أخطاءٌ لغويَّـة[1]
في ضَبط ألفاظ السنَّة النبويَّـة (2)

تقدَّم في الحَلَقات السابقة التنبيهُ على مجموعة من الأخطاء والأوهام التي تقعُ في ضبط بعض ألفاظ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبيَّـنَّا خطورةَ الخطأ فيها، وما قد يترتَّب على ذلك من خَلط في المعنى وفساد.

ونَعرضُ في هذه الحَلْقَة لخطأ يقعُ فيه خواصُّ طلبة العلم، بَلْهَ العامَّة، وهو: ضبطُ الفعل (تعجز) في قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (( المؤمنُ القَويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله منَ المؤمن الضَّعيف، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستعِنْ بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابَكَ شيءٌ فلا تقُل: لو أنِّي فعَلتُ كان كذا وكذا، ولكنْ قُل: قَدَرُ الله وما شاءَ فعَل؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان )) [ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ].

وقلَّما يُضبَط هذا الفعلُ على الصَّواب، وأكثرُ ما يُضبَط في الكتب رَسمًا، ويَنطِقُ به الخطباءُ والمتكلِّمون لفظًا: ( تَعْجَز ) بفتح الجيم، وهو خطأٌ مخالفٌ لما نصَّ عليه غيرُ إمام من شُرَّاح كتب السنَّة؛ من أنها: بكسر الجيم؛ لأن الفعلَ ( عجز ) هنا من العَجْز الذي هو: الضَّعفُ وانقطاعُ الحيلَة دونَ الأمر، فهو بوزن ضَرَبَ، أي: عَجَزَ يَعْجِزُ ( بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع ).

وأما إذا كان بوزن فَرِحَ، أي: عَجِزَ يَعْجَزُ ( بكسر الجيم في الماضي، وفتحها في المضارع ) فيكون من العَجيزَة، وهي: مُؤخَّرُ المرأة، يقال: عَجِزَت المرأةُ تَعْجَزُ: إذا عَظُمَت عَجيزَتُـها.

وذهب الفرَّاء إلى أن الفعلَ عَجِزَ ( بالكسر ) من العَجْز: لغةٌ لبعض قَيْس عَيْلان ( قبيلة عربية )، وذهب غيرُه إلى أنها لغةٌ رديئةٌ. قال الفيُّومي: وهذه اللغةُ غيرُ معروفة عند قَيْس عَيْلان، ونقل عن ابن الأعرابيِّ ( وهو أحدُ أئمَّة العربيَّة ورواتها المتقدِّمين ) قولَه: لا يُقال عَجِزَ الإنسانُ بالكسر: إلا إذا عَظُمَت عَجيزَتُه.

۞ ۞ ۞ ۞

أخطاءٌ لغويَّـة

في ضَبط ألفاظ السنَّة النبويَّـة (د)

لم يدَعْ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – من حقٍّ وخيرٍ إلا وهَدانا إليه ورغَّبَنا فيه، ولم يَترُك من باطلٍ وشرٍّ إلا ونَهانا عنه وحذَّرَنا منه.

ومن الخير الذي حثَّنا عليه: بناءُ المساجدِ وتشييدُها؛ لِما أعدَّ الله سبحانَه لبانيها من الأجر العَظيم والثَّواب الجَزيل في الآخرَة، قال – صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ بَنى للهِ مَسْجِدًا، ولو كمَفْحَص قَطاةٍ لِبَيْضِها، بَنى اللهُ له بيتًا في الجنَّة )) [ أخرجه أحمد من حديث ابن عباس ].

ومعنى ( مَفْحَص القَطاة ): المكانُ الذي تَبيضُ فيه القَطاةُ وتُفَرِّخ. والقَطاةُ: نوعٌ من الحمام يُضرَب به المثلُ في الاهتِداء.

يُقال: فَحَصَت القَطاةُ فَحْصًا: حَفَرَت في الأرض مَوضِعًا تَبيضُ فيه، واسمُ ذلك الموضِع: ( مَفْحَص ) بفتح الميم والحاء، وجَمعُه: مَفاحِص.

وخُصَّت القَطاةُ بهذا: لأنَّها لا تبيضُ في شجَر، ولا على رأس جبَل، إنما تجعَلُ مَجْثِمَها على بَسيط الأرض، دون سائر الطَّير.

هذا وقد حَمَل أكثرُ العلماء قولَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: (( ولو كمَفْحَص قَطاة )) على أنه تمثيلٌ على جهَة المبالغَة؛ لأن مِقدارَ مَفْحَص القَطاة لا يكفي للصَّلاة فيه. ويُمكن أن يُحملَ على أنه حَضٌّ على التعاون والتعاضُد في بناء بُيوت الله، وبَيانٌ لعِظَم الأجر على ذلك، حتى لو كانَ نصيبُ الفَرد المشترِك صغيرًا كمَفْحَص القَطاة.

ويخطئُ بعضُ الكتَّاب والخُطَباء فيَضبطونها: ( مِفْحَص ) بكسر الميم، بوزن ( مِفْعَل )، والصَّواب أنها كما تقدم: بفتح الميم ( مَفْحَص )، بوزن ( مَفْعَل )؛ لأنها اسمُ مكانٍ من الفعل الثلاثيِّ: فَحَصَ، ومضارعُه: يَفحَصُ ( مفتوح العين )، وما كان كذلكَ فإن اسم المكان منه يُصاغُ على وزن مَفْعَل.

أما ( مِفْعَل ): فوزنٌ من أوزان اسم الآلَة، ومنه: مِبْرَد، ومِقْوَد، ومِنْجَل، ومِقَصّ.

۞ ۞ ۞ ۞

أخطاءٌ لغويَّـة

في ضَبط ألفاظ السنَّة النبويَّـة (و)

شاعَ في لغة الكتَّاب والخطباء اليومَ أنواعٌ من اللَّحْن والغَلَط، ولعلَّ من أكثر أضْرُب الخطأ ذُيوعًا: التخليطَ في أبنية الأسماء والأفعال، مع أن كثيرًا من هذه الأسماء والأفعال تكون واردةً على وَجهها الصَّحيح في الكتاب العَزيز وفي السنَّة النبويَّة المشرَّفَة.

ومن الأفعال التي يَكثُر الخطأ في ضَبطها: الفعل ( يلبس )، فقلَّما يُصَرِّفونه من بابه الصحيح، ومن ذلك ما يَستشهدُ به بعضُ الوعَّاظ من حديثٍ يُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (( يَخرُجُ في آخِرِ الزَّمان رجالٌ يَخْتِلونَ الدُّنيا بالدِّين، يَلْبَسُونَ للناسِ جُلودَ الضَّأْن من اللِّين، ألسِنَتُهُم أحلى من السُّكَّر، وقُلوبُهُم قُلوبُ الذِّئابِ .. )) [ أخرجه الترمذي، وهو حديث ضعيف ].

والمرادُ بقوله: يَخْتِلونَ الدُّنيا بالدِّين، أي: يَطْلُبونَ الدُّنيا بعمل الآخِرَة. وقوله: يَلْبَسُونَ للناسِ جُلودَ الضَّأْن: كنايةٌ عن إظهار اللِّين للناس، مع أن قلوبَهم تُكِنُّ خلافَ ذلك.

فيَضْبطونَ قوله ( يلبسون ): بكسر الباء، وهو خطأٌ يَجْنَحُ بالمعنى عن وَجهه. والصَّواب: أن هذا الفعلَ – في هذا السِّياق – من باب ( تَعِبَ )، نقول: لَبِسَ الرجلُ الثَّوبَ يَلْبَسُه ( بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المضارع ): إذا استَتَر به وأفرَغَه على جِسْمِه.

وقد وردَ الفعلُ بهذا المعنى في مواضِعَ من كتاب الله تعالى، منها قولُه سبحانَه في وَصْف أهل الجنَّة من المؤمنينَ المحسنين: ﴿ يَلْبَسُونَ من سُنْدُسٍ وإسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلينَ ﴾ [ الدخان: 53 ]، ومنها قولُه: ﴿ وهُوَ الَّذي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأكُلُوا مِنهُ لحَمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ﴾[ النحل: 14 ].

ويأتي هذا الفعلُ من باب ( ضَرَبَ ) ولكن بمعنى: الخَلْط، يقال: لَبَسَ عليه الأمرَ يَلْبِسُه أي: خَلَطَه عليه وجَعَلَه مُشْكِلاً حتى لا يَعرفَ حقيقَتَه. ومنه قولُه تعالى: ﴿ ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بالباطِلِ وتَكْتُمُوا الحَقَّ وأنتُم تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة: 42 ]، وقولُه: ﴿ الَّذينَ آمَنُوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهُم بِظُلْمٍ أولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [ الأنعام: 82 ].

ترك تعليق