ما هي أقسام الإيجاز؟
شرح دروس البلاغة للشيخ محمد بن صالح العثيمين
تحقيق الأستاذ أشرف بن يوسف (4)

الإيجاز إما أن يكون بتضمن العبارة القصيرة معاني كثيرة، وهو مركز عناية البلغاء، وبه تتفاوت أقدارهم، ويسمى إيجاز قصر، نحو قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [البقرة: 179].

وإما أن يكون بحذف كلمة، أو جملة، مع قرينة تعين المحذوف، ويسمى إيجاز حذف (1).


(١) يعني رحمه الله: أن الإيجاز على نوعين:

النوع الأول: إيجاز قصر: هذا النوع يختلف فيه الناس اختلافًا عظيمًا.

ومثاله قول الله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [البقرة: 179]، فهذه عبارة مختصرة، لكنها جمعت بين الحُكم، وكيفية تنفيذه، والغاية منه:

الحكم: القِصاص.

والغاية منه: الحياة.

وكيفية تنفيذه: أن يفعل بالجاني كما فعل.

وقال بعضهم: واشتهر عند الجاهليين عبارة يتناقلونها، ويرون أنها من أبلغ العبارات، وهي قولهم: القتلُ أنفى للقتل.

لكن لو قارنت بينها وبين الآية، لوجدت الفرق العظيم؛ لأن هذه العبارة: (القتل أنفى للقتل) كلها قتل، وليس فيها حياة، ولأنها ليس بها دليل على أنها مقاصة.

وذكر أهل العلم رحمهم الله عشرة أوجه في الفرق بينهما، مع أننا لا نحبذ هذا؛ لأنه لا شك أنه لا سواء، ولا مقاربة بين صفات الخالق والمخلوق، والقرآن صفة الخالق عز وجل.

إذًا: هذه الجملة فيها إيجاز قصر؛ لأنها تضمنت معاني كثيرة، مع أن كلماتها قليلة، ثلاث كلمات فقط.

فحذف الكلمة؛ كحذف (لا) في قول امرئ القيس:

فقلت: يمين الله أبرح قاعدًا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (1)

وحذف الجملة؛ كقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [آل عمران: 184]؛ أي: فتَأَسَّ واصبر.

وحذف الأكثر، نحو قوله تعالى: ﴿ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ﴾ [يوسف: 45، 46]؛ أي: أرسلوني إلى يوسف؛ لأستعبره الرؤيا، ففعلوا، فأتاه، وقال له: يا يوسف (2).

موضوعات ذات صلة:

(١) التقدير: لا أبرح؛ لأن الأفعال (أبرح، وزال، وفتئ، وانفك) لا تعمل عمل (كان) إلا إذا سُبقت بنفي أو شبهه[1].

(2) بدلًا من كلام المؤلف الطويل هنا نقول: إن التقدير بعد قوله تعالى: ﴿ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 45]، فأرسَلوه، فأتى يوسف، وقال له: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ﴾ [يوسف: 46]، فتجد فيها حذفًا.

وكما قلت لكم من قبل: إن الغالب في القصص في القرآن أن يكون فيها حذف[2].

أقسام الإطناب

الإطناب يكون بأمور كثيرة:

(منها): ذكر الخاص بعد العام، نحو: اجتهدوا في دروسكم، واللغة العربية (1).

وفائدته: التنبيه على فضل الخاص، كأنه لرفعته جنس آخر مغاير لما قبله.

(ومنها): ذكر العام بعد اخاص؛ كقوله: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28] (2).


(١) الشاهد قوله: واللغة العربية؛ لأنها من دروسهم، لكن نص عليها لما سيأتي.

ومثله قوله تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ [القدر: 4]؛ فالروح بعض الملائكة؛ فهو من باب ذكر الخاص بعد العام.

(٢) قوله: ﴿ وَلِوَالِدَيَّ ﴾، هذا خاص.

وقوله: ﴿ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ﴾: أعم؛ لأنه يشمل والديه؛ لأنهما يدخلان بيته، وغيرهما ممن يدخل بيته مؤمنًا، لكنه خاص بالنسبة لقوله: ﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، فصارت الآية فيها ترقٍّ من العام إلى ما هو أعم.

والفائدة: هي إرادة العموم بعد التخصيص.

وفي هذه الآية دليل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين[3]؛ لأنه استغفر لهما، ولم يُنْهَ عن ذلك.

بخلاف إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه استغفر لأبويه: ولكنه نهي عن الاستغفار لأبيه.

قال الله تعالى في إبراهيم: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].

ومنهما: الإيضاح بعد الإبهام، نحو: ﴿ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ﴾ [الشعراء: 132، 133].

(ومنها): التكرير لغرض؛ كطول الفصل في قوله:

وإن امرأً دامت مواثيق عهده على مثل هذا إنه لكريم (1)

وكزيادة الترغيب في العفو في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14] (2).


(١) الشاهد: قوله: إنه لكريم.

إذ لو حذف (إنه)، وقال: وإن امرأً دامت مواثيق عهده على مثل هذا لكريم، لاستقام الكلام، لكن لطول الفصل أعاد، فقال: إنه لكريم.

(٢) قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا ﴾ [التغابن: 14]:

قوله: ﴿ تَعْفُوا ﴾، هذا هو العفو، لكن العافي قد لا يصفح، فيتكلم فيمن جنى عليه، لكن إذا صفح وأعرض عنه، وولاه صفحة عنقه، صار أبلغ من مجرد العفو.

فالعفو عدم المؤاخذة، والصفح الإعراض عن المعاقبة إعراضًا تامًّا، كأن شيئًا لم يكن، والإنسان ربما يعفو ولا يعاقب، لكن يبقى في قلبه شيء؛ ولذلك كان الصفح أجمل من العفو.

وقوله: ﴿ وَتَغْفِرُوا ﴾، وهذا أبلغ؛ وذلك بأن تستروا عليه، ولا يبقى في قلوبكم شيء؛ فهو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى.

وكتأكيد الإنذار في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 3، 4] (1).

(ومنها): الاعتراض، وهو توسط لفظ بين أجزاء جملة، أو بين جملتين مرتبطتين معنى لغرض، نحو:

إن الثمانين وبُلِّغْتَها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (2)


(١) وكذلك في سورة النبأ؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴾ [النبأ: 4، 5].

(٢) هذا مثال على توسط لفظ بين أجزاء جملة.

والجملة هي: أن الثمانين قد أحوجت.

والجملة المعترضه هي: وبلغتها.

وهو هنا يخاطب الملك، يقول: وبلغتها أنت، فجملة “وبلغتها” دعائية، فهو يدعو له بأن يبلغ الثمانين.

وقوله: قد أحوجت سمعي إلى ترجمان، يعني: أنه قد أثقل سمعه لما بلغ الثمانين، واحتاج إلى ترجمان؛ يعني: أحدًا يبلغ؛ لأن المبلغ مترجم.

ونحو قوله تعالى: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [النحل: 57] (1).

(ومنها): التذييل، وهو تعقيب الجملة بأخرى، تشتمل على معناها؛ تأكيدًا لها.

وهو إما أن يكون جاريًا مجرى المثل؛ لاستقلال معناه واستغنائه عما قبله؛ كقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].

وإما أن يكون غيرَ جارٍ مجرى المثل؛ لعدم استغنائه عما قبله؛ كقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17] (2).


(١) هذا مثال على توسط لفظ بين جملتين مرتبطتين معنى لغرض:

فاللفظ هو: قوله: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ [النحل: 57].

والمقصود بذلك: تنزيه الله عز وجل عما جعلوا له من البنات[4].

وهذه الكلمة ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ [النحل: 57] في هذا الموضع من أحسن ما يكون موضعًا.

ومثال ذلك أيضًا: قوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾ [المنافقون: 1].

فالاعتراض هنا من أحسن ما يكون.

(2) الشاهد في الآية الأولى: قوله: ﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].

فهذا يحسن أن يكون مثلًا، فكلما قيل لك: إن الباطل قد خذل صاحبه، تقول: إن الباطل كان زهوقًا.

أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17]؛ فإن قوله سبحانه: ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17] لا يمكن أن نجعله مثلًا؛ لأنه مرتبط بما قبله؛ أي: بقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ﴾ [سبأ: 17].

وهذا يسمى التذييل؛ لأن الجملة الثانية وقعت ذيلًا للجملة الأولى.

ولدينا هنا التذييل، والحاشية والهامش، وبينها فرق:

فالهامش: يكون على اليمين، أو اليسار، أو فوق.

(ومنها): الاحتراس، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه، نحو:

فسقى ديارَك غيرَ مفسدها صوبُ الربيع وديمةٌ تَهْمي (1)


والحاشية: أسفل.

والتذييل أن يؤتى بجملة بعد جملة، لكنها لها اتصال بها، ونوع من التكميل.

(١) الشاهد: قوله: غيرَ مفسدها؛ لأنه لو قال: فسقى ديارك صوب الربيع وديمة تهمي، لأوهم أنه إذا كثر المطر يفسد الديار، فقال: غيرَ مفسدها، للاحتراس من ذلك.

وبهذا انتهى علم المعاني.


[1] المراد بشبه النفي في كلام الشارح رحمه الله: النهي أو الدعاء، أو الاستفهام.

ومثال النهي: قول الشاعر:

صاحِ، شمر ولا تزل ذاكر المو تِ فنسيانه ضلال مبين

ومثال الدعاء: قولك وأنت تدعو لإنسان: لا يزال الله محسنًا إليك، ولا زال جنابك محروسًا!

ومثال الاستفهام: قولنا: هل تزال مصممًا على رأيك؟

فائدة: كلمة (يمين) المذكورة في البيت الذي استشهد به المؤلف رحمه الله تروى بالرفع والنصب:

فأما الرفع: فعلى أنه مبتدأ، حذف خبره، والتقدير: يمين الله قسمي، أو عليَّ يمين الله.

وأما النصب فعلى أحد وجهين:

أولهما: أن يكون أصل الكلام: بيمين الله،فحذف حرف الجر، فانتصب الاسم المجرور، وهذا هو الذي يقال له: منصوب بنزع الخافض.

ثانيهما: أن يكون مفعولًا مطلقًا، حذف عامله، وتقدير الكلام: أقسم يمين الله؛ فالمحذوف من معنى المذكور.

ذكر هذين الوجهين جماعة، منهم: الوزير أبو بكر شارح ديوان امرئ القيس.

وعلى كل حال (يمين) مضاف، و(الله) مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة.

وانظر أوضح المسالك لابن هشام ص ٢١٠، ٢١١، حاشية (٨٠).

[2] تقدم ص ١٨١.

[3] مما يدل على ذلك أيضًا: ما رواه الطبري في تفسيره 2/ 334، والحاكم في مستدركه 2/ 280، ٥٩٦؛ كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه.

ورواه الطبري أيضًا في تفسيره 29/ 99، عن عكرمة، ولفظه: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.

[4] والجملتان المرتبطتان معنى، هما:

الجملة الأولى: قوله سبحانه: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ ﴾ [النحل: 57].

والجملة الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [النحل: 57].

ترك تعليق