من أساليب العربية

النهي وأداتـه

النهي من المعاني التي يقصد إليها المتكلمُ قديمًا وحديثًا، العالمُ وغير العالم؛ لأنه من الأساليب التي لا يستغني عنها الكلام.

والنهي في اللغة: ضد الأمر، تقول: نَهَيْتُه عن الشيء، أنهاه نهيًا، فانتهى عنه، وتناهى؛ أي: كفَّ، ومنه تَنَاهَوْا عن المنكر؛ أي: نهى بعضهم بعضًا؛ (المعاجم العربية، مادة (نهي).

وقال الكفوي في كلياته:

“النهي لغة: الزجر عن الشيء بالفعل أو بالقول…” (الكليات، الكفوي، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري، عن مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1988، ص: 903).

والنُّهْية: العقل؛ لأنه ينهى عن الوقوع فيما يخالف الصواب، فمادة “نهي” تدور حول المنع من الشيء، وطلب الكف عنه؛ لسان العرب، ابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري، تحقيق: عبدالله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، نشر دار المعارف بالقاهرة، مادة (نهي).

والنهي مصدر “نهى”، وهو واويٌّ ويائي أيضًا، تقول في الواوي: نَهَوْتُه عن الشيء، وفي اليائي نَهَيْتُه، وفي القرآن الكريم: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 79].

في الاصطـلاح:

لم يُعرِّف شيخُ النَّحْويين سيبويه النهيَ في كتابه، بل اكتفى بجعله نقيضًا للأمر، قال: “لا تَضْرِبْ” نفيٌ لقوله: “اضرِبْ”؛ الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبدالسلام هارون، ط 2 نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1977، 1/136.

ومعنى ذلك: أنَّ الأمر هو الإيجاب، والنهي هو السلب أو نفي الأمر.

موضوعات ذات صلة:
من أساليب العربية: أسلوب التقرير وأدواته
من أساليب العربية: النهي وأداته

وقال الأنصاري: “النهي اقتضاء الكف”؛ الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، الشيخ زكريا الأنصاري، تحقيق: مازن المبارك، دار الفكر المعاصر بيروت، الطبعة الأولى سنة1991، ص: 48.

وأشار الجُرجاني في تعريفه للنهي إلى قيدين، أحدهما: اشتراط الاستعلاء، والآخر: صيغة النهي، وذلك بقوله: “النهي: هو قول القائل لمن دونه: لا تفعل”؛ التعريفات، ص: 316.

وقال السكاكي: “إنَّ أصلَ استعمال “لا تفعل” أن يكون على سبيل الاستعلاء”؛ مفتاح العلوم، السكاكي، تحقيق: عبدالحميد هنداوي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية لبنان، سنة 2000، ص: 320.

والتقارب بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي يبدو جليًّا؛ إذ نلمس فيهما معًا معنى الزجر وطلب الكف عن فعل الشيء، ولا يزيد المفهوم الاصطلاحي للكلمة عن المفهوم اللغوي إلا في اعتبار المقام؛ لذا تمَّ اشتراط الاستعلاء؛ أي: أن يُوجَّه الخطاب إلى من هو أدنى مرتبة من المتكلِّم، فالنهي هو المنع من الفعل بقول مخصوص مع علو الرتبة.

وللنهي عند أهل العربية وعامة السلف صيغةٌ لفظية تدل عليه بالوضع حقيقة، هي: “لا تفعل” للمفرد المذكر ولغيره بإضافة العلامة الخاصة به؛ من ياء التأنيث، أو نونها، أو ألف المثنى، أو واو الجماعة.


موضوعات ذات صلة:


ويلحق بصيغة “لا تفعل” في إفادة التَّرك صيغ لفظية أخرى، منها:

بعض أسماء الأفعال، مثل ” مَهْ “؛ فإنَّ معناه “لا تفعل”، و” صَهْ ” فإنَّ معناه لا تتكلَّم.

الأفعال التي بصيغة الأمر، ومعناها النهي، مثل: ذَرْ، ودَعْ، واجْتَنِبْ، واتركْ ونحوها؛ إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني، تحقيق: سامي بن العربي الأثري، دار الفضيلة الرياض، الطبعة الأولى سنة 2001، ص: 109.

الأداة “لا “، فهي أشهر صيغة تفيد معنى النهي.

وذكر المالقي أن سبب أو علَّة تخليص “لا ” الناهية الفعل المضارع للاستقبال، هو أنَّها نقيضة “لـتفعل” المُخلِّصة للحال، فإن قلت: “لا تفعل الآن” فعلى معنى تقريب المستقبل إلى الحال؛ رصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد بن عبدالنور المالقي، تحقيق: أحمد الخرَّاط، نشر بدمشق، من مطبوعات مجمع اللغة العربية، 1975، ص: 268.

فللنهي إذًا أداة واحدة، هي “لا” الجازمة، وتختص بالدخول على الفعل المضارع، فتفيد جزمَه واستقباله، سواء كان المنهيُّ عن فعل الشيء مُخاطبًا؛ نحو: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾ [الممتحنة: 1]، أو غائبًا؛ نحو: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين ﴾ [آل عمران: 28]، أو متكلمًا؛ نحو: “لا أريَنَّك ها هنا”، وهو مثال ورَد في كتب النحو العربي، فالمتكلم ينهى نفسَه عن رؤية المخاطب في مكان قريب منه مُشار إليه بـ “ها هنا”، وهذا النوع مما أُقِيم فيه المُسبَّبُ مقام السبب، والأصل: لا تكن ها هنا فأراك؛ مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، تحقيق وشرح: عبداللطيف محمد الخطيب، ط1، السلسلة التراثية، الكويت سنة 2001 ، 3/ 322.

ومنه قول النابغة الذُّبْياني:

لا أَعْـِرفـَنْ رَبْـرَبًـا حُـورًا مدامعها كأنَّ أبـكـارهـا نِـعـاجُ دُوَّارِ

والشاهد في البيت أن “لا” لنهي المتكلِّم نفسه، وهو مما أُقيم فيه المُسبَّب مقامَ السبب.

قال ابن الشجري في الأمالي (نشر دار المعرفة، بيروت 3 / 175):

“إن النهي قد يُوجِّهُه الناهي إلى نفسه؛ إن كان له فيه مشارك، كقوله لواحد أو لأكثر: لا نُسلِّم على زيد، ولا ننطلق إلى أخيك”، فاستعمال “لا” الناهية بحسب جهة الخطاب يتم عبر ثلاثة أنماط:

للمخاطب، وهو الأكثر.

للغائب، وهو كثير أيضًا، إلى حدٍّ جعل معه الرَّضِي يساوي بينه وبين المخاطب في الكثرة. شرح الكافية، الرَّضِي الإستراباذي، تصحيح وتعليق: يوسف حسن عمر، الطبعة الثانية، عن منشورات جامعة قار يونس بنغازي، سنة 1996، 4/ 86.

المتكلم، وهو قليل؛ فالشواهد فيه قليلة، أَضِف إلى ذلك أن النحاة وجدوا فيها تكلُّفًا كبيرًا، وحاولوا تخريجها بشكل يجعلها تخرج عن هذا النطاق.

فالنهي باعتبار جهة الخطاب ثلاثة أقسام، لكن يشترط أن يكون فيه الاستعلاء، فإن لم يكن – أي: إذا انتفى شرطُ الاستعلاء – فإنه يخرجُ عن معناه الحقيقي في النهي إلى الدعاء والتضرع، وسماها النحاة: “لا الدعائية“، ومنه قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، والدعاء يكون من الأدنى إلى الأعلى.

وإذا كان النهي صادرًا عمن في نفس المرتبة، أو بعبارة ابن هشام “قولك لنظيرك غير مُستَعْلٍ عليه” سُمِّي التماسًا، و” لا ” التي للالتماس؛ نحو قولك: “لا تفعل كذا”.

وقد تجيء للتهديد كقولك لولدك أو عبدك: “لا تطعني” وليس المقصودُ بها هنا نهيَه عن الطاعة، ولكن المقصودَ والمراد هو التخويف والوعيد؛ أي: إذا لم تطعني فسوف تعاقب على ذلك.

وكون النهي التماسًا أو دعاء أو تهديدًا، هو مجاز، لا ينافي كونَه في الحقيقة “نهيًا”؛ لأن الصيغة المشتركة الوحيدة بين هذه الأساليب هي: “لا تفعل”، وهي الصيغة المُجمَع على إفادتها طلب الترك، وهذا مراد ابن هشام بقوله: “ولا فرق بين اقتضاء “لا” الطلبيَّة للجزم بين كونها مفيدة للنهي، سواء كان للتحريم كما تقدم، أو للتنزيه…، وكونها للدعاء…، وكونها للالتماس…”؛ المغني، 3 / 328 – 329 – 330.

وعبر الرَّضيُّ عن الفكرة نفسها بقوله: إن قولك: “لا تؤاخذني” في نحو: “اللهم لا تؤاخذني بما فعلتُ” نهي في اصطلاح النحاة، وإن كان دعاء في الحقيقة”؛ شرح الكافية، 2 /267.

المصدر: شبكة الألوكة

اضغط على ايقونة رابط قناتنا على التليجرام