الموقع وعدد المتكلمين وتوزيع اللغات في الوقت الحاضر:
يوجد في العالم الآن نحو ثلاثة آلاف لغة متكلمة، بخلاف اللهجات، وكل لغة من هذه اللغات لها جمهورها الخاص من المتكلمين الذين يتفاهمون بها، ويتخذونها وسيلتهم العادية لاتصالاتهم الشفوية، وتعد كل لغة من هذه اللغات صاحبة السيادة في منطقتها الخاصة، ولا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار.


وهناك تفاوت كبير بين هذه اللغات، سواء في عدد المتكلمين أو في المساحات التي تسود فيها. فمعظم هذه الآلاف الثلاثة من اللغات يتكلم بها قلة قليلة من الناس يتراوحون ما بين بضع مئات إلى ما دون المليون، وتتراوح مناطق اللغات من قرية منعزلة إلى عدة مئات من الأميال المربعة.


أما عدد لغات العالم التي تملك جمهورا يبلغ المليون فصاعدا فلا تتجاوز المائة بكثير وحتى من بين هذه المائة التي تحتل مكان الصدارة من الناحية العددية يوجد تفاوت كبير؛ فهناك فقط 13 لغة يتكلم بها أكثر من50 مليون نسمة. وبين اللغات الثلاث عشر، وحتى بين المائة، تفاوت كبير في المساحات ومناطق التوزيع، فبعض هذه اللغات يمثل اللغة الرسمية في مساحات شاسعة من العالم، وبعض آخر منحصر في منطقة جد صغيرة. وبعضها يتكلم في مناطق غير متلاصقة، وبعضها الآخر يتركز في منطقة واحدة، وبعض اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية تتمتع بمعاملات عالية في مستوى الإنتاج والتجارة والنتاج العلمي والأدبي، وبعض آخر يستعمل بين جماعة من الناس يمكن أن توصف بالتخلف حيث يهبط فيها مستوى الإنتاج، ويقل حجم التجارة، وينعدم -أو يكاد- إنتاجها العلمي والعقلي، -هذه هي الحال مع معظم اللغات الهندية الأمريكية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع اللغات الوطنية في أستراليا. بعض هذه اللغات تستخدمها مجموعات بشرية ذات مكانة سياسية وعسكرية ممتازة “مثل الإنجليزية والروسية”، وبعضها يعاني في تفاهة مركزه السياسي والعسكري “مثل لغة هاواييني وبعض لغات نيوزلندة”، ولكن بعضا من لغات القسم الثاني تستعمل في مناطق ذات مركز سياسي واستراتيجي هام، على الرغم من ضآلة قيمة المتكلمين بها “مثل الفيتنامية، والسواحيلية في شرقي إفريقية”.


وإن الدراسة التفصيلية الموضوعية العلمية لكل هذه العوامل لتشكل المجال الحقيقي لعلم اللغة الجغرافي، وعلى ضوء ما هو معروف عن مجالات علم اللغة بفرعيه الرئيسيين الوصفي والتاريخي، وميادين بحث كل منهما، فإنه من غير المتوقع أن يتمكن أي من هذين الفرعين من معالجة الموضوعات السابقة على وجهها الأكمل، أو يدعي لنفسه المقدرة على فعل ذلك.

 

لغات المناطق وأهميتها النسبية:
بعض اللغات -لأسباب تاريخية سابقة- قد فرضت نفسها كلغات عامة للتفاهم في مناطق تتجاوز منطقتها الأساسية التي تعتبر فيها لغة وطنية، وربما أصبحت مكانتها كبيرة في تلك المناطق الجديدة، ومثال ذلك الألمانية في وسط أوربا، والفرنسية في الشمال الإفريقي والإنجليزية في الهند، وتتفاوت درجة أهمية تلك اللغات وفائدتها في أداء وظيفتها تفاوتًا كبيرا.


وفي القديم، كانت اليونانية واللاتينية تستعملان كلغات مناطق على طول حوض البحر المتوسط وغربي أوربا، وقد ثبتت اللغة اللاتينية في النهاية دعائمها كلغة متكلمة عامة في مناطق واسعة كان أصحابها يتكلمون في الأصل لغات أخرى. وفي العصور الوسطى كان استعمال اللاتينية لغة العلم والدين يشمل أوربا الغربية كلها، أما الآن فإن الإنجليزية تستعمل كلغة بديلة في مناطق واسعة مثل الهند وباكستان اللتين كانتا يومًا ما ضمن المستعمرات البريطانية، وكذلك اللغة الفرنسية التي تستعمل بطريقة مماثلة في حوالي نصف إفريقية، كذلك فإن الروسية هي لغة التفاهم العامة في أقاليم الاتحاد السوفيتي في آسيا التي لا تعد الروسية لغتها الأساسية.


هذا الانتشار لبعض اللغات ليغطي -بصورة أو بأخرى- مناطق واسعة لم تكن تتكلمها من قبل يعطي أهمية لما سميناه بلغات المناطق
area languages. وفي بعض الحالات من الممكن التكهن -على أساس دراسة العوامل والظواهر الموجودة- أن لغة معينة سوف تتمكن في النهاية من فرض نفسها في منطقة معينة، وتحل محل لغات أخرى ما تزال مستعملة حتى الآن في هذه المناطق. وفي حالات أخرى من الممكن التنبؤ -على نفس الأساس- بأن لغة منطقة معينة سوف تتقهقر، وفي النهاية تختفي من أجزاء معينة في المنطقة المستعملة فيها الآن، وعلى هذا فإن السواحيلية من الممكن أن تحل محل الإنجليزية في شرقي إفريقية، وإن الهولاندية آخذة في الاختفاء بالفعل من إندونيسيا.


ولكن هذه التقديرات اللغوية للاحتمالات المستقبلة، مع تطبيقاتها الواسعة المدى تحتاج إلى دراسة متخصصة ولا شك.

 

المصدر: أسس علم اللغة

ترك تعليق