كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

‌‌من مناظرات الطور الثاني

طور النشوء والنمو

إن مناظرات الطور الثاني على كثرتها كان قطب رحاها في الكوفيين الكسائي؛ إذ كان دريئتهم وحامي حقيقتهم فنازل الأصمعي وسيبويه واليزيدي وغيرهم ولنقتصر في هذا الطور على ثلاث منها.

بين الكسائي والأصمعي:

روى الزجاجي في أماليه: “وكان الكسائي والأصمعي بحضرة الرشيد، وكانا ملازمَيْن له يقيمان بإقامته ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي:

أنَّى جَزَوا عامرا سُوءَيْ بفعلهم … أم كيف يُجْزُونَنِي السُّوءَي من الحَسَن

أم كيف ينفع ما تعطي العلوقُ به … رئمان أنفِ إذا ما ضَنّ باللبن

فقال الأصمعي: إنما هو رئمان أنفَ بالنصب، فقال له الكسائي: اسكت ما أنت وذاك؟ يجوز بالرفع والنصب والخفض، أما الرفع فعلى الرد على “ما”؛ لأنها في موضع رفع بينفع فيصير التقدير: أم كيف ينفع رئمان أنفُ، والنصب بتعطي والخفض على الرد على الهاء في به، وقال: فسكت الأصمعي”[1].

“أي ترفع بدلا من “ما” وتنصب مفعولا لتعطي وتجر بدلا من الهاء في به”.

بين الكسائي وسيبويه:

طمحت نفس سيبويه إلى الشخوص إلى بغداد أملا في الحظوة عند الخلفاء والأمراء، فارتحل إليها وما يدري ما خبأه الغيب له، فرب ساع لحتفه، وحق ما قاله خليفة بن براز الجاهلي:

والمرء قد يرجو الرجا … ء مؤملا والموت دونه[2]

ونزل ضيفا عند يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، فاعتزم يحيى الجمع بينه وبين الكسائي بعد أن عرف الرشيد جلية الأمر وعين لذلك يوما في دار الرشيد، فحضر سيبويه أولا وتلاقى مع الفراء والأحمر تلميذي الكسائي فسألاه وخطاه في الإجابة وأغلظا له في القول، ويطول بنا الكلام ونخرج عن المقصود لو عرضان لهذه الأسئلة وما أجيب به عنها وكل ذلك معروف في كتب النحو المبسوطة، فقال لهما: لست أكلمكما حتى يحضر صاحبكما، يعني شيخهما الكسائي، جاء الكسائي وغصت الدار بالحضور على مشهد من يحيى وابنه جعفر ثم بدأ الكسائي الحديث وقال لسيبويه: تسألني أو أسالك؟ فقال سيبويه: سل أنت، فقال له: “هل يقال كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو يقال مع ذلك فإذا هو إياها؟ ” فقال سيبويه: “فإذا هو هي” ولا يجوز النصب، فسأله عن أمثال ذلك نحو: “خرجت فإذا عبد الله القائم أو القائم”، فقال كله بالرفع، فقال الكسائي: “العرب ترفع ذلك وتنصبه”، واحتدم الخلاف بينهما طويلا، فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيس بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي هؤلاء العرب ببابك وفدت عليك من كل صقع[3] وقد قنع بهم أهل المصرين، يحضرون ويسألون، فقال يحيى قد أنصفت، واستدعاهم فتابعوا الكسائي فأقبل الكسائي على سيبويه وقال له: قد سمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه عند ذلك وانقبض خاطره، فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قدم إليك راغبا فإن أردت أن لا ترده خائبا، فرق له يحيى وجبر كسره، فخرج من بغداد وتوجه تلقاء فارس يتوارى من الناس من سوء ما لحقه، ولم يقدر أن يعود إلى البصرة، وقد كان إمامها غير منازع، فمات غما بفارس في ريعان شبابه، وقال قرب احتضاره متمثلا:

يؤمل دنيا ليبقى بها … فمات المؤمل قبل الأمل

حثيثا[4] يروي أصول النخيل … فعاش الفسيل ومات الرجل

وقد رويت هذه المناظرة على صور مختلفة، ويرى جمهرة العلماء أن إصبع السياسة لعبت دورا كبيرا في هذه الحادثة الخطيرة، لأنها حكم بين البلدين لا بين الرجلين، وما وافقت العرب الكسائي إلا لعلمهم أنه ذو حظوة عند الرشيد وحاشيته، وهم على يقين من أن الحق مع سيبويه، على أنه روي أنهم قالوا: القول قول الكسائي بإيعاز رجال الدولة ولم ينطقوا بالنصب إذ لا تطاوعهم ألسنتهم، ولذا طلب سيبويه أمرهم بالنطق بها لكنه لم يستمع له.

قال “الروداني”: “والذي لا ينبغي أن يشك فيه أن ذلك إذا ترك العربي وسليقته، أما لو أراد النطق بالخطأ أو بلغة غيره فلا يشك في أنه لا يعجز عن ذلك، وقد تكلمت العرب بلغة الحبش والفرس واللغة العبرانية وغيرها، وأبو الأسود عربي وقد حكى قول ابنته لأمير المؤمنين علي: ما أشد الحر بالرفع فقول سيبويه في قصته مع الكسائي في مسألة “كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي”: مرهم أن ينطقوا بذلك، لا بد من تأويله، كأن يقال المراد من لم يسمع مقالة الكسائي ولم يدر القصة أو نحو ذلك مما يقتضي نطقهم على سليقتهم الذي هو المعيار”[5].

وبعد: فإن الحق مع سيبويه، والقرآن الكريم أصدق شاهد له، يقول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ[6] وعلى نمط هذه الآية آي كثيرة، ولو ثبت النصب لكان خارجا عن القياس واستعمال الفصحاء، ولذا تمحل النحويون في تخريج هذا النصب على أوجه ثم تعقبوها، ذكر بعضها الرضي في شرح الكافية باب الظروف، وأفاض القول فيها الأعلم الشنتمري، ونقل كلامه المقري في نفح الطيب في فصل برأسه في الجزء الثاني عنوانه “المسألة الزنبورية” وأجاد التفصيل لها ابن هشام في المغني الباب الأول مبحث “إذا” فذكر خمسة مع التعقيب على كل وجه بما يفنده، وخلاصة هذه الأوجه: الأول: أن الظرف وهو “إذا” نصب الضمير لأن فيه معنى وجدت، والثاني: أن الضمير المنصوب استعير من مكان ضمير الرفع، والثالث: أن الضمير مفعول به والأصل: فإذا هو يساويها ثم حذف الفعل فانفصل الضمير، والرابع: أن الضمير مفعول مطلق والأصل: فإذا هو يلسع لسعتها ثم حذف الفعل والمضاف، والخامس: أن الضمير منصوب على الحال من الضمير في الخبر المحذوف والأصل: فإذا هو ثابت مثلها ثم حذف المضاف فانفصل الضمير، وقد جمع هذه الأوجه الخمسة مع الاختصار أحمد بن الحسن الجوهري المتوفى سنة ١١٨٢هـ في هذا النظم:

وفي ضمير النصب تاليا إذا … تعدد التوجيه فادر المأخذا

مفعولها أو نائب المرفوع … أو نصبه بفعله المقطوع

أو أنه مفعول فعل مطلقا … أو معرب حالا أنيب فارتقى[7]

ولخطورة هذه المناظره نوهت عنها أغلب كتب الأدب والتراجم والتاريخ فقد ذكرت في أمالي الزجاجي كما ذكرت في ترجمة سيبويه في طبقات الزبيدي والفهرست ونزهة الألبا ووفيات الأعيان ومعجم الأدباء وأنباه الرواه غير أنها ذكرت مرة أخرى في معجم الأدباء ترجمة الكسائي وقد نوه عنها حازم الأنصاري القرطاجني في منظومته النحوية المشهورة معترفا لسيبويه في الأشباه والنظائر أول الفن السابع “فن المناظرات والمجالسات إلخ”.

ولئن ظفر الكسائي بسيبويه في هذه المناظرة ظلما لقد ثئر له منه على يد اليزيدي في المناظرة الآتية التي انحدر فيها الكسائي.

بين الكسائي واليزيدي:

قال العسكري: “اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فجرت بينهما مسائل كثيرة، فقال له اليزيدي: أتجيز هذين البيتين؟

ما رأينا خربا نـ … ـقر عنه البيض صقر

لا يكون العير مهرا … لا يكون، المهر مهر

فقال الكسائي: يجوز على الإقواء، وحقه لا يكون المهر مهرا، فقال له اليزيدي: فانظر جيدا، فنظر ثم أعاد القول، فقال اليزيدي: لا يكون المهر مهرا محال في الإعراب، والبيتان جيدان، وإنما ابتدأ فقال المهر مهر، وضرب بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمد، فقال له يحيى بن خالد: خطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتكتني [8] قدام أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ فقال إن حلاوة الظفر، وعز الغلبة أذهبا عني التحفظ”[9].

وينبغي للكسائي أن يعبر بالإصراف لا الإقواء اصطلاح العروضيين[10].

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة

 


[1] راجع أمالي الزجاجي والمناظرة مذكورة أيضا في أمالي ابن الشجري المجلس السادس، ومعجم الأدبا ترجمه الكسائي، والمغني الباب الأول حرف أم، وخزانة الأدب شاهد ٩٠٦، والعلوق: الناقة التي ترأم البو وهو جلد الحوار يحشى تبنا أو تماما ويقدم لها إيهاما أنه ولدها عند فقده ثم لا تدر اللبن، والرئمان: مصدر لرئم كسمع سماعي وأضافه إلى الأنف لأنه مظهر حنوها، والمعنى إني لأعجب من قومي كيف يعاملون بني عامر بن صعصعة بالشر في مقابلة الخير وأعجب من ذلك مكافأتهم لي وأنا أدافع عنهم، وماذا يجديني من وعودهم اللسانية مع انطوائهم على حرماني وما حالهم معي إلا كهذه الناقة التي تعطف على البو بأنفها على حين ينكره قلبها فلا ترسل درها، والبيتان من قصيدة لأفنون التغلبي شاعر جاهلي وهي من قصائد المفضليات، وبيت المناظرة من شواهد النحاة على أم، راجع شرح المفصل وشرح الرضي على الكافية والمغني.

“ومجمع الأمثال، والمثل: رئمت له بوضيم “١٥٤٩””.

[2] ثاني بيتين نسبهم القاسم بن سلام له في كتاب الأمثال راجع خزانة الأدب ٧٣٤.

[3] الصقع بالضم: الناحية.

[4] حثيثا: مسرعا والفسيل النخيل الصغير يقطع من أمه فيغرس. واحدته فسيلة.

[5] الصبان على الأشموني في الكلام على “ما” العاملة عمل ليس.

[6] سورة الشعراء، الآية: ٣٣.

[7] الأبيات في الإنبابي على الصبان، وترجمة الجوهري في الجبرتي.

[8] الاكتناء هنا قوله: أنا أبو محمد افتخارا وإعجابا.

[9] راجع كتاب التصحيف والتحريف ما وهم فيه الكسائي، وذكرت هذه المناظرة أيضا في معجم الأدباء ترجمة الكسائي، وفي الوفيات ترجمة اليزيدي، وفي شرح درة الغواص الوهم٣٥، والخرب: بفتحتين ذكر الحباري، ونقر نقب البيض لخروج الفرخ، والشطر الأول من البيت الثاني تمثيل للإيضاح، ولا “يكون” في أول الشطر الثاني تأكيد لفظي وما بعده تأكيد معنوي.

[10] فالإقواء: اختلاف حركة الروي المطلق بضم، وكسر، والإصراف: اختلاف حركة الروي المطلق بفتح وغيره وفي القاموس: وأصرف شعره أقوى فيه أو هو الإقواء بالنصب.

ترك تعليق