المؤلف: أبو القاسم الزَّجَّاجي
المحقق: الدكتور مازن المبارك

‌‌باب ذكر علّة امتناع الأفعال من الخفض (1)

قال سيبويه: “ليس في الأفعال المضارعة جر، كما أنه ليس في الأسماء جزم، لأن المجرور داخل في المضاف إليه معاقب للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال” هذا الذي يعتمد عليه الاس في امتناع الأفعال من الخفض. وكل علة تذكر بد هذا في امتناع الأفعال من الخفض، فإنما هي شرح هذه العلة وإيضاحها أو مولّدة منها، وليس فيها زيادة معنى بوجه ولا سبب، لا في مذهب البصريين ولا الكوفيين، وإنما اشرح لك قول سيبويه أولاً، ثم أعود لذكر باقي العلل إن شاء الله.

 

أما قوله: ليس في الأفعال المضارعة جر، فالمضارعة عنده هي الأفعال المستقبَلة التي في أوائلها الزوائد الأربع؛ الهمزة والياء والنون والتاء، كقولك: أقوم ويقوم ونقوم وتقوم والمضارعة المشابهة، وإنما سمَّاها مضارعة، لأنها ضارعت الأسماء التي أشبهتها، ولذلك أعربها. وإنما قال: وليس في الأفعال المضارعة جر فقصدها دون سائر الأفعال؛ لأن كل فعل سوى المضارع عنده مبني غير معرّب، وإنما كان في ذكر الجر، والجر إعراب، ولما كان إعراباً وكانت الأفعال سوى المضارعة مبنية غير مستحقة للإعراب، للعلل التيل قد ذكرتها لك فيما مضى من هذا الكتاب، سقط السؤال عنها، السؤال لِمَ لم تخفض؟ وبقي السؤال عن الفعل المضارع الذي هو معرب. فكأنه أجاب من سأله فقال له: إذا كان الفعل المضارع عندك معرباً، فلِم امتنع من الخفض؟ فقال: لأن المجرور داخل في المضاف إليه، معاقب للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال. واختصر الجواب كما ترى.

 

وشرحه أن المجرور مضاف إليه، واقع موقع التنوين، لأنه زيادة في الاسم يقع آخراً، والأفعال لا يضاف إليها فامتنعت من الخفض لذلك. وتقريب هذا أن يقال: لِمَ تخفض الأفعال، لأن الخفض لا يكون إلا بالإضافة والإضافة إلى الأفعال مستحيلة فامتنعت من الخفض لذلك.

 

سؤال على أصحاب سيبويه. يقال لهم: فإذا كان اعتماد صاحبكم، كمخا زعمتم عنه في امتناع الأفعال من الخفض، هو لأن الإضافة إليها غير سائغة، وأن الخفض لا يكون إلا بالإضافة، فما دليلكم على أن الإضافة إلى الأفعال غير سائغة؟

الجواب: الدليل على أن الإضافة إلى الأفعال غير سائغة هو أن الإضافة في الكلام على ثلاثة أوجه؛ إضافة الشيء إلى مالكه، كقولك: هذه دار زيد وهذا ثوب عبد الله، وإضافة الشيء إلى مستحقه أو الموصل إليه، كقولك: الحمد لله، أي هو مستحقه، والشكر لزيد، ومررت بعبد الله، لأن الباء أوصلت مرورك إلى عبد الله، كما أوصلت اللام الشكر إلى زيد، وكذلك سائر حروف الجر إنما هي صلات للأفعال إلى مفعوليها. وإضافة الشيء إلى جنسه، كقولك: هذا ثوب خز، وخاتم حديد، وباب ساج. وما أشبه ذلك. فلما كانت الأفعال لا تملك، لأنها ليست واقعة على مسمَّيات تستحق الملك، لأنها إنما هي عبارة عن حركات الفاعلين في زمان ماض منقض أو حاضر أو منتظَر، لم تكن إضافة الشيء إليها إضافة ملك. ألا ترى أن قولك: هذا غلام ضرب، أو صاحب يقوم وما أشبه ذلك، وأنت تريد به أن الفعل مستحق (له، لا معنى له) فلم تمكن الإضافة إليها من هذا الوجه، كما أنها لا تملك شيئاً كذلك أيضاً لا تستحقه، لأنه لو جاز أن تستحق جاز أن تملك، فلما لم تستقر على شيء بعينه لم يتميز استحقاقها المستحق. ألا ترى أن كل فعل دال على حدَث ومحدِثه وزمان ومكان، لأنه قد علم أن فاعلاً ومفعولاً لا يكونان إلا في مكان. كقولك: قام زيد: فقد دل ذلك القيام على فاعله وعلى الزمان الماضي، وعلمت أنه لا بد لزيد من مكان فيه فعل القيام، وإن لم يكن في لفظ الفعل دليل. فإن كان الفعل مع ذلك متعدياً إلى مفعول أو مفعولين أو ثلاثة، دل على ذلك أجمع. وفيه أيضاً دليل على حال كان فيها الفاعل والمفعول. فإذا كان الفعل واقعاً على هذه الأشياء كلها، ثم أضيف إليه مستحق أو ما يحق له ملكه، لم يدر بأي شيء من هذه الأشياء يتصل، فلم تجز الإضافة إليه من هذين الوجهين.

 

وكذلك إيصال الفعل بحرف الخفض إلى مفعوله، كقولك: مررت بزيد، وركبت إلى عبد الله، غير جائز مثله في الأفعال، لأن هذه المخفوضات مفعولات في الحقيقة كما ترى، والفعل لا يكون مفعولاً وذلك محال، ولو جاز أن يكون مفعولاً لكان اسماً لأنه قد مضى القول بأن كل شيء وقع في حيّز الفاعل أو المفعول فهو اسم، في أول الكتاب بما فيه غني عن الإعادة.

 

جواب في امتناع الأفعال من الإضافة إليها. قال أبو الحسن سعيد ابن مسعدة الأخفش: لم يدخل الأفعال جر، لأنها أدلة، وليست الأدلة بالشيء الذي تدل عليه. وأما زيد وعمرو وأشباه ذلك، فهو الشيء بعينه، وإنما يضاف إلى الشيء بعينه لا إلى ما يدل عليه، وليس يكون جر في شيء من الكلام إلا بالإضافة.

 

تلخيص قول الأخفش هذا وشرحه:

أما قوله: ليس الجر في الأفعال لأنها أدلة، فهو كما ذكرناه أولاً من أن الأفعال عبارة عن حركات الفاعلين، فهي أدلة على فاعليتها، وفي حروفها دليل على الحدث، وفي أبنيتها دليل على الزمان، وفي المتعدي منها دليل على المفعول. وأما قوله: وليست الأدلة بالشيء الذي تدل عليه، فكلام غير مشكل ولا محتاج إلى تفسير، لأن كل ذي عقل يعلم (أن) الدليل على الشيء غيره. وأما قوله: وأما زيد وعمرو وأشباه ذلك فهو الشيء بعينه، فكلام ملبس مشكل خارج مخرج المُلغَز من الكلام، لأنه لا اتصال له بما ذكره، وأي اتصال بين قوله: وليس الأدلة بالشيء الذي تدل عليه، وبين قوله: وأما زيد وعمرو وأشباه ذلك فهو الشيء بعينه؟ وإنما غرضه أن يخبر أن الإضافة إلى الفعل غير ممكنة لأنه دليل على الفاعل والمفعول والحدث، والإضافة إنما تكون إلى الفاعل أو المفعول أو الحدث، ولا تجوز الإضافة إلى ما دل على هذه الأشياء وهو الفعل، لأن الدليل على الشيء غيره، ولا تجوم الإضافة إلى الدليل والمراد به المدلول عليه.

 

وأما قوله: وليس جر في شيء من الكلام إلا بالإضافة فهو قول سيبويه الذي قدمته لك أولاً وذكرت لك أن كل علة يحتج بها في امتناع الفعل من الخفض راجعة إليه موضحة له.

 

جواب ثالث في امتناع الأفعال من الإضافة إليها أو خفضها. وهو للأخفش أيضاً. قال الأخفش: لا يدخل الأفعال الجر، لأنه لا يضاف إلى الفعل، والخفض لا يكون إلا بالإضافة. ولو أضيف إلى الفعل، والفعل لا يخلو من فاعل. وجب أن يقوم الفعل وفاعله مقام التنوين، لأن المضاف إليه يقوم مقام التنوين، وهو زيادة في المضاف كما أن التنوين زيادة، فلم يجز أن نقيم الفعل والفاعل مقام التنوين لأن الاسم لا يحتمل زيادتين، ولم يبلغ من قلة التنوين وهو واحد أن يقوما مقامه، كما لا يحتمل الاسم الألف واللام مع التنوين وهذه علة جيدة.

 

سؤال على المعتمدين على هذا الجواب.

يقال لهم: فإذا كان اعتلالكم في امتناع الأفعال من الإضافة إليها، هو أنه لم يمكن أن يقول الفعل والفاعل مقام التنوين لأن المضاف إليه واقع مقام التنوين لم يجز أن يقوم اثنان مقام التنوين، كما لم يحتمل الاسم الألف واللام مع التنوين فإن هذا يفسد عليكم باجتماع الألف واللام ونون الاثنين والجميع، والألف واللام زائدان والنون زائدة ومؤدية معنى التنوين، فقد جمعتم بين زيادتين فررتم من اجتماع مثلهما، وجعلتموه الدليل على امتناع الأفعال من الإضافة إليها، فقد بطل ما ذهبتهم إليه من ذلك، وبان فساده.

 

الجواب في ذلك أن يقال: إنما كرهنا الجمع بين زيادتين تجريان مجرى واحداً في تمكين الاسم، وهما الألف واللام والتنوين، وذلك أن الألف واللام يمكنان الاسم فهما دليل تمكنه. وكذلك التنوين دليل تمكن الاسم. ألا ترى أن ما لا يتمكن لا يدخله التنوين، وما دخلته الألف واللام تمكن، والنون ليست كذلك، لأنها ليست دليل تمكّن، فجاز الجمع بينهما لذلك ولم يجز الجمع بين التنوين والألف واللام، لأن في كل منهما كفاية عن صاحبه في التمكن.

 

جواب آخر: وهو أن النون عوض من حركة تنوين، وكان حكمهما جميعاً أن يثبتا في كل حال، فحذف التنوين في الواحد لئلا يشبه النون الأصلية، فلما صار إلى التثنية والجمع ورجع إلى أصله فثبت لأنه لا يلتبس بشيء.

 

المصدر: الإيضاح في علل النحو