الكتابة
إن الصورة المكتوبة للغة، التي كانت، ولا تزال، وستظل ذات أهمية ضخمة للجنس البشري في نقل المعاني من مكان إلى مكان عبر السنين “على الرغم من تضاؤل قيمتها نسبيا أما وسائل القرن العشرين المختلفة في تسجيل أصوات الكلام المنطوق” لتعد من وجهة نظر علم اللغة مفيدة ومضمرة في وقت واحد.


إنها مفيدة بمقدار ما أمدتنا به من مادة لتلك اللغات التي اختفت من عالم الوجود، وهي مضرة لأنها ليست دائما أمينة في إعطاء الصورة المنطوقة كما هي، بل ربما كانت خادعة ومضللة، وليس هناك مثال في هذا المقام أدل على التعبير عما نعنيه من طريقة الهجاء الحديثة للغة الإنجليزية التي تعطي صورة جزئية، وكثيرا ما تكون مضللة، لطريقة النطق اليوم.


وللكتابة طريقتان رئيسيتان: الطريقة التي تعبر عن الفكرة بصورة أو رمز وتسمى
Pictographicideographic أو logographic “وذلك مثل اللغة الصينية” حيث لا توجد أي رابطة بين الأصوات المنطوقة والرموز المكتوبة، لأن تلك الرموز تشير مباشرة إلى الصورة الذهنية[1]، أما الطريقة الثانية فتعرف بالطريقة الأبجدية المقطعية syllabic-alphabetic حيث تمثل الرموز المكتوبة أصوات اللغة المنطوقة. فكأن تلك الرموز يعد كل منها رمزا لرمز. “اللغة المتكلمة نفسها تعد سلسلة من الرموز التحكمية لصورة ذهنية[2]“.

وهذا رسم يبين طريقتي الكتابة الرئيسيتين:
والحقيقة القائلة: إن اللغة المتكلمة عرضة للتطور بسرعة في حين أن المكتوبة تميل إلى الجمود والتمسك بالتقاليد تفسد العلاقة الم ثالية بين الرموز الكتابية والأصوات المنطوقة، وهذا يعني أننا في دراستنا اللغوية -سواء كانت وصفية أو تاريخية- يجب أن نأخذ الحيطة في قبول اللغة المكتوبة -انخداعا بقيمتها الظاهرية- على أنها أشرف وأرقى من اللغة المنطوقة، إن الثقة في النصوص المكتوبة يجب أن تقرر دائما في حذر، وليس معنى هذا أنها يجب أن تستبعد أو تطرح جانبا من ميدان دراستنا، فهذا غير مقبول وبخاصة في الدراسة التاريخية، حيث لا يوجد لدينا من المادة الموثوق بها سوى هذه النصوص المكتوبة رغم نقصها، ولكن في مجال علم اللغة الوصفي أو التزامني، فإن وجود متكلمين باللغة على قيد الحياة، وسهولة تسجيل كلامهم قد قلل من الاعتماد على النصوص المكتوبة.


ولكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار في الصيغة المكتوبة للغة -وخصوصا إذا كانت اللغة واسعة الانتشار- تقوم بدور هام في تعطيل تيار التغير الذي يلحق لغة الكلام بسرعة إن لغة الكلام إذا تركت وشأنها تكون عرضة لتغيرات طبيعية فطرية تبعدها عن المركز تعبر عن نفسها بسرعة خلال الزمن وتظهر في شكل لهجات عبر الزمان[3].

 

وكلا العاملين “التطور الفطري والانقسام إلى لهجات” يعوق تحقق الغاية العملية للغات وهي الاتصال وإن الصيغة المكتوبة بفرضها مستوى معينًا من الصواب -مهما كان تعسفيًا- تعطل حركة هذين العاملين وتعوق فعاليتهما، إنها تحرك قوى مركزية جاذبة -ولو صناعية- تعادل القوى المركزية الطاردة الموجودة في اللغة.

 

اللغة المكتوبة إذن تساعد على تحسين وسائل الاتصال -حتى في مجالات التفاهم الشفوي- بين أعضاء الجماعة اللغوية الواحدة “إن فائدتها -على الأقل- تتمثل في إضفاء روح اللغة الأدبية المشتركة -التي تتمتع باهتمام الدارسين- على اللغة المتكلمة ليسهل التفاهم بها، وإلا فإنه من المشكوك فيه أن يتمكن رجلان فرنسيان أحدهما من الشمال والآخر من الجنوب من أن يتفاهما بسهولة وفي الصين حيث نعد لغتها المكتوبة معقدة، تتقطع الصلة بينها وبين لغة الكلام بشكل عاق تفاهم الصينيين من ذوي اللهجات المختلفة بعضهم مع بعض.


وإنه من المحتمل -في المستقبل القريب- أن يزيد نفوذ الاتجاه المحافظ المعياري الذي تمثله الصورة المكتوبة للغة، والذي أخذ في الظهور منذ عهد قريب عن طريق الوسائل الفعالة المنتشرة للاتصال الشفوي، مثل أجهزة الراديو والتليفزيون والأفلام الناطقة، ولهذا فإنه في معظم البلاد المتحضرة قد ظهرت للغة الكلام صورة أدبية إلى حد ما، أو هي في طريق الظهور.

المصدر: أسس علم اللغة


[1] في اللغة الصينية، الكلمة المنطوقة لتدل على الفرس، نعبر عنها كتابيا برمز كان أصلا صورة حقيقية الفرس، وهذا يسمى pictogram والكلمة التي تدل على الشرق يعبر عنها كتابيا بواسطة صورة الشمس تشرق فوق شجرة، وهذا يسمى ideogram.

[2] في نظام الكتاب للغة الأمهرية الحبشية يمثل كل رمز تركيبا مقطعيا يتكون عادة من ساكن + علة “مثل با، بي، بو” وهذا يعرف باسم الكتابة المقطعية syllabic script أما النظام الأبجدي العادي، فكل رمز فيه يمثل صوتا متكلما مفردا “في الإنجليزية مثل ba=a+b وso=o+s“.

[3] اللغة اللاتينية التي كانت تتكلم أصلا في “روما” والأماكن المتاخمة لها تغيرت على أرض وطنها وتحولت أخيرا إلى لهجة روما الحديثة الإيطالية. وكذلك بعد انتشارها في معظم أجزاء الجنوب الغربي الأوربي انقسمت إلى الغالية والأيبيرية وغير ذلك من لهجات لاتينية عامية، هذه اللهجات تطورت فيما بعد وصارت لغات فرنسية وإسبانية وبرتغالية … إلخ وهذه بدورها انقسمت إلى لهجات مختلفة، وإن إنجليزية القرن السابع عشر بلهجاتها المتعددة لم تتطور فقط إلى لهجات القرن العشرين المختلفة على أرضها وحدها، وإنما أفسحت الطريق كذلك لأشكال من الإنجليزية الأمريكية انقسمت بدورها إلى لهجات إقليمية.

ترك تعليق