في نزع الخافض والمضاف من التراكيب النحوية

وتقوم هذه المسألة على التغيير الحاصل ـ الذي استخدمه السمين الحلبي ـ عند حذف حرف الجر، والمضاف، وذلك بواسطة الألفاظ الدالة على ذلك من خلال خطابه التفسيري، وهي: حذف الخافض[1]، وإسقاط الخافض[2]، وإضمار الخافض[3]، وحذف حرف الجر[4]، وحذف حرف الجر اتساعًا[5]، وحذف المضاف[6]، مع تبيين مدى تأثره بالخليل بن أحمد في تلك المسألة، وهي من المسائل التي تناولها الخليل في كتابه الجمل، عند تعرضه لوجوه النصب، قال: “والنصب بفقدان الخافض”[7]، على أن مصطلح (نزع الخافض) سوف يكون هو المسيطر في الوصف والتحليل لتلك التراكيب التي ستكون موضعا للاستشهاد؛ ذلك لأنَّ دلالة النزع – وهو إخراجُ الشيء بشدة – هي ما يتوافق مع حذف حرف الجر، أو المضاف لما بين حرف الجر ومجروره، والمضاف والمضاف إليه من التلازم، ومع هذا لا مانع – في إطار تحليل التركيب من أن نعبِّر بالحذف، كقولنا: حُذف حرفُ الجر، أو حُذف المضاف قاصدًا المفهوم اللغوي، ولاسيما أنَّ الحذف غيرُ مناقضٍ للنزع، بل هو أعم منه، ” واستعمال العام مرادًا به الخاص بدلالة القرائن كثيرٌ مشهورٌ”[8].

هذا، وقد اختلف النحاة في تعريف هذهالمسألة، فمنهم من عرفها بأنها: ” حذفُ حرف الجر من الاسم؛ مما يترتب عليه نصبُ الاسم، الذي نزع منه حرفُ الجر”[9]، ومنهم من عرفها بأنها ما يكون: “عندما يحذف حرفُ الجر؛ ويأتي الاسمُ بعده منصوبًا، ويسمى منصوبًا على نزع الخافض”[10]، ومعنى ذلك أنهم لم يجاوزوا بنزع الخافض حدودَ حذفِ حرف الجر، وإيصالِ عمل الفعل إلى المفعول، فلم يطْرُقْ بابَ حذفِ حرف الجر وإبقاءِ عمله في الاسم بعدَه، ولا حذفِ المضاف ألبتة، ومن النحاة من رآه ” يشمل حذف حرف الجر والمضاف، لأن كليهما عاملٌ للخفض، فإذا حذف الخافض؛ فإما أن يصل العاملُ الذي هو قبْل الخافض إلى الاسم المجرور فيؤثِّرُ فيه بما يقتضيه عمله، وإما أن يبقى الاسمُ مجرورًا، ولم يطلقوه على صورة إبقاء الاسم مجرورًا بعد نزع الخافض، ولذلك جعلوه من الأمور التي يُعدَّى بها الفعلُ القاصر[11]، ومن تتبُّع مواضعِ نزع الخافض ( حرف الجر والمضاف ) في كتاب الدر المصون؛ يمكن القول بأن نزع الخافض يظهر في ثلاث صور تأثر فيها الشيخ السمين بآراء الخليل بن أحمد:

الأولى: نزع حرف الجر وانتصاب الاسم، وهي ثلاثة أقسام:

أحدها: ما انتصب على أنه مفعول به، وذلك في باب (نصح )، أعني الفعل الذي يتعدَّى بحذْف حرفِ الجرِّ، مما يتعدَّى إلى مفعولٍ، أو مفعولين، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، قال السمين: “و(نَصَحَ) يتعدَّى لواحدٍ تارَةً بنفسه، وتارةً بحرف الجرِّ، ومثله:( شَكَرَ)، وقد تقدَّم[12]، و( كال، ووزن)، وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر؟ أو التَّعدِّي بنفسه؟ أو كل منهما أصْلٌ؟ الرَّاجِحُ الثَّالِثُ”[13]، وفي قوله: ” الراجح الثالث ” إنما يذهب فيه مذهب الخليل الذي يرى: أنَّ كلًا منهما أصل، قال:” ونَصَحْتُه، ونَصَحْتُ له نُصحًا ونَصيحةً”[14]، ويمكن القول بأنَّ التعدي في هذا الباب بحرف الجر جاء أكثر من التعدي بدونه، وغاية الأمر أن من العرب من يعدل عن الأصل، وهو التعدي بحرف الجر إلى إيصال الفعل إلى الثاني بنفسه، ” فيجب فيما كَثُر واطَّرد أن يُدَّعى فيه أنه أصلٌ”[15]، وأنه لم يأتِ الفعل ( نصح ) في القرآن إلا واصلًا بحرف الجر، عدا قراءةِ أبي حيوة الشاذة ” نَصَحُوا اللهَ ” بغير لام[16]، في قوله تعالى ﴿ إذا نصحوا للهِ ورسولهِ بنزع حرف الجر، ونصب لفظ الجلالة[17].

والثاني: ما انتصب على أنه مفعولٌ لأجله، ومن ذلك ماذهب إليه السمين الحلبي في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، وقد اعتد بما ذهب إليه الخليل في هذه المسألة قائلاً: قوله: ” أمَّا ﴿ ابتغاء مرضاة الله فإنه منصوب على المفعول من أجله”[18]، من الفعل (يشري)، كأنه قال: لابتغاء مرضاة اللهِ، فلما نزع اللام؛ عمل الفعلُ، ومثله: ﴿ حذر الموت ، وأشباه هذا كثير، قال الخليل في قول حاتم الطائي:

وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ اصطناعه = وَأُعْرِضُ عَنْ شتْمِ الَّلئِامِ تَكَرُّمَا[19]

” أي لاصطناعه”[20]، “ولما حذف اللامَ؛ عمل فيه الفعل”[21]، وقال المبرد: “تقول: جئتك ابتغاءَ الخير، فتنصب، والمعنى معنى اللام….، فهذا قول الخليل”[22].

والثالث: ما انتصب على أنه مصدرٌ، وذلك نحو قولهم: أحقًا أنك ذاهبٌ؟ قال السمين عند تعرضه لقوله تعالى: ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، قال: ” وقوله: ﴿ حَقًّا مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبُه مضمر، أي: أَحُقُّ ذلك حقًا. وقيل: انتصب “حقًا” بـ”وَعْدَ” على تقدير “في”، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التشبيه بالظرف”[23]، وقد أيد ما ذهب إليه بتلك الإجابة التي أجابها الخليل ردًّا على سؤال سيبويه.

قال سيبويه: ” سألت الخليل، فقلت: ما منعهم أن يقولوا: أحقًا إنك ذاهب؟ على القلب، كأنك قلت: إنك ذاهب حقًا، وإنَّك ذاهب الحقَّ، وأنَّك منطلقٌ حقًا؟ فقال: “….، حملوه على: أفي حقٍّ أنك ذاهبٌ، وعلى: أفي أكبر ظني أنك ذاهبٌ”[24].

والصورة الثانية: نزع حرف الجر واحتمال المحل للنصب والجر، وتندرج في مسألتين:

الأولى: أن يكون مدخولُ حرف الجر المنزوع مصدرًا مؤوَّلا من الحرف المصدري وصلته، كما جاء في قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً، وفي هذا الشأن ذهب السمين الحلبي إلى أنَّ ” (أَنْ) وم4ا في حَيِّزِها مفعولٌ ثانٍ لـ (يَأمركم)، فموضِعُها يجوزُ أن يكونَ نصبا، وأن يكونَ جرَّا؛ لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تَذْبَحُوا، والأصل: بذبح بقرةٍ، فلو نزع حرف الجر منه لقيل: يأمركم ذبحَ بقرةٍ كما تقول: أمرتك الخيرَ[25]، لذا قال العكبري: ” ( أن تذبحوا ) في موضع نصب، على تقدير إسقاط حرف الجر، وتقديره: بأن تذبحوا، وعلى قول الخليل: هو في موضع جر بالباء، ويجوز أن يقول الخليل: “هو هنا في موضع نصب فتعدى أمر بنفسه”، كما قال عمرو بن معد يكرب:

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ = بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ[26]

أي: بالخير[27]؛ لأن الأمر لا يصل إلى المأمور إلا بحرف لا غير[28].

هذا، ويلحظ أن الشيخ السمين هاهنا يذهب إلى ما قال به الخليل من أن هذا الموضع موضع جر، وقد برر لذهابه إلى القول بالنصب، على أن الخليل يمكن أن يعدل إلى موضع النصب أيضا؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه، ولو لم تكن الباء في (أن)، نحو: أمرتك الخير.

الثانية:أن يكون مدخولُ حرف الجر المنزوع أن ومعموليها، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ، قال السمين: ” (أنَّ) وما في حَيِّزها في محلِّ جَرّ عند الخليل والكسائي، ونصبٍ عند سيبويهِ والفراء، لأن الأصلَ”: وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم، فحُذِفَ حرفُ الجر مع (أَنَّ)، وهو حَذْفٌ مُطَّردٌ معها ومع “أَنْ” الناصبة للمضارعِ، بشرط أمْنِ اللَّبْسِ، بسبب طولهما بالصلة”[29].

ولما تردد القول كثيرا في موضع المصدر المؤول من (أنْ) و(أنَّ) وصلتهما بعد حذف الجار؛ وهو أغلب ما وقع من نماذج نزع الخافض في الخطاب الإعرابي للشيخ السمين[30]؛ كان لابد من الوقوف عليه، ويبدو لي أن خلطًا قد وقع من الشيخ السمين في تحديد المذهبين ـ أعني مذهب الخليل ومذهب سيبويه ـ فالخليل يرى أن المصدر المؤول من (أنْ) و(أنَّ) وصلتهما بعد حذف الجار في محل نصب، ومذهب سيبويه أنه يجوز الأمران: أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، ذلك لأن السمين الحلبي يعزو القول بالجر إلىالخليل، والقول بالنصب إلى سيبويه، والأمر غير ذلك تمامًا. والدليل على صحة ما أرى قول الخليل نفسه في كتاب [الجمل في النحو]، في باب” وجوه النصب”عندما تعرض لقوله عزَّ وجل ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ[31]، قال: “نصب (أولياءه) على فقدان الخافض، يعني يخوف بأوليائه؛ فلما أسقط الباء نصب”[32]، وقال في موضع آخر: ” والنصب بالقسم عند سقوط الواو والباء والتاء من أول القسم، تقول: اللهَ لا أفعل ذاك، يمينَ الله لا أزورك؛ نصبت لأنك نزعت حرف الجر”[33]، وبهذا ندرك أن ما ورد في الدر المصون[34] فيه خلط وعدم دقة في بيان مذهب الخليل وسيبويه، وأما رأي الكسائي فهو أن المصدر المؤول في محل جر، وأما رأي الفراء فهو أنه في محل نصب، وقد صرح بالرأيين[35].

الصورة الثالثة: نزعُ المضاف وإقامةُ المضافِ إليه مُقامَه، ومن ذلك ما ذهب إليه السمين الحلبي، في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ، قال: ” قوله « استعجالهم » فيه أوجهٌ:

أحدها:أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ، تقديره: استعجالًا مثلَ استعجالهم، ثُمَّ حذف الموصوف، وهو (اسْتِعْجَال)، وأقام صفته مقامه، وهي (مِثل)؛ فبقي: ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وهذا مذهبُ الخليل[36]، وقدر أبو البقاء: “تَعْجِيلًا مثل استعجالهم”؛ فقدَّر المحذوف مطابقًا للفعل الذي قبلهُ؛ فإنَّ « تَعْجِيلًا » مصدر للفعل (عَجّلَ)[37]، ونلحظ أن ما قدره الخليل لم يَرُق للشيخ السمين؛ وأظهرَ ما قدَّره أبو البقاء، قال: ” والذي يظهر؛ ما قدَّره أبو البقاء؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى؛؛ إذ ليس “استعجال” مصدرًا لـ”عجَّل”[38]، ولعلَّ ما ذهب إليه السمين من موافقة أبي البقاء هو الأوجه؛ ذلك لأنَّ تقدير المحذوف من جنس المذكور أولى والتعجيل مصدر الفعل ( يعجِّل ).

ومن خلال ما سبق عرضه يمكن القول بأن نزعُ الخافض يتجاذبه السماع والقياس، وأن الخافض أشملُ من أن يخصَّ حرفَ الجر وحدَه، بل يشملُه ويشملُ المضافَ أيضًا، وكل ذلك إنما يتم لأجل التخفيف، أو الإيجاز، أو المبالغة، أو الاتساع في التراكيب النحوية.

المصدر: الأثر النَّحوي للخليل الفراهيدي
في كتاب الدر المصون للسمين الحلبي

 


[1] الدر المصون 3/364و5/104و431و8/170و250و9/311و12/174و14/274
[2] الدر المصون : 1/168و183و393و402و2/328و408و434و3/13و73و97و4/85و139و170و5/27و98و279و6/139و340و7/87و177و189و8/65و166و315و9/225و237و365و10/99و167و174و11/84و145و146و12/85و142و13/31و126وغير ذلك.
[3] الدر المصون (12/366)
[4] الدر المصون (1/76)و159و231وغير ذلك كثير
[5] الدر المصون 1/221و 2/252و3/40
[6] الدر المصون 1/42و155و251و 2/166و194وغير ذلك كثير.
[7] الجمل في النحو 93
[8] ظاهرة النيابة 44
[9] معجم المصطلحات النحوية والصرفية 222
[10] المعجم المفصل في الإعراب 445
[11] ينظر مغني اللبيب 861 وشرح الأشموني 2/97
[12] الدر المصون 2/184
[13] الدر المصون 5 / 280
[14] كتاب العين (نصح) 3 / 119
[15] البسيط 1/460
[16] تفسير اللباب 8 / 341
[17] البحر المحيط 5/482
[18] الدر المصون 2/357
[19] ديوان حاتم الطائي 108
[20] الجمل في النحو 95
[21] الدر المصون 2/357
[22] المقتضب 1 / 129
[23] الدر المصون 5/148
[24] الكتاب 3/134 – 137
[25] الدر المصون 1/313
[26] ديوانه63
[27] التبيان 1/73
[28] المخصص 14/244
[29] الدر المصون 1/159
[30] راجع : الدر المصون 2/448و3/253و4/117و220و294و321و482و6/146و7م54و600و648و8/243و610و621و9/34و459و10/536
[31] الجمل في النحو 93
[32] الجمل في النحو 107
[33] الدر المصون 1/211و2/448 و3/253و7/189
[34] في معاني القرآن 1/148و2/238.
[35] قال الخليل في قوله تعالى: “﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجلَ ﴾، معناه: حُبَّ العجل” وهذا ما قال به السمين في الدر المصون أيضا: راجع : الجمل في النحو 102ـ103والدر المصون 2/5
[36] التبيان 2/25
[37] الدر المصون 6/157
[38] الدر المصون 6/157

ترك تعليق