تعريف الخبر والإنشاء
شرح دروس البلاغة للشيخ محمد بن صالح العثيمين
(7)

علم المعاني

هو علم يُعرف به أحوال اللفظ العربي، التي بها يطابق مقتضى الحال، فتختلف صور الكلام لاختلاف الأحوال.

مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10].

فإن ما قبل “أم” صورة من الكلام تخالف صورة ما بعدها؛ لأن الأولى فيها فعل الإرادة مبني للمجهول، والثانية فيها فعل الإرادة مبني للمعلوم.

والحال الداعي لذلك نسبة الخير إليه سبحانه وتعالى في الثانية، ومنع نسبة الشر إليه في الأولى(1).


(1) وهذا من البلاغة؛ فقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجن: 10] هذا يقوله الجن، ولاحظ أنهم يقولون: ﴿ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجن: 10]، ولم يقولوا: أشر أراد الله بمن في الأرض، مع أن الإرادة إرادة الله، لكنهم تحاشَوْا عن إضافة الإرادة لله عز وجل، فقالوا: ﴿ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجن: 10].

فبَنَوُا الفعل، يقول المؤلف: للمجهول، ونحن نقول: لِمَا لم يُسَمَّ فاعله، كما عبر بذلك ابن مالك رحمه الله في الألفية، وكما هو واضح، فإن قوله تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، الخالق معلوم، لكن بُنِيَ الفعل لِما لم يُسَمَّ فاعله.

وقوله تعالى: ﴿ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجن: 10] هذه الجملة مطابقة لمقتضى الحال؛ لأن مقتضى الحال ألا تضيف الشر إلى الله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والشرُّ ليس إليك))[1].

أما الخير فيضاف إلى الله؛ لأنه خير؛ ولهذا قالوا: ﴿ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10]، ولم يقولوا: أم أراد الله؛ لأن الرب أخص من الإله فيما يتعلق بأفعال الرب.

وينحصر الكلام هنا على هذا العلم في ستة أبواب:

الباب الأول

الخبر والإنشاء

كل كلام فهو إما خبر، أو إنشاء (1).

والخبر: ما يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه، أو كاذب؛ كــ: “سافر محمد، وعلي مقيم” (2).


(1) هذا صحيح؛ فكل كلام الناس في الدنيا، عربًا كانوا أو غير عرب، إما خبر، وإما إنشاء، لا يخرج عن هذا، فليس هناك كلام ليس خبرًا، ولا إنشاءً.

(2) (أو) في قوله: (أو كاذب)، للتنويع، ولكن هذا ليس معناه أن كل خبر يصح أن يوصف بأنه صادق، أو يوصف بأنه كاذب؛ فأخبارُ الله عز وجل ورسولِه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن توصف بالكذب، وأخبار مسيلمة الكذاب وأشباهه لا يمكن أن توصف بالصدق، ولكن هذا ليس بالنظر إلى الجملة، بل بالنظر إلى المتكلم.

فامتناع الصدق في كلام مسيلِمة وأشباهه – فيما يدعيه من نبوة – لا لأن الكلام لا يصح أن يوصف بالصدق؛ لأنه لو قاله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لوصف بالصدق، لكن باعتبار أن هذا المتكلم به كاذب، وخبر الله ورسوله لا يمكن أن يوصف بالكذب؛ لأنه خبر الله ورسوله.

ومثَّل المؤلف رحمه الله للخبر بقوله: سافر محمد، وعلي مقيم.

فقائل هذا يصحُّ أن تقول له: صدقت، أو كذبت، فإنه إن كان قد سافر في المثال الأول، تقول له: صدقت، وإن لم يكن قد سافر، تقول له: كذبت.

وكذلك في المثال الثاني: إن كان مقيمًا حقًّا، فهو صادق، وإن كان غير مقيم، فهو كاذب.

والإنشاء: ما لا يصح أن يقال لقائله ذلك؛ كـ: “سافِرْ يا محمد، وأقِمْ يا علي”(1).

والمراد بصدق الخبر: مطابقتُه للواقع، وبكذبه: عدمُ مطابقته له؛ فجملة: (علي مقيم) إن كانت النسبة المفهومة منها مطابقةً لما في الخارج (1) فصدقٌ، وإلا فكذِبٌ(2).

ولكل جملة ركنان؛ محكوم عليه، ومحكوم به، ويسمى الأول: مسندًا إليه؛ كالفاعل ونائبه، والمبتدأ الذي له خبر.

ويسمى الثاني: مسندًا؛ كالفعل، والمبتدأ المكتفي بمرفوعه(3).


(1) مثَّل المؤلف رحمه الله للإنشاء بقوله: سافِرْ يا محمد، وأقِمْ يا علي، فلو قال لك إنسان – وأنت اسمك محمد -: سافِرْ يا محمد؛ فإنه لا يصح أن تقول: صدقت، ولا تقول: كذبت، بل تقول: أبشِرْ، أو: نعم، أو تقول: لا.

كذلك (أقم يا علي) نفس الشيء.

(1) المراد بالخارج: الواقع؛ أي: مطابقته لما في الواقع.

(2) إذن: صدق الكلام هو مطابقته للواقع، وكذبه: مخالفته للواقع.

فإذا قال لك شخص: محمد رسول الله،صدق؛ لمطابقته للواقع، وإذا قال لك: مسيلمة رسول الله،كذب؛ لمخالفته للواقع.

والخلاصة: أن الخبر هو كل جملة يصح أن نقول لقائلها: إنه صادق أو كاذب.

والإنشاء عكس ذلك، ما لا يصح أن يقال لقائله: إنه صادق أو كاذب.

(3) هذه أيضًا من القواعد، وهي أن كل جملة لها ركنان: محكوم عليه، ومحكوم به، ويسمى الأول مسندًا إليه، والثاني مسندًا.

فعلى سبيل المثال: قام زيد،هذه جملة فيها محكوم به، ومحكوم عليه، المحكوم به هو (قام)، والمحكوم عليه هو (زيد)، ويسمى الأول (المحكوم به) (قام) مسندًا، ويسمى الثاني (المحكوم عليه) (زيد) مسندًا إليه.

ولهذا تقول في (قام زيد): “قام” مسند إلى زيد، وتقول: أسندت القيام إلى زيد.

إذن: كل جملة – خبرية كانت أو إنشائية – لا بد فيها من ركنين، هما: المحكوم به، وهو المسند، والمحكوم عليه، وهو المسند إليه.

ومثل المؤلف رحمه الله للمحكوم عليه المسند إليه بالفاعل ونائبه، والمبتدأ الذي له خبر:

فالفاعل مسند إليه.

ونائب الفاعل مسند إليه.

والمبتدأ الذي له خبر مسند إليه.

ومثال المبتدأ الذي له خبر: زيد قائم؛ فـ: (زيد) مسند إليه، وقائم خبر.

ومثَّل المؤلف رحمه الله للمحكوم به المسند بالفعل، والمبتدأ المكتفي بمرفوعه[2].

أما الفعل فواضح، وقد تقدم مثاله: قام زيد.

وأما المبتدأ المكتفي بمرفوعه فمثاله: أقائم زيد؟ فـ: (قائم) مبتدأ، وزيد فاعل أغنى عن الخبر.


[1] قطعة من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رواه مسلم 1/ 535 (771) في الصلاة، باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالليل، وأبو داود (760) في الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، الترمذي (3422) في الدعوات.

[2] أي: استغنى بمرفوعه عن الخبر، كما سيأتي بيانه في المثال – إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع مشابهة:

ترك تعليق