معاني الحروف

(لَمَّا كانت مقاصد كلام العرب على اختلاف صنوفهم مبنياً أكثرها على معاني حروفه صُرفت الهممُ إلى تحصيلها، ومعرفة جملتها وتفصيلها، وهي مع قلتها وتَيسر الوقوف على جملتها قد كثُر دَوْرُها وبَعُد غَوْرها، فعزّت على الأذهان معانيها، وأبت الأذعان إلا لمن يعانيها)

المرادي


عرَّف سيبويه الحرف فقال: وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل.

وعرفه المبرد فقال: الحرف ما جاء لمعنى في غيره. وعرفه الفارسي: والحرف ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل.

وعرفه ابن السراج: الحروف ما لا يجوز أن يُخبر عنها، ولا يجوز أن تكون خبرا. وعرفه الزجاجي: والحرف ما دل على معنى فى غيره.

 

وعرَّفه الزمخشري فقال: والحرف ما دل على معنى في غيره، ومن ثم لم ينفك من اسم أو فعل يصحبه. وعرفه المرادي فقال: الحرف طرف في الكلام وفضلةٌ ليس له معنى في نفسه، ولكونه لا يدل على معنى إلا في غيره افتقر إلى ما يكون معه، ليفيد معناه فيه. وعرفه ابن الحاجب فقال: الحرف ما دل على معنى في غيره ومن ثم احتاج في جزئيته إلى اسم أو فعل.


وعرفه ابن هشام فقال: والحرف في الاصطلاح ما دل على معنى في غيره، وافتقر إلى ما يكون معه ليفيد معناه فيه، وعرفه ابن يعيش فقال: والحرف كلمة دلت على معنى في غيرها، ولكونه لا يدل على معنى إلا في غيره، افتقر إلى ما يكون معه ليفيد معناه فيه.


وجاء السيرافي فحوّل عبارة سيبويه من (جاء بمعنى ليس باسم ولا فعل) إلى: جاء لمعنى في الاسم والفعل، وقولنا: يدل على معنى في غيره نعني أن تصوّر معناه متوقف على خارج عنه. فإذا قلت: ما معنى (مِنْ)؟ فقيل لك: التبعيض، لم تفهم إلا بعد معرفتك بالجزء والكل.


وعرفه شرف الدين العمريطي فقال: والحرف لم يصلح له علامة إلا من انتفى قبوله العلامة ويأتي بعده ابن النحاس ليقول: والحق أن الحرف له معنى في نفسه كما إذا خاطبنا إنسانا بـ (هل) فهو يفهم أنها موضوعة للاستفهام وكذا باقي الحروف، فإذاً عرفْنا أن له معنى في نفسه، رغم الشهرة التي عمَّت جمهور النحويين أن الحرف يدل على معنى في غيره، يقف الشيخ بهاء الدين ابن النحاس في التعليقة هذا الموقف، ويوافقه عليه شيخ نحاة الأندلس في التسهيل أ. هـ.


وأسال: أين معنى الاستعلاء في قول القائل: عليَّ بفلان، (ايتوني به)؟ ولعَمري ماذا نفهم من الباء منفردة على سَمْتِ ما حَده النحاة ومنهاجِ ما مثلوه.


ولعل الرضي الاستراباذي في شرحه على الكافية كان أدق منهم لمعنى الحرف قال: فالحرف موجد لمعناه في لفظ غيره، فهو كلمة فارغة من المضمون ثم قال: فالحرف وحده لا معنى له أصلاً إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدل على أن في ذلك الشيء فائدة، فإذا أُفرد عن ذلك الشيء بقي غير دالٍّ على معنى.


فظهر بهذا أن المعنى الإفرادي للاسم والفعل هو في أنفسهما، والمعنى للحرف هو في غيره. فالباء مثلاً لا تدل على معنى الإلصاق أو الاستعانة أو التعليل أو المصاحبة أو البدل أو السبب أو الاستعلاء أو … أو … كما ذكر السيوطي حتى تضاف إلى الاسم الذي بعدها لا أنه يُتحَصل منها منفردةَ، وكذلك اللام لا تحمل معنى الملك أو الاختصاص أو … حتى تكون في جملة مفيدة، ومثلها (إلى) في انتهاء الغاية أو المعية أو التبيين حتى تأخذ مكانها في مَأَمٍّ تتورده. و (على) لا تفيد معنى الشرط إلا حين يكون ما بعدها شرطاً لما قبلها ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ** إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ وذكر السرخسي أنه معنى حقيقي لها، لكن النحاة لم يتعرضوا له، وتردد السُبكي في وروده، والحق أنه استعمال صحيح. هذا رأي أغلب علماء الأصول فلا وجود للحروف وهي منعزلة، بل ولا تأخذ معناها اللغوي إلا عند دخولها كعناصر ارتباط في تركيب ما.


وهذا ما قاله (فندريس) حين ميّز بين طائفتين من الكلمات: الفارغة والمليئة. فالأولى هي (دوال النسبة) وجعل منها حروف الجر في الفرنسية.


وقال: من المستحيل ترجمة هذه الكلمات في القاموس إذ ليس لها معنى مشخّص، فهي عوامل تقويمٍ أو قيم جبرية، أو روابط كيميائية، ومن ثمّ لم تكن توجد منعزلة، والثانية كلمات مليئة هي (دوال الماهية) ويرى فندريس أن هذه الحروف أو الروابط ليست إلا بقايا كلمات قديمة أُفرغت عن معناها الحقيقي واستعملت مجرد رموز.


ولعل وظيفة فقه اللغة أن يتناول في هذا البحث إرجاع هذه الأدوات إلى أصولها لمعرفة المعنى الوظيفي الذي تؤديه من خلال التركيب، ومجمل القول في تعريف الحرف لدى علماء الأصول أنه وحده لا معنى له أصلاً وهو في ذلك نظير الحركات الإعرابية حيث هي علامات على الفاعل والمفعول والمجرور في الرفع والنصب والجر، فهي – أي الحروف – موضوعة لمعان في غير ألفاظها. فالحرف لا يدخل فيه المجاز ولا يتحمل التضمين لأن معناه غير مستقل بنفسه، ولكننا حين نضعه في سياق معين، يتفتح عن رصيده المذخور وإيحائه المتجدد. والمتتبع لهذه الحروف في كتاب اللَّه بعد إنعام الفحص عن كنهها وإلطاف النظر فيها، يراها تخرج عن معناها المألوف الذي وضعه علماء اللغة والنحو لها، وإنَّمَا طريقة عرضها تكشف عن أسرارٍ استودعها اللَّه فيها.


فليس إذاً للحرف حالٌ تخصه في نفسه، وإنما تكون حاله لأمر راجع لفعله.
أين حال الباء في قوله تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾.
من حالها في قوله تعالى: ﴿ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ﴾.
من حالها في قوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾.
من حالها في قوله تعالى: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾.


فحال هذه الباء في كل آية راجع إلى فعلها المتعدي بها، وليست لحالِ تخصها في نفسها. وأظهرُ من ذهب إلى أن الحرف علامةٌ لا معنى له: التبريزي حيث يقول: إن الحرف لا معنى له أصلاً لا آلياً ولا استقلالياً وإن إطلاق المعنى في الحرف والدلالة تسمح من باب الاضطرار في مجال التعبير، إذ ليس للحرف معنى حتى يقال: إنه مستعملٌ فيه أو يدل عليه فلفظة (مِنْ) في قولك: جئت مِن دمشق إلى المدينة المنورة، علامة على أن بداية المجيء هي من دمشق، ولفظة (إلى) علامة على كون المدينة منتهاه.


وكذلك سائر حروف المعاني آلات للحدث لا كواشف عنه، نظير كشف الأسماء عن معانيها، ومن هذا القبيل وضع الإعراب الرفع والنصب والجر علامات لأحوال مدخولها.

 

ونخلص بعد هذا التطواف إلى أن لكلٍ من الاسم والفعل والحرف معنى إفرادياً إلا أن المعنى للاسم والفعل في أنفسهما، أما الحرف فإن معناه الإفرادي لا يظهر إلا من خلال تركيبه في جملةٍ، ويستمده من العلاقات التي يوحيها السياق.


والتعبير عن العلاقات معنى وظيفي لا معجمي، فلا بيئة للحروف خارج أسيقتها، والمعنى الذي يتكون في الذهن لدى سماعنا جملةً من الجمل، لا يمكن أن يتكون لولا أدوات الربط (الحروف وغيرها من دوالّ النسب) فلو قلت: حزنت، فما المعنى المراد؟ أحزنت منه أم له أم عليه أم ماذا؟. في قوله تعالى: ﴿ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ﴾ لقد جمع في لفظة واحدة أمرين متدافعين وتقديرين ضدين.


المعاني مسجونة في مواضعها والأذهان معزولة عن الانتفاع منها، لا نعرف إساءة من إحسان، فهل الرغبة (في) نكاح اليتيمة إن كانت جميلة يتزوجها ويأكل مالها، أو الرغبة (عن) نكاحها إن كانت دميمة يعضلها عن الزواج حتى تموت فيرثها؟.


أخفى القرآن المعنى لغرض المصلحة، مصلحة اليتيمة. رُوي عن عمر رضي اللَّه عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر … فإذا كانت جميلة غنية قال: التمس لها مَنْ هو خير منك، وإن كان غير ذلك أمره أن يتزوجها. رضي اللَّه عنك يا عمر … إنه ميلاد مجتمع جديد. طمس معالم الجاهلية في النفوس وأنشأ تصوراً جديداً، فتم هذا الميلاد، وتغيرت ملامح الحياة كلها وانتقلت موجته من المجتمع الوليد إلى المجتمع الرشيد.


هذه الحروف تُسمى حروف الإضافة، وتسمى حروف الجر كما قلت،وقد يسميها الكوفيون حروف الصفات لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات وهي متساوية في إيصال الأفعال إلى ما بعدها في عمل الخفض، وإن اختلفت معانيها في أنفسها ولذلك قيل: هي فوضى في ذلك، هذه الحروف لا يدخل فيها المجاز لأن مفهومها غير مستقل بنفسها، بل لا بد أن ينضم إليها شيء آخر لتحصل الفائدة.


ومن الأفعال أفعال ضعُفتْ عن تجاوز الفاعل إلى المفعول، فاحتاجت إلى أشياء تستعين بها على تناوله والوصول إليه وذلك نحو: عجبت ومررت وذهبت … فلما ضعفت عن الوصول رُفدت بحروف الإضافة فجُعلت موصلة لها إليها فقالوا: عجبت من زيد ومررت بعمرو وذهبت إلى هشام.


فإذا قلت: هذه الحروف إنما أُتي بها لإيصال معاني الأفعال إلى الأسماء فما بالهم يقولون: زيد في الدار والمال لخالد، فجيء بهذه الحروف ولا فعل قبلها؟ فالجواب: أنه ليس في الكلام حرف جر إلا وهو متعلق بفعل أو ما هو بمعنى الفعل في اللفظ أو التقدير: المال حاصل لزيد، وزيد مستقر في الدار، فثبت بما ذكرناه أن هذه الحروف إنما جيء بها مقوية وموصلة لما قبلها من الفعل أو ما هو في معنى الفعل إلى ما بعدها من الأسماء.


واعلم أن حرف الجر إذا دخل على الاسم المجرور فيكون موضعهما نصباً بالفعل المتقدم يدل على ذلك أمران: أحدهما: أن عَبرة الفعل المتعدي بحرف الجر، عَبرة ما يتعدى بنفسه إذا كان في معناه: مررت بزيد كمعنى جزت زيداً، وانصرفت عن خالد كمعنى جاوزت خالداً. فكما أن ما بعد الأفعال المتعدية بانفسها منصوب، فكذلك ماكان في معناها مما يتعدى بحرف الجر، لأن الاقتضاء واحد، ولأن الأفعال ضعفت في الاستعمال فاحتاجت إلى مقوٍّ.


والآخر: من جهة اللفظ فإنك قد تنصب ما عطفته على الجار والمجرور، نحو قولك: مررت بزيد وعمروا، وإن شئت وعَمرو … بالخفض على اللفظ والنصب على المحل. وكذلك مررت بزيد الظريفَ بالنصب والخفض. قال سيبويه: إنك إذا قلت مررت بزيدٍ فإنك قلت: مررت زيدا.


وجملة الأمر:

أن حرف الجر يتنزل منزلة جزء من الاسم في موضع نصبٍ وبمنزلة جزء من الفعل من حيث تعدى به فصار حرف الجر بمنزلة الهمزة والتضعيف: أذهبت زيداً وفرَّحته.

المصدر: التضمين النحوي في القرآن الكريم

 

اضغط على أيقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق