المذهب الكوفي في علم النحو

 

لقد عرفت أن الكوفيين تأخروا عن البصريين في هذا العلم حقبة طويلة، وذلك لانصرافهم أولا عن التلقي عنهم ربا بأنفسهم عن الأخذ منهم، وما لبثوا أن شغلهم الشعر ورواياته والأدب وطرائفه، فاستأثروا بهذا وتنفلوا به على البصريين مدة طويلة لم يشاركوا فيها البصريين النظر إلى علم النحو.

تنبه الكوفيون بعدئذ وصحوا من سباتهم وأرادوا مساهمة البصريين فيه بعد أن عرفوه منهم وشق عليهم أن تنماع شخصيتهم في البصريين إن لم يكن لهم نحو خاص وبينهما ما بينهما من دواغل وإحن، دعاهم ذلك إلى تنظيم نحوهم على نمط خاص لا ينتحون فيه اتجاه البصريين، ولديهم في معتقدهم من الوسائل ما يهيئ لهم نيل مأمولهم، فاستمعوا من الأعراب الثاوين بالكوفة، وقد كانوا أقل عددا وأضعف فصاحة ممن كانوا بالبصرة وإن كان منهم لفيف من بني أسد وغيرهم إلا أن أغلبهم اليمانون، وأهل اليمن في عين أهل التمحيص ممن لا يستند إليهم، لخلاطهم الحبشة والهند والتجار الذين يفدون إليهم من مختلف الأمصار، ولم تقم سوق “الكناسة” بالكوفة التي كانوا يرتفقون منها حاجتهم مقام “المريد” بالبصرة مهبط الشعراء والخطباء من العرب المياسير، والأعراب العقف[1] المنتجعين للأرزاق.

هذا مع قصوهم عن جزيرة العرب ينبوع معين هذا العلم، وحيلولة صحراء السماوة بينهم وبينها، فلم تكن لهم فيها إلا رحلات قليلة لبعد الشقة وثقل المؤونة كرحلة الكسائي المعروفة، وهو زعيم طبقتهم الثانية التي تحاذي الرابعة البصرية، أما طبقتهم الأولى فلم تكن لها رحلات، على حين أن الطبقة الثالثة البصرية التي تقابلها أبلت في الرحلات بلاء حسنا عاد على اللغة العربية بالأثر الذي لا يبلى.

على أنه لم يقف ذلك دون رواج الشعر فيما بينهم، والشعر على كل حال ذو النصيب الأوفى في تدوين القواعد بعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله لتماسكه ومصايرته لأحداث الزمان بل قد فاقوا البصريين في علمه بفضل الأوراق المطمورة من عهد النعمان بن المنذر، نقل ابن جني في حماد الراوية الكوفي “قال: أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب في الطنوج[2] “الكراريس” ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن أبي عبيد الثقفي قيل له: إن تحت القصر كنزا فاحتقره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة”[3].

ولقد كانوا قبل العثور على هذه الأوراق مسوقين إلى الشعر عن رغبة ملحة وغريزة فيهم متأصلة منذ حل العرب الكوفة، يؤيد ذلك أن عليا كرم الله وجهه لما رجع بهم من قتال الخوارج، على أن يستعدوا لقتال أهل الشام ثم تخاذلوا عنه، لم ير أبلغ في ذمهم من صفة التشاغل بالشعر، فقال في خطبته حين خطبهم: “إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين تضربون الأمثال وتناشدون الأشعار تربت أيديكم وقد نسيتم الحرب واستعدادها وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل”.

إن العثور على الأوراق السالفة الذكر صادف هوى من نفوسهم فازدادوا بها إقبالا على الشعر، وزخر بحره عندهم وقذف فيه بالملح والطرف إلا أن النحل والافتعال طغيا عليه، حتى التبس الأمر على الناس، وأسند القول إلى غير قائله، قال أبو الطيب: “الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم”[4].

حقا لقد كان ذلك، إذ كان من رواتهم حماد المذكور الذي جر عليهم التلبيس في المرويات والازدياد عليها مختلقاته، وقد كان ضليعا في الشعر وآداب العرب إلا أنه رقيق الأمانة، قال فيه المفضل الكوفي: “قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا، فقيل له وكيف ذلك أيخطئ في روايته أم يلحن؟ ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل عنه ذلك في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك؟ “[5].

بل إن خلفا الأحمر البصري زاد ذلك ضغثا على إبالة[6] فقد كان كذلك مضرب المثل في محاكاته من ينسب إليهم الشعر، روى عنه الكوفيون كثيرا من الشعر “وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه قد أكثر الأخذ عنه وبلغ مبلغا لم يقاربه حماد، فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم”[7].

ومع أنه بصري فلم يعرف عنه أنه لبس على البصريين وروى لهم شعرا منحولا وربما كان منشأ ذلك العصبية البلدية التي تملي على المتأثر بها ارتكاب ما لا يجمل في المسائل العلمية، وقيل: إنه فعل ذلك انتقاما لنفسه إذ ذهب إلى الكوفيين أولا للتلقي عنهم فبخلوا عليه بشعرهم قال أبو زيد: “حدثني خلف الأحمر قال: أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ عنهم الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم أنا تائب إلى الله. هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب”[8].

إن المصادفة التي جمعت بين هذين الوضاعين لكفيلة بتوريث الكوفيين توهينا لمذهبهم فليس في الرواة جميعا على كثرتهم ومحاولة بعضهم الصنع من يداني حمادا وخلفا، فهما طبقة في التاريخ كله يعرف ذلك من له إلمام بالأدب.

أبصر ذلك البصريون فصدفوا عن شواهد الكوفيين واطرحوها ظهريا ولم يسمع عنهم إلا ما وقع من أبي زيد البصري الذي نقل عن المفضل الضبي الكوفي لأنه غير متأثر بالعصبية البلدية وقر عنده صدقه، قال السيرافي: “ولا نعلم أحدا من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة شيئا من علم العرب إلا أبا زيد فإنه روى عن المفضل الضبي. قال أبو زيد في أول كتاب النوادر أنشدني المفضل لضمرة بن ضمرة النهشلي، جاهلي:

بكرت تلومك بعد وهن في الندى … بسل عليك ملامتي وعتابي

الأبيات … وعامة كتاب النوادر لأبي زيد عن المفضل”[9] بينما الكوفيون يتلقون بالقبول رواياتهم ويعتمدون على شواهدهم.

على أنه ما كان الكسائي وهو ناشر المذهب الكوفي وصاحب الفضل فيه يب[10] ببغداد حتى استمع إلى الأعراب الذين فيها وحولها وهم أوشاب من مختلف القبائل غير العريقة في العروبة، ومنهم أعراب الحليمات الذين قدموا بغداد وضربوا خيامهم في “قطربل” “قرية من متنزهات بغداد اشتهرت باللهو والخمر” فاعتد بكلامهم واستشهد به وهم من زعانف العرب الذين اختبل لسانهم، فازداد مذهبه ضعفا على ضعف قال أبو زيد: “قدم علينا الكسائي البصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما وأخذ منهم نحوا كثيرا، ثم سار إلى بغداد فلقي أعراب الحليمات فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله”[11].

ولولاهم ما فاز الكسائي وانخذل سيبويه في المناظرة البغيضة، فإن الكسائي إنما اعتمد على لغتهم واحتج بكلامهم وكانوا له مظاهرين، ولذلك قال اليزيدي:

كنا نقيس النحو فيما مضى … على لسان العرب الأول

فجاء أقوام يقيسونه … على لغى أشياخ قطربل

فكلهم يعمل في نقض ما … به يصاب الحق لا يأتلي

إن الكسائي وأصحابه … يرقون في النحو إلى أسفل[12]

وقد اقتفى الكوفيون طريق الكسائي، فعولوا على شعر الأعراب بعد أن امتزجوا وتأشبوا “اختلطوا” بالمحتضرين ولان جفاؤهم، ومن أجل هذا كان البصريون يغتمزون الكوفيين فيقول الرياشي البصري “نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب الكواميخ وأكلة الشواريز”[13].

من ذلك كله ترى أنه لم تتهيأ لهم بيئة تصلح أن تكون منبعا لنمير هذا الفن كبيئة البصريين بمن فيها وفي أرباضها[14] وما دنا منها من العرب الخلص، يضاف إلى هذا ما استفزهم للعمل حثيثا في إبراز فن لهم يضارع الفن البصري غيرة منهم وحنقا على البصريين، فأصاخوا إلى كل مسموع لهم وقاسوا عليه فعثرت بهم عجلة الرأي، ولم يدققوا تدقيق البصريين بل تدرجوا مطاوعة لمناديهم إلى الاكتفاء بالشاهد الواحد ولو خالف الأصل المعروف المتفق عليه بين الفريقين، قال الأندلسي: “الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه بخلاف البصريين”[15].

وقد يتساهلون مع هذا في التثبت من معرفة القائل، وربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر ولا يعلم قائله كدليلهم على جواز دخول اللام في خبر “لكن” يقول المجهول:

………………………….. … ولكنني من حبها لعميد[16]

وأول من سن لهم طريقة التسامح إلى أبعد مدى شيخهم الكسائي “وذلك أن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن وشعر أهل الفصاحة والضرورات فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو”[17].


[1] جمع أعقف، وهو العربي الجافي.

[2] ولا واحد لها.

[3] الخصائص باب “في ما يرد عن العرب مخالفا لما عليه الجمهور”، ومن خبر المختار أنه وثب بالكوفة سنة ٦٦هـ في عهد عبد الله بن الزبير طلبا لثأر البيت العلوي فوجه إليه أخاه مصعبا فقتله سنة ٦٧هـ وهو من رءوس الفتن في الإسلام.

[4] مراتب النحويين ص١١٩ ونقل في المزهر النوع الرابع والأربعين.

[5] هذه الكلمة في الأغاني ترجمة حماد، وفي معجم الأدباء في كل من ترجمة حماد وترجمة المفضل، وفي خزانة الأدب شاهد ٧٧٤.

[6] الإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس -وهو المثل رقم ٢٢٠٢- في مجمع الأمثال ومعناه: بلية على أخرى.

[7] المزهر النوع الرابع والأربعين.

[8] هذه الكلمة في وفيات الأعيان “ترجمة أبي زيد”.

[9] أخبار النحويين البصريين ترجمة أبي زيد.

[10] بن يبن: أقام كأبن.

[11] راجع أخبار النحويين البصريين ترجمة أبي زيد، والتصحيف والتحريف ما وهم فيه الكسائي، ومعجم الأدباء ترجمة الكسائي.

[12] راجع شعر اليزيدي في ترجمته في أخبار النحويين البصريين، ومعجم الأدباء، وفي التصحيف والتحريف “ما وهم فيه الكسائي”.

[13] حرشة جمع حارش صائد الضب، الكواميخ جمع كامخ نوع من الأدم، والشواريز جمع شيراز اللبن الثخين، راجع ترجمة الرياشي.

[14] جمع ربض بالتحريك والمراد به هنا الناحية.

[15] الاقتراح ص١٠٠.

[16] باب إن وأخواتها من شواهد الزمخشري في المفصل، والرضي في شرح الكافية راجع الخزانة ٨٦٥، والمغني مبحث “لكن”.

[17] معجم الأدباء ترجمة الكسائي.

اضغط على أيقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق