المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين

مسألة [حقيقة حروف التَّثنية والجمع]

حروفُ المَدِّ في التَّثنيةِ والجَمْعِ حُرُوفُ إعرابٍ عندَ سيبويه.
واختلف أَصحابُه في الإِعرابِ. فقالَ بَعضُهم: هو مُقدَّرٌ عليها كما يُقدَّرُ على المقصورِ. وقالَ آخرون لا يقدَّرُ عليها إعرابٌ.

وقالَ الأخفشُ والمازنيُّ والمبرِّدُ: ليست حروفَ إعرابٍ على ما ذكرنا في الأَسماءِ السِّتَّةِ.
وقال الجرميُّ: انقلابُ الألفِ إلى الياءِ هو الإعراب، وقالَ قُطْرُبُ والفرَّاءُ أنفسُهما إعرابٌ.

وحجَّة الأولين من ستة وجه:
الأول: أنَّه اسمٌ معربٌ، فكان له حرفُ إعرابٍ كسائر الأسماءِ، والوجهُ فيه أنَّ المعربَ هو الذي يقومُ به الإِعراب، مثل المكرم هو الذي قام به الإِكرام، فالإعراب غيرُ المُعرب، لأنَّ محلَّ الشيءِ غيرُ ذلك الشيءِ كمُغايرة الأسود للسَّوادِ.

والوجهُ الثَّاني: أنَّ هذه الحروفَ حادثةٌ لمعنى في الاسمِ، فكانت حروفَ إعرابٍ، كتاء التأنيث وأَلفه، وياء النَّسب، وإنَّما كانَ كذلك، لأنَّ الحَرف الحادِثَ لمعنى يَصيرُ من جُملة الكلمةِ وطرفًا لها والأطراف حروفُ الإِعراب.
والوجهُ الثَّالثُ: أنَّ حرفَ الإِعرابِ هو الحَرفُ الأخيرُ الذي إذا أُسقِطَ يختلّ به المعنى، وحروفُ المَدِّ هنا كذلِكَ، إنَّها إذا أُسقطت اختلَّ معنى التَّثْنِيَةِ والجَمع، فتصيرُ كالدَّالِ من زيدٍ.
والرابعُ: أنَّ هذه الأَسماء لها حرفُ إعرابٍ قبلَ التَّثنية فكان لها حرفُ إعرابٍ بعدها، كالاسمِ المؤنث، وذلك أنَّ المعنى الحادثَ لا يَسلِبُ الاسم معنى وإنَّما يزيده معنى، فلو حذف حرفُ الإِعراب لكانَ ذلك نقضاً لحكمِ الاسمِ.
والخامس: أنَّك إذا سميت رجلاً ((مسلمان)) أو ((زَيدون)) ثمَّ رَخَّمته حذفتَ الألفَ والنُّون، والنون ليست حرفُ إعرابٍ اتفاقاً، وجب أن تكونَ الألفُ حرفَ الإعرابِ، لأنَّ حكمَ التَّرخيمِ أن يَحذِفَ حرفَ الإِعرابِ كما تَحذف الثَّاء من ((حارث)).
والسادس: أنَّ العربَ قالوا: ((جَاءَ يَنْفُضُ مَذْرَوَيْه)) و ((عَقَدْتُهُبِثِنَايَيْنِ)) فأثبتوا الواو والياء كما يثبتونهما قبل تاء التأنيث نحو ((شقاوة)) و ((عباية))، وقد ثبتَ أنَّ الثّابتَ قبل تاءِ التأنيثِ من جملةِ، وأنَّه ليس بإعرابٍ، فثبت بذلك أنَّه حرفُ إعرابٍ.
واحتجَّ الآخرون من وجهين:
أحدُهما: أنَّ هذه الحروف تدلّ على الإِعرابِ، وحرفُ الإِعراب لا يَدُلُّ عليه، كالدال من زيدٍ، فثبت بذلك ليست حروف إعراب.
والثاني: أنَّها لو كانت حروفَ إعرابٍ لبانَ فيها إعرابٌ، ولا يَصِحُّ تقدير ذلك لِوَجْهَيْنِ:
أحدهُما: أنها تَدُلُّ على الإِعراب، فلو كان فيها إعرابٌ لكان عليه دَليلان.
والثاني: أنَّ حرفَ الإِعرابِ يلزمُ طريقةً واحدةً فلمَّا كان الرَّفع بحرفٍ. والجرّ والنصب بحرفٍ آخر، لم يكن حرفَ إعرابٍ، بل كانَ دليلَ الإِعرابِ.
واحتجَّ الجَرمي بهذه الشّبهة، وهو أنَّه لمَّا احتيج في الجَرِّ والنَّصبِ إلى حرف آخر غير ألف، علم أنَّ الانقلاب هو الإِعراب.
واحتجَّ الفرَّاء: بأنّ الإِعراب ما دلَّ على الفاعِل والمفعولِ، وكان حادثاً عن عامل، وهذه الحروف بهذه المنزلة، فكانت إعراباً كالحركة.
والجَوابُ عن شبهةِ المازني ما ذكرناه في الأَسماء السِّتَّة، من أنَّها لوانت دليلَ الإِعرابِ لكان الإِعرابُ إمَّا فيها أو في غيرِها وكلاهما باطلٌ على ما تقدَّم.
فأمَّا معرفة الإِعراب من هذه الحروف ففيه وجهان:
أحدُهما: أنَّ الإِعرابَ مقدَّرٌ عليها، ولا دليلَ عليه كما في المقصورِ، وإنَّما اكتَفوا بوضعِ الألِف في الرَّفعِ، والياءِ في الجرِّ والنَّصبِ، عن دليلِ الإِعرابِ، ألا تَرى أنَّ ((نحن وأَنت)) بوضعِهِ يدلُّ على الرفعِ، و ((إيَّاك وبابه)) يدلُّ على النَّصبِ، كذلك الحُروف هُنا هي حروفُ إعراب، ووضعها يُغني عن ظهور الإِعرابِ، وإذا كانت الكلمةُ بأسرها تُغني عن الإِعراب فبأنْ يَدُلُّ آخر الكلمة أولى.
والجوابُ عن شبهة الجرمي أنَّ الانقلاب لو كان إعراباً لم يكن في المثنّى والمجموع رفعٌ؛ لأنَّ الألفَ والواوَ غيرُ منقلبتين عن شيءٍ.
وجواب آخر: وهو أنَّ الياءَ في التَّثنية والجَمعِ ليستْ منقلبةً عنحرفِ، بل هو حرفٌ موضوع ابتداء، فلا انقلاب، بخلاف الأسماء الستَّة، فإنْ أراد بالانقلاب تَنَقُّل الحرفِ من حالٍ إلى حالٍ، لا الانقلاب التَّصريفي، قيلَ هذا لا يمنعُ من جَعلِ هذه الحُروفِ حُروفَ إعرابٍ، لقيامِ الدَّليلِ عليه، ويكون الانتقالُ مبنيّاً على الإِعرابِ المقدَّرِ.
وأمَّا مَذهبُ الفرَّاء: فالجوابُ عنه أنَّها لو كانت إعراباً لم تَدُلّ على معنى غير الإِعراب، ولَيست كذلك، بل هي دَالَّةٌ على معانٍ غير ما يدلّ عليه الإِعراب، فهي كتاءِ التأنيث، وياءِ النسب، وقد احتجَّ بعضُهم لغيرِ مذهبِ سيبويه بِأنَّ تاء التَّأنيث ثبتَتْ قبلَ هذه الحروف، نحو ((مُسلمتان)) و ((جارِيتان)) وحرفُ التأنيثِ لا يكونُ حَشواً.
والجوابُ: أن الدَّليلَ على كونِها حروفَ إعرابٍ ما تقدَّم. وأمَّا ثبوتُ التَّاءِ قبلَها، فوجهه أنَّ هذه الحروفَ حروفُ إعرابٍ، وتَدُلُّ على الإِعرابِ، فمن حيثُ هي دالَّةٌ على الإِعرابِ وقعتْ تاء التأنيث قَبلها، ولم تَكُنْ حشواً في هذا الحكمِ، وأمَّا من الجهةِ الأُخرى فلا تَنفي كونها حرفَ إعرابٍ، وكان السَّبَبُ في ذلك أنَّ التأنيث معنى يُفتَقَرُ إلى الدِّلالة عليه، فلو حذف في التَّثنية والجمع لبطل ذلك، فوجب أن يُحافَظَ على المَعنيين جميعاً.
واللَّه أعلمُ بالصَّواب.

ترك تعليق