التضمين وتناوب الحروف

(لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أوْلى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره الا بحجة يجب التسليم بها) الطبري.
(والعرب تضمن الفعل معنى الفعل، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف نقوم مقام بعض) ابن تيمية.
(وظاهرية النحاة بجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره. هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حذاق أصحابه) ابن قيم الجوية.
(وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض، ويحمل بعضها معاني البعض، فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل وهو أوسع وأقيس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال). ابن العربي.
(إن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يصل إلى معموله بحرف والآخر يصل بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موضع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر). ابن يعيش.
طَويتُ نفسي ذات يوم على موضوع شائك، كاني أطلب فيه خبيئة خفيت عني، وأتدسس إلى دفين مرّ به المفسرون مستعجلين.
عجبا … كيف ينوب الحرف عن أخيه وهو لا يحمل معناه في نفسه إلا على استحياء!.
ترخّص في تناوب الحروف مَن ترخص من المقلدين ليخرج من وعورة المسلك، ويفر من صعوبة البحث، إلى قرب المأخذ وسهولة التناول. وأما الحُذاق المتقنون فإلى التضمين في الفعل أميل، وفيه أرغب، وبه أعنى، وسيبويه أولهم ركابا لهذا الثَبَج غير هيّاب منه، وأكثر كلام أتباعه عليه.
ولعل الذي حملهم على هذا الخلاف، دقة المدخل وغموض الحال، ولو تساهم أُلو النظر في التأمل في معاني الحروف، وإمعان النظر فيها، والبحث عن سرها ومستودعها، لمكنّهم من اكتلاء غُررها واجتلاء أبكارها وعُونها.
وما كان هذا الحسن في حروف العربية، وهو الذي لوى أعناق الفصحاء والبلغاء، إلا لما بناه سبحانه على أسرار استودعها فيها. فلا تقفْ على الفعل مبهوتا بلا لحظ، ولا على حرفه المتعدي به محشوبا بلا تأمل:

﴿فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ تعدى (فرض) بـ في ومعناه أوجب وألزم.

﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ وتعدى بـ (مِن) ومعناه قسما.

﴿فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لهُ﴾ وتعدى باللام ومعناه أحل أو قدر.

﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾ وتعدى بـ (على) ومعناه أنزل.

نعم (فرض) يتعدى بأكثر من حرف ويختلف معناه باختلاف الحرف المتعدي به كما رأيت، أوليس هذا دليلا غير مدفوع على أن التضمين جرى في الفعل لا في الحرف، وشاهد على فساد مَن ذهب إلى خلافه؟!.

وهذا ابن القيم يسوق لفعل السمع أربعة معانٍ:

1 – سَمْعُ إدراكٍ ومتعلقه الأصوات ويتعدى بنفسه ﴿ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ ﴾.
2 – سَمعُ فهمٍ وعقلٍ ومتعلقه المعاني ﴿ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾.
3 – سَمْعُ إجابة ويتعدى باللام (سمع اللَّه لمن حمده).
4 – سَمْعُ انقياد ويتعدى بـ (مِن) في الحديث قال: ” ما سمعت مني ” وفي حديث آخر: ” تكلم يُسمع مِنك “.

فحين يتعدى الفعل بأكثر من حرف يكون المستنبَط والمُستخرَج دقيقا، والتماسه صعبا، ولا يُدرك إلا بالغوص. هذا فعل دخل تعدى بـ (على) وفيوالباء. جعل السيوطي على بمعنى في ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ ﴾ وجعل في بمعنى مع ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾ وابن هشام جعل الباء بمعنى مع ﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ﴾.

وإنَّمَا قالوا بتناوبها عندما عجزوا عن استشفاف معانيها. فإذا كانت هذه الحروف تَهي عن حَفل معناها لعواني ذواتها، فكيف بها تتجشم احتمال سواها مما يعاورها أو تنوب عنه؟! إن غياب الحرف المألوف مستبدلا بسواه يُنبئ بولادة معنى جديد. إجماع بعض المفسرين على تضمين حرف معنى حرف ليس بحجة، فالحرف لا يقوم معناه بنفسه فكيف يتضمن معنى سواه؟ وتخصيص العليم في تنزيله لحرف ما واختياره إياه، فيه من المَنْبَهة والحكمة ما يُشير إلى امتيازه؛ والإبداع إنما كان في اختياره، والنجاح يكون في التعويل عليه دون سواه، والعبرة في النهاية هي في الكشف عن سره حين خرج عن مألوفه.

إنك إن قلت ما قالوا ضللت الطريق وابتعدت عن مطلوبك، بل انظر إلى التركيب بجُمعه. فالأفعال لا تعطي فائدتها المرجوة حتى تأخذ ضربا من التركيب، وفي هذا التركيب لا بُد من فتح قنوات اتصال بين مفردات الجملة ليؤدي كل لفظ دوره، فالمرونة في التعامل مع الجوار للإحاطة بأبعاد كل لفظ. والرؤية الشمولية في المعالجة تتجاوز ضيق الأفق، وتبقى مفتوحة الأعين على البدائل الأخرى لتسمع توجيه المعنى عند الآخرين. فلو غيرت في هذه الحروف التي تعدت بها والتي بخصوصيتها أفادت لأخرجتها من كمال بيانها إلى جفاف معناها، وضيق أفق مدلولها. وكلم من أفعال انحطت عن رتبتها حين قطعناها عن حروفها بدعوى تعاورها أو بزعم مَنْ جعلها زائدة، فازدرتهاالعيون بعد أن كانت طامعة في حسنها المكتسب، وراغبة في جمالها المستفاد، وذلك عن طريق نظامها الفريد وأسلوبها المتميز ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ قال أبو عبيدة والأخفش: (عن) زائدة وقال غيرهم: معناها (بعد).
ولا أحسن مما ذهب إليه ابن الحاجب في تضمين المخالفة معنى الحَيَدان لقد عزاها عن فضلها من ادعى بتناوبها، وجُل حُسنها هو تعديها بغير حرفها المعهود، وكيف يتأتى لشادي حُسنها أن يستشف جمالها إلا برؤيتها في عِقدها المنظوم؟ فإن فَرَطْتها من سِلكها أفْقدْتها أهم خصائصها، فإن أَبَيْتَ وعاودت، فخُذْ في غير هذه الصناعة.
فحين يقول (يشرب بها) في قوله سبحانه ﴿ يشَرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ أي يشرب منها، فقد سلبها حلاوتها، وسر جمالها هو في طريقة عرضها وتعديها بغير حرفها، فإذا كانت الباء بمعنى من فلماذا عدل ربنا العليم في أسلوبه المعجز، وبيانه المبين من حرف إلى حرف سكت عن الجواب القائلون بتناوب الحروف – وجل المُفسرين على هذا – وذهب القائلون بالتضمين إلى أن (شرب) معنى روي وليس في هذا مَقنع لأن الرِي يكون من ظمأ، وأهل الجنة لا يظمؤون ﴿وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ الشرب في الجنة إذاً من أجل الاستمتاع والتلذذ ولذلك جيء بالباء إيذاناً بهذا المعنى، وتجلية له، وتشوفا إليه. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا عدل ربنا عن لفظ الاستمتاع إلى لفظ الشرب؟ لو قال سبحانه: عينا يستمتع بها عباد الله، لانصرف الذهن إلى إمتاع البصر في انفجار الماء من هذه العين وتدفقها وفورانها، أو إمتاع السمع بصوت تدفق الماء وخريره، أو إمتاع الجسدبالسباحة والابتراد، أو إمتاع النفس بهذا المشهد الكلي. ولكن الغرض هو الاستمتاع بالشرب على وجه الخصوص لأنه مذوق، والذائقة أخص الحواس وأشدها، ولذلك كانت العناية بها منه سبحانه. أما بقية الصور والألوان فمراده على وجه العموم عن طريق التضمين.
وهكذا يختزن الفعل مع حرفه من المعاني والصور في سياق التضمين ما يُسفر ويَضَح مع الاستقراء له وإلطاف النظر فيه مما نفتقده في التناوب والتعاور.
وهذا من أسرار هذه اللغة الشريفة العظيمة الشأن، فالفعل يحمل معنى في نفسه، ومعنى مع الحرف الذي عُدي به، ويومئ به إليه، ومعنى في تركيبه في جملته يوحي بالمنطوق ما ليس منطوقا فإذا الفعل مولود جديد بشخصية جديدة، قد لا تحمل ملامح أرومتها، وأزيدك استبصاراً في تهافت من يرى في التعاور مخرجا أو مذهبا: عَدى ربنا العليم فعل (رزق) بالحرف (في) ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ ورزق يتعدى بـ (مِن) وقال القائلون بالتناوب والتعاور: (في) معناها (مِنْ) ولو سألت: لم عدل سبحانه من حرف إلى حرف؟ وليس بين الحرفين فرق في الإيقاع الموسيقي فكلاهما حركة وسكون. والجواب الشافي يرد على لسان الزمخشري وأخذه عنه أبو حيان في البحر والآلوسي في روح المعاني قال: أي اجعلوها مكانا لزرقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من أرباح أموالهم، لا من صلب المال، لئلا يأكلها الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل منها كما قال بعض المفسرين لكان الإنفاق من المال نفسه. ولعل سائل يسأل: لم عدل تعالى عن (اتجروا) إلى (ارزقوا)؟ أجيب: لو قال اتجروا لصرنا ملزمين بتشغيل أموالهم بالتجارة على وجه الخصوص، وإن لم نجد التاجر الصدوق والصفقة الرابحة.

إذاً في إبدال حرف بحرف غرض له سبحانه عدل إليه وساقه من أجله.

وهذه سنة مسلوكة وعادة مألوفة وطريقة مُتلئبة في هذه اللغة الشريفة لا يُنكرها إلا من نَزُر منها حظه وتخلفت عنها مداركه.

أرأيت حفظك اللَّه كيف حاز التضمين هذا الشرف الرفيع بتوجيه (رزق) إلى (اتجر) وعن طريق هذه العصا السحرية (في).

ولو قلنا ما قاله أصحاب الرأي الفطير بتناوب الحروف وتعاورها، لنفد مال اليتيم في سنوات معدودات، ثم مد يده ليتسول قبل أن يشتد عوده، ولو قيل:

ما العلاقة بين المضمن والمضمن فيه؟

لقلت: التجارة سبب من أسباب الرزق ووسيلة من أحسن وسائله، فالعلاقة بينهما سببية. وبهذه الرؤية الواسعة لمكانة الحرف والنظرة الشمولية للنص نتفادى مطبَّات القائلين بالتناوب والتقارض.

فإن تحاميت رعاك اللَّه هذا المسلك الشاق مدعيا غموض حاله، ومتهيبا من ارتياض معاناته، لدعتْك كثافة الذهن إلى إنكار هذه اللطائف ولكنك إن طبنت له، ورفقت به، أولاك جانبه وأمطاك كاهله، ولكشفت عن أسراره.

وهذا غور آخر بطين نجتاحه لتزداد يقينا فيما ذهبنا إليه، وعُمقا في معرفته. قال سبحانه: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ قال الحسن: صراط إليَّ مستقيم. وقال مجاهد: الحق يرجع إلى اللَّه وعليه طريقه. وقيل: (على) فيه للوجوب. أي على بيانه وتعريفه والدلالة عليه نظيره (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) فالسبيل القاصد يرجع إلى الله. قال الشاعر: فهُنَّ المنايا أي واد سلكته … طريقي عليها أو على طريقهافإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة (إلى) التي للانتهاء لا (على) التي للوجوب ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ﴾ قيل: في أداة (على) سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط، على هدى، وعلى حق، كما قال في حق المؤمنين: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) وقال لرسوله: (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) فاللَّه هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى، فكان في (على) ما ليس في (إلى) فتأمله فإنه سر بديع. فإن قلت: فكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى؟ قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى، مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في (على) ما يدل على علوه، وثبوته واسقامته، بخلاف الضلال والريب، فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدشسه فيه ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾.

وتأمل قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾. فطريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها إلى أسفل السافلين.

وأما مَق فسر (عليَّ) بالوجوب ففي كونه هو المراد بالآية ﴿ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ نظر، لأنه حَذفٌ في غير موضع الدلالة بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حَذْفٌ معروف مألوف، وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة الليلإلا معنى الوجوب والذي قدمناه وسمعته من شيخ الإسلام ابن تيمية: أليقُ بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما.

وإذا صرفت بصرك عما قيل في إنابة الحروف أو تعاورها لفقدان الشاهد والمثل، وعدم إقامة البرهان وسوْق الدليل، مع ضعف الحجة وقصر النظر، فاستنجدْ بفهمك على استنباط لطائف المعاني من وراء التضمين، ترق حواشيها وتدق إلا على أهل البصائر.

ولو تعسف متعسف وقال: إن (إلى) بمعنى (مع) في قوله سبحانه: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ نقول له: إن اليد تشمل من رؤوس الأصابع إلى الكتف وعلى هذا يكون حرف (إلى) والذي بمعنى (مع) من فضول الكلام لأن المرفق داخل في لفظ اليد مشمول معها، وبهذا التوجيه يفسد المعنى.

ثم هل يُؤدي الحرف البديل في السياق اللغوي مُؤدى الأصلي بعد غيابه؟ إن القول بتناوب الحروف أمر هين لأنه يُزيل العقبات كما يزيل المخدر الأوجاع، ولكن المشكلة تبقى دون حل. فمن سلك مسلك هؤلاء وأخذ برأيهم فقد أبعد. بل عليه ألا يعطي يده في هذه المسألة وأن يَكِيس عند الإجابة عنها. ففعل (صبر) مثلا يتعدى باللام والباء و (على)، ﴿وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾.

فهل تنوب هذه الحروف بعضها عن بعض؟.

أقول: حين تعدى الفعل بـ (على) كان معناه الثبات والإصرار، وحين تعدىباللام تضمن الرضى والقبول، وحين تعدى بالباء تضمن معنى الاستعانة باللَّه على تحمل المشاق. وقد تنازع أهل العلم أي الصبرين أكمل: لله أم بالله؟.

فقالت طائفة: الصبر له أكمل فإن ما كان له فهو غاية، وما كان به فهو وسيلة، والغايات أشرف من الوسائل.

وقالت طائفة: الصبر باللَّه أكمل: بل لا يمكن الصبر له إلا بالصبر به. قَالَ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ) فأمره بالصبر، والمأمور به هو الذي يفعله لأجله.

وليست دعوى القائلين بالتعاور والتناوب والتقارض والتعاوض في حروف المعاني إلا نوعا من الجمود الفكري وجب رَفْضُه واطراحه ما دامت هذه سبيله، والذين ألغَوا التضمين، أو عطَفوه، ركبهم جهل في الرأيوإفحاش في الصنعة واعتداء على طبيعة اللغة واعتقادات فاسدة، وظنون ردية، لا يعلمون أن في هذه الحروف دقائق وأسراراً، طريق المعرفة بها الرؤية، ولطائف يُتوصل إليها بطول التأمل وخصائص ينفرد بها من هُدي إليها، وكُشف له عنها. وهي على بُعد المرتقى وعز المَطلب، لَبِنة قامت بها الحجة في القرآن وظهرت، وبهرت، وانتهت إلى غاية لا يطمح إليها إلا من أجاد العوم في هذه اللغة الشريفة وصار نطاسياً في معرفة جواهرها السنتة، فهي لغة قوم تبارَوْا في الفصاحة والبيان وتنازعوا فيها قصَبَ الرهان.

وأتساءل: ماذا يقول أصحاب نظرية التناوب والتعارض والتقارض في قول عبد اللَّه بن جعفر بن عمر بن الخطاب حين بلغه قدوم مصعب بن الزبير من العراق ومروره بالمدينة، ثم نزوله البيداء: ” هل لك بنا فيه؟ فلا يُنجيه منا ما فعل “. لقد تزاحمت حروف المعاني في عبارته وتلاحقت لتشد السامع لمعرفة ما وراءها من معانٍ، وتدع للسياق التحكم في تحديد هُوية كل أداة لتُسفر الرؤية ويَضَح الغرض.
أرأيت حفظك اللَّه ما في حديثه من التعريض دون التصريح والتليمح دون التكشيف؟! لعل ذلك أحلى وأدمث من أن يكون مكاشفة ومصارحة وجهراً. ولو سألنا القائل بالتناوب عن تفسير حروف ابن جعفر. لانكفأ مبهوتا لا يقطع فيها بيقين.

إن إبدال حرف مكان حرف كثير الإيهام لمن يسمعه ولا حقيقة تحته؛

فقولهم: مِن بمعنى الباء، وعلى بمعنى إلى، وفي بمعنى عن، لا شيءَ وراءه وليس الأمر كما زعموا بل لكل حرف معناه وما اختير في سياقه إلا لغرض يؤديه. أما أنه استُعمل بمعنى بديله فخطأ لا يثبت عند أهل النظر. وما اعتاص عليهم فعنه السؤال وبه الاشتغال.

قال المحققون من أهل العربية: إن حروف الجر لا تتعاقب، فهذاالطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿ خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ لا يصلح في موضع (إلى) غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها وهذا القول عندي أوْلى بالصواب لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أوْلى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم بها، ولـ (إلى) في كل موضع دخلت عليه من الكلام حكم، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها. أ. هـ.

وقال البطليوسي: باب دخول بعض الصفات مكان بعض، أجازه قوم من النحويين، أكثرهم الكوفيون، ومنع منه قوم، أكثرهم البصريون، وفي القولين جميعا نظر.

وقال رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي: وإذا أمكن في كل حرف يُتوهم خروجه عن أصله، وكونُه بمعنى آخر، أو زيادته، أن يبقى على أصل معناه الموضوع هو له، وُيضمن فعله المعذى به معنى من المعاني يستقيم به الكلام فهو الأوْلى بل الواجب.

وقال الحسن بن قاسم المرادي: مذهب الكوفيين ومن وافقهم من أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، ومذهب البصريين إبقاء الحرف على موضوعه الأول إما بتأويل يقبله اللفظ أو تضمين الفعل معنى فعل آخر يتعدى بذلك الحرف، وما لا يمكن فيه ذلك فهو من وضع أحد الحرفين موضع الآخر على سبيل الشذوذ.

وقال ابن هشام: مذهب البصريين أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عنبعض بقياس … وما أوهم ذلك عندهم إما مُؤّول تأويلا يقبله اللفظ … وإما على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف وقال ابن هشام أيضا: على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف.

وقال الدسوقي: ومذهب البصريين أن كل حرف له معنى حقيقي واحد فقط، وإنَّمَا كان التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف لأنه لا مجاز في الحرف استنادا إلى مفهومه، غير مستقل بنفسه، فإن ضُم إلى ما ينبغي ضمه كان حقيقة وإلا فهو مجاز في التركيب لا في المفرد.

وجاء في حاشية الصبان على الأشموني: اعلم أن مذهب البصريين: أن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض قياسا، كما لا تنوب حروف الجزم والنصب عن بعض، وما أوهم ذلك محمول على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف أو شذوذ النيابة، فالتجوز عندهم في غير الحرف أو في الحرف لكن على الشذوذ. وجوزه الكوفيون واختار بعض المتأخرين نيابة بعضها عن بعض قياسا كما في التصريح والمغني، وإن اقتضى كلام البعض خلافه فالتجوز عندهم في الحرف، قال في المغني: وهذا المذهب أقل تعسفاً.

وقال ابن قيم الجوزية: وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعالفيُشربون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عُدِّي بـ (إلى) تضمَّن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، ومتى عُدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب، وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعريف والإلهام والبيان. وبسط المبرد رأيه في تناوب الحروف قال: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض إذا وقع الحرفان في معنى، وذكر أن هذا كثير جداً بعد أن أورد طائفة من شوا هد القرآن والشعر، وكذلك فعل السيوطي، والزركشي، وعرض ابن الشجري باباً لقيام بعض الحروف مقام بعض، وكذلك ابن قُتيبة. وأمّا أبو حيان الأندلسي في بحره في مواضع كثيرة يقول: تضمين الأفعال أوْلى من تضمين الحروف.
وقال ابن درستويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة، وإفساد الحكمة فيها والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس.
وقال أبو هلال العسكري: إذا تعاقبت خرجت عن حقائقها ووقع كل واحد منهما بمعنى الآخر فأوجب ذلك أن يكون لفظان مختلفان لهما معنى واحد فأبى المحققون أن يقولوا بذلك، وقال به من لا يتحقق المعاني. ولهذا قال المبرد: الفرق بين أبصرته وبصرت به: فأبصرته يجوز أن يكون لمرة وأن يكون لأكثر، أما بصرت به فمعناه أنك صرت بصيرا بموضعه (﴿ فَبَصُرَتْ بِهِعَنْ جُنُبٍ ﴾)، ثم قال أبو هلال ومما يعرف به الفرق بين المعاني: اعتبار الحروف التي تُعدَّى بها الأفعال: أدخلته ودخلت به. ففي أدخلته جاز أن تكون معه وفي دخلت به فهو داخل معك وبسببك. وقال أبو بكر محمد بن عبد اللَّه المعروف بابن العربي المعافري الأشبيلي: وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض، ويحمل بعضها معاني البعض فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل وهو أوسع وأقْيَس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال. أ. هـ.
وذكر الزركشي: أن النحويين اختلفوا في أيهما أوْلى. فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف، وأنه واقع موقع غيره من الحروف أوْلى، وذهب آخرون إلى العكس، والأول مذهب الكوفيين. أ. هـ وبعد عرضنا لأقوال بعض الأئمة أقول: هل للحرف معنى قائم في نفسه أم معناه في غيره؟ وهل ينفرد بمعنى واحد أم يحمل عدة معانٍ؟ وإذا كانت له عدة معان فهل يحملها على الحقيقة أم على التضمين في فعله المتعدي به؟
* ذكر العزّ بن عبد السلام:
أن (مَنْ) تضمَّنت معنى النفي في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾. معناه لا يرغب.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي لا أحد أظلم.
﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ﴾ أي لا أحد ينصرني.
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ أي لا أحد أصدق.

* ومعنى الاستفهام في قوله تعالى:
﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾.
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
(﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾). وهو كثير في كتاب الله.

* ومعنى الشرط في قوله تعالى:
(﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ ﴾).
(﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾).
(﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾).
(﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾).
(﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾). وهو كثير في كتاب الله.

* وأن (ما) فتضمنت معنى الشرط في قوله تعالى:
(﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾).

* ومعنى الاستفهام في قوله تعالى:
﴿الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ
﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى

(﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾). انتهى قول العز بن عبد السلام.

وقال المحققان شاكر وهارون في قول المرَّار بن مُنقذ: أملحُ الخلق إذا جردتها … غير سِمطين عليها وسُؤُر لحسبت الشمس في جلبابها … قد تَبدت من غمام مُنسفِر لحسبت جواب (إذا) بتضمينها معنى (لو) ولم نجد هذا الاستعمال فيما بين أيدينا من المصادر. أ. هـ.

أقول: إنما جاز هذا المعنى في هذا السياق لا لشيء رجع إلى نفس (إذا) بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى (إذا) وهي مجيء اللام في حَسِب، وأكد أبو عبيدة على جواز التعاقب بقوله: ومن مجازات الأدوات اللواتي لهن معانٍ في مواضع شتى فتجيء الأداة منهن في بعض تلك المواضع لبعض تلك.

وذكر الأخفش: تعاقُب معاني الأدوات، وأخذ الفراء عنه وذكر في كتابه معاني القرآن كثيرا من تعاقب هذه الحروف بعضها مكان بعض، فقد أفاد من سابقيه كيونس وأبي عمرو بن العلاء. وأخذ عن الأخفش كثيرون كالفراءوابن قتيبة والمبرد والزجاجي وأبي علي الفارسي.

وأخذ المفسرون من هذه المصادر كل حسب رؤيته ومشتهاه فهذه (أو) في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾.

قال الزمخشري معنى (أو) ولا تطع أحدهما. فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل ولا تطعهما جاز أن يُطيع أحدهما. وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أن النهي عن طاعتهما جميعا أنهى.

وقال أبو السعود: (أو) للدلالة على أنهما سيّان في استحقاق العصيان والتقسيم: باعتبار ما يدعونه إليه. فإن تَرتُبَ النهي على الوصفين مُشعرٌ بكليهما له.

وقال أبو حيان: النهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما.

وقال أبو عبيدة: (أو) بمعنى الواو، وأما (أو) في قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ فهي بمعنى (بل) على مذهب الفراء وبمعنى الواو على مذهب قطرب.

وأما (أو) في قوله تعالى: ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ قال الجمل: (أو) تضمنت معى الواو لقوله: ﴿حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.

وهذه (هل) في قوله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ﴾. قال الزمخشري: هل بمعنى قد. وقال الجمل: ليست هل للاستفهام لأن الاستفهام محال على الله، وقال بعضهم إنها للاستفهام والجواب مقدر.

وهذه (على) في قوله تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾.

ذكر أبو حيان: قيل على بمعنى اللام وتقدير الخبر المحذوف كائن لمن اتبع الهدى ومثلها: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾.

ذكر الجمل: أن (على) بمعنى اللام أي لأجل الأصنام – مفعول لأجله.

أقول: تحتمل (ما) أو (مِنْ) أو (إذا) أو (هل) أو سواها أكثر من معنى كما ذكر شاكر وهارون في (إذا) معنى (لو) وكما وجدنا في (هل لك في) معنى ترغب وفي: (هل لك إلى) معنى أدعوك حتى إذا ظهر في النص مرجح يصرفها إلى أحد الاحتمالات المخصصة لها في مدلول معين، شارفتْه وتَلَوحت له واستغنت به عن سواه. أما التعاور فلا أرى له مساغا لأنه حَصْرٌ للحرف في منظور ضيق لينتهي به إلى حطب يابس.