طور الوضع والتكوين بصري

كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

طور الوضع والتكوين “بصري”

‌‌أطوار النحو الأربعة

أطوار النحو الأربعة:

وعلى ضوء هذا التاريخ قد اعتبرنا أطواره أربعة:

طور الوضع والتكوين “بصري”، طور النشوء والنمو “بصري، كوفي”، طور النضوج والكمال “بصري، كوفي”، طور الترجيح والبسط في التصنيف “بغدادي وأندلسي ومصري وشامي”.

على أنه ليس في الاستطاعة وضع حد توقيتي ينفصل به كل طور عما يسبقه أو يعقبه، فإن الأطوار لا بد من تداخلها، وسريان بعض أحكام سابقها على لاحقها، كما أنه لا مناص من تسرب شيء مما في تاليها على بادئها، فغير ممكن أن يوجد الطور دفعيا وإنما تلده المؤثرات التي تسبقه وتمهد له، وهي بالطبع في غيره، إلا أنها لما تكاثرت وتزايدت حتى بدا للعلم بمقتضاها طابع آخر غير الطابع السابق عليه استوجبت جعله في طور آخر جديد، ولا يكون ذلك التمييز الظاهر إلا بعد انقضاء زمن المداخلة بين الطورين وعلى هذا الأساس فإن تحديد هذه الأطوار إلى التقريب أقرب منه إلى التحقيق، وبدهي أن تحديدها بالأشخاص على ما سبق يعود إلى طبقاتهم التي يمثلونها، وستعرف هذه الطبقات مرتبة بحسب الزمن مع تراجم علمائها كلهم، وإننا سنكتفي في هذا التحديد بالأشخاص المبرزين المعلمين فقط للاختصار.

‌‌الأول: طور الوضع والتكوين “بصري”

هذا الطور من عصر واضع النحو أبي الأسود إلى أول عصر الخليل بن أحمد، وقد سلف أن وضعه انتهى في عصر بني أمية.

هذا هو الطور الذي استأثرت به البصرة صاحبة الفضل في وضعه وتعهده في نشأته، والكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار والنوادر زهاء[1] قرن، اشتغل فيه طبقتان من البصريين بعد أبي الأسود حتى تأصلت أصول منه كثيرة، وعرفت بعض أبوابه.

فإن الطبقة الأولى التي أخذت عن أبي الأسود استمرت في تثمير ما تلقته عنه ووفقت إلى استنباط كثير من أحكامه وقامت بقسط في نشره وإذاعته بين الناس وكان من أفذاذ هذه الطبقة عنبسة بن معدان الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني، ولم يدرك أحد من رجال هذه الطبقة الدولة العباسية.

ويغلب على الظن أن ما تكون من نحو هذه الطبقة -فضلا عن قلته- كان شبه الرواية للمسموع، فلم تنبت بينهم فكرة القياس، ولم ينهض ما حدث في عهدهم من أخطاء إلى إحداث ثغرة خلاف بينهم لقرب عهد القوم بسلامة السليقة، كذلك لم تقو حركة التصنيف بينهم فلم يؤثر عنهم إلا بعض نتف في مواطن متفرقة من الفن لم تبلغ حد الكتب المنظمة إذ كان جل اعتمادهم على حفظهم في صدروهم ورواياتهم بلسانهم، وزعم بعض المؤرخين أن أستاذها أبا الأسود قد وضع مختصرا على ما تقدم بيانه.

أما الطبقة الثانية التي كانت أكثر عددا من سابقتها فقد كانت أوفر منها حظا في هذا الشأن، إذ وطأت لها سبيله فازدادت المباحث لديها، وأضافت كثيرا من القواعد، ونشأت حركة النقاش بينها فجدت في تتبع النصوص واستخراج الضوابط ما هيأ لها وقتها، واستطاعت التصنيف فدونت فيه بعض كتب مفيدة.

وكان من المشار إليهم فيها عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي الذي يقول فيه أبو الطيب: “وكان يقال عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم ففرع النحو وقاسه”[2] وكان يخطئ الفرزدق كثيرا حتى هجاه، وستعرف تفصيل ذلك في ترجمته بمشيئة الله تعالى، “وعيسى بن عمر الثقفي صاحب الكتابين في النحو: الجامع والإكمال “ وقد نوه عن فضلهما الخليل بن أحمد بقوله:

ذهب النحو جميعا كله … غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع … فهما للناس شمس وقمر

وأبو عمرو بن العلاء صاحب التصانيف الكثيرة على ما ستعرف في ترجمته، ورجال هذه الطبقة أظلتهم الدولة العباسية جميعا خلا عبد الله بن أبي إسحاق الذي مات سنة ١١٧هـ[3].

لم ينقض هذا الطور حتى وفق العلماء إلى وضع طائفة كبيرة من أصوله بعثتهم إلى التزيد فيها، فاختمرت بينهم فكرة التعليل التي كان أول متجه لها ابن أبي إسحاق، كما أنه أول من نشط للقياس، وأعمل فكره فيه وخرج مسائل كثيرة عليه، ووافقه عليه عيسى بن عمر، وخالفهما بعض معاصريهما فانفسح ميدان القول في هذا العلم وأنس الناس به وتداولوه في كتبهم التي كانت تساير روح هذا العهد فقد كانت مزيجا من النحو والصرف واللغة والأدب وما إلى ذلك من علوم اللغة العربية لأن هذه الفروع كانت متداخلة آخذا بعضها بحجز بعض لقرب الوشيجة بينها في الغرض والمقصد، فكان الأديب حينذاك نحويا صرفيا لغويا، والنحوي أديبا لغويا صرفيا وهكذا، يحملنا على هذا ما روي لنا عنهم في نقاشهم ومحاوراتهم وإن لم تصلنا مؤلفاتهم التي طارت بها عواصف الأيام، ونالها ما نال أربابها من الزوال، وصدق المتنبي في قوله:

تتخلف الآثار عن أصحابها … حينا ويدركها الفناء فتتبع

نعم، أخذت هذه الفروع تمتاز بعضها من بعض في البحث والتدوين من أوائل الطور تدريجيا حتى اشتهر بعض العلماء بالنحو وأشير إلى آخر باللغة ودواليك.

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة


[1] زهاء قرن: قدره.

[2] مراتب النحويين/ ١٢.

[3] في النجوم الزاهرة: ذكر أن عبد الله بن أبي إسحاق صلى على صديقه حفص بن الوليد لما قتل سنة ١٢٨هـ وأنه أخذ النحو عن يحيى بن يعمر المتوفى سنة ١٢٩هـ فيبعد جدا أن يكون توفي سنة ١١٧هـ ويؤيد هذا أنه من رجال الطبقة الثانية ويحيى من الطبقة الأولى وقد جاء في بعض نسخ النجوم الزاهرة أنه توفي سنة ١٢٧ وفي بعضها أنه توفي سنة ١٢٩ ولعل هذا هو الصواب والله أعلم

ترك تعليق