من أسباب الاختلاف بين القاعدة النحوية والتطبيق
عناية النحاة بتطبيق قواعدهم وإطرادها

لقد بات من المشهور أن “ صناعة النحو تستخرج القواعد من المسموع؛ وهو بعض اللغة لا كلها، ثم يقوم النحاة بإطراد هذه القواعد على ما لم يسمع، وذلك بواسطة القياس[1]، وحاول النحاة فرض هذه القواعد على العرب كافةً، لكي يلتمسوها عند نطقهم وفي كتابتهم وحين إبداعهم، لأنهم يؤمنون بأن ” كل علم يصاغ صياغة دقيقة لا بد له من إطراد قواعده، وأن تقوم قواعده على الاستقراء الدقيق، وأن يكفل لها التعليل، وأن تصبح كل قاعدة أصلًا مضبوطًا تقاس عليه الجزئيات قياسًا دقيقًا” [2]. لكن النحاة عند إطرادهم القواعد ومحاولة تطبيقها خرجت أو تمردت بعض النصوص العربية الفصيحة المسموعة عن سلطان القواعد النحوية، ويرجع هذه الخروج إلى أسباب عدة، فيمكننا إضافة أسباب أخرى لما ذكرناه عن منهج النحاة في وضع القواعد النحوية، وأهم الانتقادات التي وجهها بعض العلماء لبعض القواعد النحوية ومنهج وضعها، وكان كل ذلك من أسباب الاختلاف بين القاعدة النحوية والتطبيق، ومن هذه الأسباب الأخرى ما يأتي:

1- عناية النحـاة بتطبيق قـواعـدهم وإطرادها:

لقد بذل النحاة العرب جهودًا جبارةً مشكورةً لوضع قواعد النحو العربي، لكن النحاة قد بالغوا في فرض هذه القواعد وإطرادها على العرب أصحاب اللغة، فهم “فرضوها على الفصحاء العرب، وفرضوها على الفحول من الشعراء، ثم فرضوها في آخر الأمر على أصحاب القراءات”.[3] فبعد أن كان النحو عمليةً تقوم “في مبتدئها على الاستقراء والتقعيد، فأصبحت بعد زمن تقوم على القاعدة والتطبيق، وخلف بعد الرعيل الأول من رجالها خلف وقفوا من النحو موقف المتكلمين من الدين، كان الدين سمحًا فطريًا فجعله المتكلمون فلسفةً وقضايا منطقيةً، وكان النحو سهلًا هينًا وصفيًا، فجعله النحاة فلسفةً وقضايا معياريةً ومنطقيةً أيضًا، حتى أصبح الطابع المميز للنحو العربي أنه يعـد مجهودًا دراسيًا لغويًا؛ بقدر ما تحول إلى مجهود فكرى من الطراز الأول”[4]. وفي هذا الشأن يرى الدكتور إبراهيم أنيس أن” أولئك الذين أسسوا الأصول لم يقتصروا على ذلك، بل قاسوا ما لم يسمعوا على ما سمعوه، وأسرفوا في قياسهم، وابتكروا في اللغة أصولًا وقواعد رغبةً منهم في إطراد الإعراب وانطباقه على كل أسلوب أو انطباق كل أسلوب عليه… تمت للنحاة تلك المجموعة الضخمة من أصول إعرابية دقيقة ورثوها من بعدهم، وربما لم يكن يدور في أذهانهم أن من جاء بعدهم سيتعبدون بها، ويحلونها مكان القداسة والعبادة!!” [5].

والحق أن الأمر ليس على إطلاقه كما يزعم رحمه الله، ولكننا لا يمكننا إنكار أن النحاة قد جعلوا هذه القواعد أحكامًا، فكانت في نظرهم أولى بالاعتبار مما خالفها من المسموع، ومن ثم أعملوا فيما خالف قواعدهم حيل التخريج والتأويل والتعليل[6].

 


[1] الأصول، لتمام حسان (ص273).

[2] المدارس النحوية، لشوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة (ص18).

[3] من أسرار اللغة، لإبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1966م، (ص209).

[4] اللغة بين المعيارية والوصفية؛ لتمام حسان، ط مطبعة الرسالة، القاهرة، 1958م، (ص170).

[5] من أسرار اللغة (ص199).

[6] ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها، لتمام حسان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973م(ص13).

ترك تعليق