ضرورة صناعة القواعد النحوية

لقد كان العرب قديمًا قبل وضع علم النحو ينطقون لغتهم بكل سهولة ويسر؛ بسليقة جبلوا عليها، فكانت اللغة تخرج من أفواههم كما يفوح العطر من الزهر، وكما يسيل العسل من النحل، فإنهم في جاهليتهم كانوا يتكلمون في شؤونهم دون تعمل فكر، أو رعاية قانون كلامي يخضعون له، قانونهم ملكتهم التي خلقت فيهم، ومعلمهم بيئتهم المحيطة بهم[1]، وقد نشأت اللغة العربية في أحضان الجزيرة العربية خالصةً لأبنائها منذ ولدت نقيةً وسليمةً مما يشينها من أدران اللغات الأخرى، وبقيت كذلك متماسكة البنيان غير مشوبة بلوثة الإعجام[2]، فاللغة العربية ظاهرة اجتماعية عرفها العرب بغير وسيط تعليمي أو تعلمي، عرفها أصحابها بغير معلم أو متعلم، وقد استمرت تنمو وتزدهر وفق سنن التطور في كل ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية [3]، “ ولم يؤثر عن العرب أي نوع من الدراسات اللغوية قبل الإسلام [4].

وبعد أن ظهر الإسلام وغمر الدنيا بنوره، ودخل الإسلام صاحب الكتاب العربي بلادًا غير عربية، ودخل العجم جزيرة العرب مؤمنين عاملين بين المسلمين، فتعلم العرب لسان غيرهم، وتعلم العجم لسان العرب فنطقوا باللغة العربية وتعلموها ولكن كان نطقهم لاحنًا، حيث إنهم نطقوا بها نطقًا خاطئًا يخالف أسس اللغة العربية وأحكامها، ” وأصبحت هذه الظاهرة خطرةً بعد الفتح الإسلامي وكثرة الموالي في البيئة العربية، وزاد الأمر خطورةً بإصهار العرب لغير العرب، فنشأت فيهم ناشئة لا تقيم ألسنتهم بلغة آبائها”[5]؛ مما كان له أبلغ الأثر في أن يهب العرب ليتصدوا لهذا الخطر الجارف ويحافظوا على لغتهم من مغبتــه[6].

ولقد كان انتشار اللحن سببًا رئيسًا في دفع علماء العربية إلى التفكير في وضع قانون يعيد العرب إلى طبيعتهم وسليقتهم اللغوية، ليحفظها من الزيغ والانحراف ثم الاندثار[7]، لأن اللحن في هذه الفترة – فترة انتشار الإسلام في بلدان غير عربية – قد صار ظاهرةً لغويةً في منطق العربي والعربية، وانتشر انتشارًا رهيبًا بين طوائف العرب، وتسرب ذلك كله إلى النطق بالقرآن الكريم، فنطق به بعض الناس نطقًا لاحنًا، سواءً أكان ذلك من عامة العرب أو خاصتهم!![8]

ويضاف لظاهرة اللحن عوامل أخرى دفعت لظهور قواعد النحو العربي[9]؛ منها:

العامل الديني: ” فيبدو أن كثيرًا من المحاولات الأولى للدرس اللغوي التي تمت في أماكن مختلفة من العالم كانت مرتبطةً بالدين والعقيدة “[10]، وقد” حرص العرب المسلمين حرصًا شديدًا على أداء نصوص الذكر الحكيم أداءً فصيحًا سليمًا إلى أبعد الحدود في الفصاحة والسلامة، وخاصةً بعد أن أخذ اللحن يشيع على الألسنة، وتطرق ذلك إلى قراءتهم للقرآن الكريم”[11]، ولا عجب من صنع النحاة العرب، فقد كان” القرآن الكريم محور الدراسات الثقافية عند العرب”[12].

العامل القومي: فقد وجد العرب أنفسهم قد أصبحوا قوامين على أمم ذات حضارات قديمة وثقافات ذات تنوع وعمق، ولم يكن للعرب مثل هذه الحضارات ولا تلك الثقافات، كما كان عند غيرهم من الأمم؛ مثل: السريان والهنود والمصريين، فوجد العرب أنفسهم أمام أمر جد خطير، هو: إما أن يكونوا أصحاب رسالة لا تستند إلى ثقافة، وبذلك يعرضون دينهم ولغتهم للجمود وتدخل الأفكار الأجنبية، أو يثبتون لأنفسهم وللعالم أجمع أنهم أهل لحمل رسالة السماء والحفاظ عليها ونشرها والذود عن اللغة العربية ضد كل ما يعرضها للانحراف[13]، ولذلك” أهابت العصبية العربية بالعلماء في الصدر الأول الإسلامي أن يصدوا هذا السيل الجارف الذي كاد يكتسح اللغة العربية؛ بما قذف فيها من لحن تسربت عدواه إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة، بما هدوا إليه من علم النحو”[14].

 


[1] ينظر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، لمحمد الطنطاوي، مطبعة المنار، القاهرة (ص9)، ومدخل إلى علم اللغة، لمحمد حسن عبد العزيز، مطبعة دار الهاني، القاهرة (ص35).

[2] ينظر: نشأة النحو، لمحمد الطنطاوي (ص5).

[3] ينظر: سيبويه جامع النحو العربي، لفوزي مسعود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1986م (ص19).

[4] البحث اللغوي عند العرب، لأحمد مختار عمر، عالم الكتب، الطبعة السادسة، القاهرة، 1988م (ص77، 80).

[5] الأصول، لتمام حسان، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1982م (ص23).

[6] ينظر: سيبويه جامع النحو، لفوزي مسعود (ص10).

[7] ينظر: الحلقة المفقودة في تاريخ النحو العربي، لعبدالعال سالم، مؤسسة الرسالة، بيروت،1993م (ص11، 28)، والبحث اللغوي عند العرب، لأحمد مختار عمر (ص90).

[8] ينظر: التوهم عند النحاة، لعبدالله جاد الكريم، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى،1422هـ/2002م (ص12).

[9] ينظر: الأصول، لتمام حسان (ص22) وما بعدها.

[10] ينظر: البحث اللغوي عند العرب، لأحمد مختار عمر (ص78، 81).

[11] ينظر: نشأة النحو، لمحمد الطنطاوي (ص8).

[12] الأصول، لتمام حسان (23، 24).

[13] ينظر: الأصول، لتمام حسان (ص 23، 24).

[14] ينظر: نشأة النحو، لمحمد الطنطاوي (ص8).

ترك تعليق