المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين

مسألة [رافع المبتدأ]

المُبتدأُ يرتفعُ بالابتداءِ، والابتداءُ كونه أوَّلاً مقتضياً ثانياً.
وقالَ بعضُهم يرتفعُ بتعريتِهِ من العَوامِلِ اللَّفظيَّة.

وقال آخرون: يرتفعُ بما في النَّفس من معنى الإِخبار.
وقالَ آخرون: يرتفعُ بإسنادِ الخَبر إليه.
وللكوفيين مَذهبان:
أحدهما: يَرتفع المبتدأ بالخبرِ والخبرُ بالمبتدأ ويُسمّونهما المترافعين.
والمذهب الثاني: أنَّه يرتفع بالعائدِ من الخبرِ.
والدَّليلُ على المذهبِ الأولِ من ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنَّ الابتداء معنى يختصُّ بالاسم فكان عاملاً كالفعل بيان أنَّه معنى، أنَّ الابتداء ما ذكرنا من كونه أولاً مقتضياً ثانياً- وهذا وصف وجودي- واللَّفظ إنَّما عَمِلَ لاختصاصِه فيجبُ أن يعملَ المعنى لاختِصاصه أيضاً.

والوجهُ الثاني: أنّ كونَ الاسمِ أولاً مسنداً إليه، أصلٌ في الجملة فوجبَ أن يكون مرفوعاً بذلك، كالفاعل، فإنَّه ارتَفَعَ بالفعلِ لهذين الوصفين.
الوجهُ الثالثُ: أنَّ المبتدأ معمولٌ وكلُّ معمولٍ [له] من عاملٍ والعاملُ لا يخلو من أن يكونَ الابتداء كما ذكرنا أو واحداً ممَّا ذُكِرَ من المذاهب، وكلُّها ما عدا الأوَّل باطِلٌ.
أمَّا ما في النَّفسِ من مَعنى الإِسنادِ فهو مَعنى الابتداء كما ذَكرنا، وأمَّا نفسُ إسنادِ الخبرِ فغيرُ عاملٍ، لأنَّ حكم العامِل أن يكونَ قبلَ المعمولِ، وحكم أن يكونَ بعدَ المبتدأ، فهما يَتَنافيان.
وأمَّا التَّعرِّي من العوامِلِ فإنَّه غيرُ عاملٍ، لأنَّ ذلك عَدَمٌ، والعدمُ لا يَعمَلُ.
فإن قالوا: نحن لا نَجعله عاملاً، بل هو إمارةٌ على العامِل، قيلَ: يلزمُ من ذلك أن يكونَ العاملُ موجوداً مدلولاً عليه، فإن أرادوا بذلك أن تَعرِّيه من العوامل إمارةٌ على الابتداء فهو ما ذكرناه، فإنَّه لا يَتَعَرَّى منها إلاَّ وهو أوَّلٌ مُقتضٍ لثانٍ، فالتَّعرِّي شَرطٌ يُحقِّق الابتداء الذي هو العامِلُ، كالحَياةِ فإنَّها شَرطٌ لِتُحقّق العِلم، ولَيست العلَّةَ في وُجودِ العِلْمِ.


موضوعات ذات صلة:


وأمَّا رَفعُ كلِّ واحدٍ منهما بالآخرِ، فلا يَصحُّ لوَجهين:

أحدُهما: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما قد يكون جامداً والجامدُ لا يعملُ إذ لا معنى فيه يَتَأَثَّرُ به المعمول.
والثَّاني: أنّ المُبتدأ لو كانَ مرفوعاً بالخبرِ لَوَجَبَ أن يكونَ فاعلاً، إذا كان الخبرُ فعلاً، والفاعلُ لا يكونُ قَبلَ الفعلِ، وأمَّا ارتفاعه بالعائِد فلا يَصِحُّ لثلاثة أوجه:
أحدُها: أنَّ العائدَ لا يعملُ في الظَّرف ولا في الحالِ، مع أنَّ العامِلَ فيهما قد يكونُ معنى ضعيفاً، فألاَّ يعملُ هنا أَولى.
والثاني: أنَّه يُفضي إلى عَملِ ما في الصِّلةِ قبلَ الموصولِ، وذلك باطلٌ ألا تَرى أنَّ الفِعل لو كان في ذلك المَوضع لم يَعمل فالضَّميرُ أولى.
والثالثُ: أنَّ العائدَ لو رُفع للزمَ الرَّفعُ في قولك: ((زيداً ضَربته)) ولمَّا جازَ أن يعملَ فيه المحذوف ويلغي العائد، دلَّ على أنَّه ليس بعاملٍ، وإذا بَطلت هذه المَذاهبُ، تعيَّن ما ذهبنا إليه.
فإن قيلَ: لو كانَ الابتداءُ عاملاً لطُرِدَ في كلِّ اسمٍ مبدوء به ليس كذلك ألا ترَى أنَّك لو قلتَ زيداً ضربتُ لم يرتفع بالابتداء، قلنا: ليس هذا معنى الابتداء الذي ذَكرنا، بل معناهُ الابتداء المقتَضي ما يُسند إليه، ولو كان معنى الابتداء ما ذكروا لَوجب أن يكونَ الفِعلُ والحرفُ المبدوءُ بهما مرفوعين، وليسَ كذلك، لأنَّ ذلك لا يَقتضي ما [يسند] إلى المبدوء به بخلاف الابتداء على ما ذكرنا.
أمَّا حُجَّة الكوفيين فقد قالوا: إنَّ كلَّ واحدٍ من الابتداءِ والخبرِ لا يَستغني عن صاحِبه، فوجبَ أن يكونَ عامِلاً فيه لتأثُّره به في المعنى، لأنَّ المُؤثِّرَ في المعنى يؤثِّرُ في اللَّفظِ، وَيَدُلُّ على ذلك أدواتُ الشَّرط فإنَّهاتَجْزُم الفعلَ وذلك الفِعل يَنصبها كقولِهِ تعالى: {أيّاً ما تَدْعوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ} ف ((أيّاً)) منصوبٌ بتدعو وتَدعو مجزومٌ بأيٍّ وكذلك قَوله: {فأَينما تُولُّوا فثمَّ وَجْهُ اللَّه} و {أَيْنَما تَكُونوا يُدْرِكْكُمْ المَوْتُ} ولا يَلزمُ على ما ذكرنا الفِعل والفَاعل، فإنّ كلَّ واحدٍ منهما لا يَستغني عن الآخرِ، ومع هذا فالفعلُ لا يرتفعُ بالاسمِ لأنَّا نَقولُ: الفِعلُ غيرُ عاملٍ لعمل الاسم فيه، بخلافِ المُبتدأ والخبرِ.
فالجوابُ عمَّا ذكروه: أنَّ عملَ كلِّ واحدٍ منهما في صاحبه تأثيرٌ فيه والمؤثِّرُ يجبُ أن يكونَ أقوى من المؤثِّر فيه وذلك مستحيلٌ هنا لأنَّ اشتراكهما في التأثير يدلُّ على استوائهما في القُوَّة فيمتنع تأثير أحدِها في الآخر، وليست الجُملةُ مُختلفةً حتَّى تكونَ من باب الجِهتين، وخرَّج على هذا أدواتُ الشَّرط فإِنّ الجهةَ هُناك مختلفةٌ وبَيانُه من وجهين:
أحدهما: أنَّ ((أيّاً)) وأخواتها نائبةٌ عن حرفِ الشَّرطِ فهي تَعمل بِحكمِ النِّيابةِ ويُعملُ فيها بحكمِ الأصالةِ.
الثاني: أنَّ عملَ الفعلِ في أداةِ الشَّرط النَّصبُ وعملَ الأداةِ فيه الجَزمُ وهما مُختلفان فالنَّصبُ حكمُ المفعولِ والجزمُ هو حكمُ الفعلِ، فالمعمولُ والعاملُ والعملُ مختلفات، بخلافِ المبتدأ والخبرِ فإنَّهما اسمان مَرفوعان لا وَجه فيهما سِوى ذلك. واللَّه أعلمُ بالصَّوابِ.

ترك تعليق