واسع في كلامهم كثير”.[12]

ويقول أيضًا: “لأنه لا يستنكر الاعتداد بما لم يخرج إلى اللفظ؛ لأن الدليل إذا قام على شيء في حكم الملفوظ به؛ وإن لم يجر على ألسنتهم استعماله”.[13]

ويقول ابن يعيش: “الألفاظ إنما جيء بها للدلالة على المعنى، فإذا فهم المعنى بدون اللفظ جاز ألا تأتي به، ويكون مرادًا حكمًا وتقديرًا”[14].

ويرى السيوطي أن “القياس يقتضي عدم حذف حروف المعاني وعدم زيادتها؛ لأن وضعها للدلالة على المعاني؛ فإذا حذفت أخل حذفها بالمعنى الذي وضعت له، وإذا حكم بزيادتها في ذلك وضعها للدلالة على المعنى، ولأنهم جاءوا بالحرف اختصارًا لا يسوغ حذفه ولا الحكم بزيادته، فلهذا مذهب البصريين، المصير إلي التأويل ما أمكن؛ صيانةً عن الحكم بالزيادة أو الحذف [15]. وقد تحدثنا عن الزيادة سلفًا.

أما التقدير:

فهو “محاولة معرفة العامل المحذوف، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتناول محذوفات أخرى غير العامل، فهو يتناول حذف المعمول، وكذلك حذف الجملة بأسرها؛ أي: العامل والمعمول معًا أو هو افتراض صياغة المفردات أو الجمل أو سبكها بهدف تصحيح الحركة الإعرابية”[16].

ويلعب الذهن والتفكير دورًا فعالًا في التقدير فهو يقوم على الافتراض ومحاولة معرفة المحذوف وتقديره، سواءً أكان العامل أو معرفة المحذوف غير العامل بالنسبة للتقدير، والتقدير كذلك” قائم على الاجتهاد الذي – يتيح – عدة أوجه في العبارة الواحدة، لأن لكل وجه تأويلًا مختلفًا حتى ولو كان ذلك مخالفًا للصورة الأصلية للنص”[17].

ومما هو مشهور أن “التقدير من الأمور التي تحتاج في عملها إلى إعمال الفكر والعقل، خاصةً أن مجال عملها هو الجانب الخفي غير الظاهر من الأشياء”[18].

و”التقدير صراع من وراء النص لمحاولة إخضاعه لقاعدة ما؛ وإن لم يغير ذلك طريقة نطقه شيئًا، وقد اختلفت اتجاهاته ومناحيه؛ لأنه قائم على الاجتهاد الشخصي والبراعة الذاتية البعيدين عن اللغة”.[19]

وبعد، فالتقدير “وسيلة من أهم وسائل التأويل التي يلجأ إليها عالم اللغة لتفسير المخالفة التي قد تحدث بين القاعدة أو القانون اللغوي وبين النصوص المستعملة؛ رغبةً في تحقيق قدر مناسب من التوافق بينهما”[20].

 


[1] الحذف والتقدير، لعلي أبو المكارم (ص196).

[2] البرهان، للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1972م (3/ 102).

[3] الحذف والتقدير، لعلي أبو المكارم (ص205).

[4] مغني اللبيب، لابن هشام (2/ 176).

[5] مغني اللبيب، لابن هشام (2/ 692).

[6] في بناء الجملة العربية، لحماسة عبد اللطيف (ص 346).

[7] الخصائص، لابن جني (3/ 115).

[8] الخصائص، لابن جني (3/ 113).

[9] الرد على النحاة، لابن مضاء (ص69).

[10] دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني (ص146) ، ينظر: الخصائص، لابن جني (2/ 432).

[11] الخصائص، لابن جني (3/ 319).

[12] المنصف، لابن جني (1/ 348).

[13] الخصائص، لابن جني (2/ 343).

[14] شرح المفصل (1/ 64).

[15] ينظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي (1/ 56).

[16] الحذف والتقدير، لعلي أبو المكارم (ص 205)، وينظر: مناهج البحث عند النحاة العرب، لعلي أبو المكارم (ص474).

[17] الخصائص (1/ 13).

[18] الحذف والتقدير في بنية الكلمة؛ لكمال سعد، ماجستير، دار العلوم، القاهرة 1993م، (ص11).

[19] تحصيل عن الذهب بهامش الكتاب (1/ 470) تعليق الأعلم الشنتمري، ط بولاق، القاهرة 1316ه-.

[20] الحذف والتقدير في بنية الكلمة، لكمال سعد (ص11).