المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين

مسألة [حقيقة الإِعراب]

ذهبَ أكثرُ النحويين إلى أنّ الإِعرابَ معنى يدلُّ اللّفظ عليه، وقالَ آخرون هو لفظُ دالٌ على الفاعل والمفعول مثلاً، وهذا هو المُختار عندي.

واحتجّ الأوّلون من أوجه:
أحدُهما: أنَّ الإِعرابَ اختلافُ آخرِ الكلمةِ لاختلافِ العاملِ فيها، والاختلافُ معنى لا لفظٌ كمخالفةِ الأحمر للأبيض.

والثاني: أنّ الإِعرابَ يدلُّ عليه تارة الحركة، وتارةً الحرف، كحروف المدِّ في الأسماءِ الستّة والتّثنية والجمع، وما هذا سبيله لا يكونُ معنى واحدًا، بل هو دليلُ على المعنى، والدّليلُ قد يتعدّد والمدلول عليه واحد.

الثالث: أنّ الحركات تضاف إلى الإِعراب فيقالُ: حركات الإِعراب وهذه ضمّة إعراب، وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة، وكذلك الحركات توجد في المثنّى وليست إعرابًا.

واحتجّ الآخرون: بأنّ الأصلَ في الإِعرابِ الحركةُ؛ لأنَّها ناشئةٌ عن العامِلِ كقولك قامَ زَيدٌ، فالضمّة حادثة عن الفعل، والفعلُ عاملٌ، والعملُ نتيجة العملِ، والعمل هو الحركة، فأمّا كون الاسم فاعلاً أو مفعولاً فهو معنى مجرّدٌ عن علامةٍ لفظيّةِ يجوزُ أن تُدرك بغير لفظٍ، كما يُدرك الفرق بين المبنيّات بالمعنى مع حكمِ بالبناء، كقولك: ضَرَبَ هذا هذا، وكذلك [قولُك] في المعرب نحو كلّم موسى عيسى، فعلم أنّ الإٍعراب هو الحركة المخصوصة، وهذا هو حجّة هؤلاء.

والّذي أُحرره هنا أن أقول: الإِعراب فارقٌ بين المعاني العارضة، كالفاعليّة، والمفعوليّة والتَّعجّب والنّفي والاستفهام، نحو ما أحسن زيدًا، وما أحسن زيدٌ وما أحسن زيدٍ، نفس الحركات هنا فارقٌ بين المعاني، وإذا ثبتت أنّ الإِعراب فارق بين المعاني فالفرق الحاصل عن الفارق يعرف تارةً بالعقلِ، كالمعرفة أنّ الاثنين أكثر من الواحد، وأقلّ من الثلاثة، هذا معلوم بالعقل من غير لفظٍ يدلُّ عليه، وتارةً يعرف بالحسّ من السَّمعِ والبصرِ واللّمسِ والذوقِ، والشمِّ، فأنت تفرق بين زيدٍ وعمروٍ بالتّسميَة بما تَسمعه من اللّفظين، وتفرّقُ بين الأَحمر والأبيض بحاسَّة البصرِ، وبين الحارِّ والباردِ والناعمِ والخشنِ باللّمسِ، وبين الحلوِ والمرِّ بالذَّوق، وبين الريحة الطَّيبةِ والخَبِيثةِ بالشمِّ، والإِعرابُ من قبيلِ ما يعرفُ بحاسّة السَّمع، ألا تَرى أنّك إذا قلت لإِنسان: افرقْ لي بين الفاعلِ والمفعولِ والمضافِ إليه في نحو قولك: ((ضربَ زيدٌ غلامَ عمروٍ)) فإنّه إذا ضمّ واحدًا وفتحَ ثانيًا وكسرَ ثالثًا حصلَ لك الفَرقُ بألفاظه، لا من طريق المعنى، فإنّك أنت قد تُدرك هذا المعنى بغيرِ لفظٍ، فدلّ أنّ الإِعرابَ هو لفظُ الحركة.

وأمّا ما أُعرب بالحروفِ فهو حاصل من اللّفظ أيضًا، لأنّ الحرفَ لفظٌ، كما أنّ الحركةَ لفظٌ. وأمّا كونُ الحركةِ في المبنى فلا يمنع أن يكون إعرابًا في المُعرب، ويكون الفَرقُ بينهما أنَّ حركةَ الإِعراب ناشئةٌ عن عامل فهي حركةٌ مخصوصةٌ وحركةُ المبني ليست مخصوصة بعامل، وأمّا إضافة الحركة إلى الإِعراب فلا يدلّ على أنَّهما غَيْرَانِ، بل هو من قبيلِ إضافة النّوع إلى الجنس وهذا كما تقول رفعُ الإِعراب ونصبه وجرّه، فتضيف الرفع إلى الإِعراب وهو نوع منه يدلّ على ذلك أنّ الرّفع إعراب بلا خلاف، وكذلك النّصب والجرّ، معلوم أنّ حقيقةَ الرَّفعِ هو الضَّمَّةُ الناشئةُ عن عامل قد لزم أن يكون الإِعراب لفظًا. والله أعلم بالصوّاب.

المصدر: التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين

اضغط على ايقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق