المؤلف: عبد القادر محمد منصور


وما دمنا قد عرفنا أنّ الرّسم جاء موافقا لقواعد الكتابة الوضعية ثم خالفها في كثير من المناحي، والأشكال، فلنا أن نفتّش عن أسرار هذا التخالف، فإن ظهرت كلها أو بعضها، وقفنا وقفة إجلال وإكبار لأولئك الرّعيل الأوّل، على ما رسموه من قواعد تنتظم وظائف جليلة في صالح القرآن الكريم.


ومن ثمّ يتجلّى لنا، وبكل وضوح، عبقرية الاختزال في الرّسم، وكأنّه في عصر التقانة، والحواسيب، إذ بقيت صامدة طيلة ألف وأربعمائة عام دون أن تطالها الأيدي- تعديلا أو تبديلا.


وحسبنا أن نقرّ ونعترف أنّه وحي الإله الحكيم البديع!!.


قد تولى بنفسه حفظه، فهيّأ أسبابه.

 

 

المزيّة الأولى الدلالة على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة قدر الإمكان ولم تكتب الكلمة بشكلها هكذا إلّا بعد ملاحظة ومتابعة دقيقة إذا كان فيها أكثر من قراءة، فإن وجد فيها أكثر من قراءة بحث عن صورة تخالف الأصل، لكنّها تحتمل القراءة الأخرى، حتى يعلم جواز القراءة بها، وبالحرف الذي هو الأصل، أمّا إذا توحّدت القراءة بها، رسمت بحرف الأصل.

 

مثال هذه المزيّة
قال الله تعالى ﴿ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ﴾ طه/ 63/.


فقد رسمت هكذا في المصحف العثماني، بدون نقط، ولا شكل ولا تشديد، ولا تخفيف في نوني (إن) و (هذان).


ومن غير ألف، ولا ياء بعد (الذال) من (هذان).
لماذا هذا؟.
أما من وظيفة لذاك؟!.


أجل. لقد حوى شكل هذا الرّسم أربعة وجوه من القراءة، كلها جاءت بأسانيد صحيحة.
الأول: (إنّ هذان). وهي قراءة نافع ومن معه.
الثاني: (إن هذانّ). وهي قراءة ابن كثير وحده.
الثالث: (إن هذان). وهي قراءة حفص.

 

الرابع: (إنّ هذين). وهي قراءة أبي عمرو.

 


ويتضح لنا أن طريقة الرسم هنا كانت في غاية الدقة والإتقان، فقد اختزل أربعة وجوه من القراءة، عن طريق مخالفة الأصل، وتعرية الجملة من النقط والتشكيل والتشديد!!.

 


وبهذا الضبط، وبهذه الدراسة، يتجلّى لنا،- وبلا أدنى شك- أنّ سلفنا الصالح كانوا أبعد نظرا، وأهدى سبيلا، ولا يستحقون منا إلا الاحترام والتقدير.

 

المزيّة الثانية إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة، لكنّها تظهر جليا على المتفكر الواعي، وتختفي عن الغافل الساهي.

 

 

ومثال على ذلك:
قوله تعالى ﴿ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ النساء/ 109/ ﴿ وأَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الملك/ 22/.

 


فقد قطعت (أم) عن (من) في الآية الأولى، ووصلت في الثانية، فكتبت هكذا (أمّن) بإدغام الميم الأولى في الثانية، وكتابتهما (ميما واحدة) مشدّدة.

 

 

لماذا هكذا؟ ألهذا وظيفة اعتبارية؟.


أجل. وهي معنوية هنا، بمعنى أنّها أفادت دلالتين منبثقتين من كلمة واحدة.


فقطع (أم) الأولى في الكتابة، للدلالة على أنها (أم) المنقطعة، التي بمعنى (بل).


ووصل (أم) الثانية في الكتابة، للدلالة على أنها ليست كتلك.


هذا مثال في كلمة واحدة، وقد كتبت مرة بشكل، وأخرى بشكل مخالف.

 

 

المزيّة الثالثة الدلالة على معنى خفيّ دقيق، لا يثقفه إلّا الفطنون، الباحثون.


وأمثلة هذه كثيرة، أقتصر هنا على اثنين منها فقط:


الأول: قوله تعالى ﴿ وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ﴾ الذاريات/ 47/ لقد كتبت الكلمة الأخيرة هكذا (بأييد) بزيادة (ياء) بين الهمزة والياء.


فماذا حملت لنا الزيادة هنا؟ أهي ذات معنى، أم أنّها زيدت اعتباطا؟

 

كلّا. لقد رشحت الزيادة هذه بملحظ عقيدي، قلّما يفطن إليه القارءون.


والملحظ العقيدي هنا، هو الدلالة على تعظيم قوّة الله، التي بنى بها السماء، وأنها لا تشبهها قوّة في الوجود.


ويمكن أن يستأنس لهذه المزية بقاعدة مشهورة:


(زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى).


قوله تعالى ﴿ لأذبحنّه ﴾ النمل/ 21/.


لقد كتبت فذّة في المصحف، وبمخالفة في الزيادة، والزيادة هنا، (ألف) بين الذال، والألف المتصلة باللام.


وكثر الجدل هنا بين المفسرين. فمنهم من التزم السكوت، فتوقف ومنهم أرجعها إلى قلة جودة الخط عند العرب، واعتبرها خطأ ومنهم من أمعن الفكر، فانتهى إلى وظيفة خفية، لكنّها ظهرت له.


وهي: التنبيه على أنّ الذّبح لم يقع، فحملت الزيادة إشارة، ربّما يجد سائلها ذلك أولا؟
إلّا أنّها أثبتت، لتجيب على سؤال- لو وقع.


ويمكننا أن ندرج تحت هذه المزية آيات أخريات قد حذفت منها (الواو) وكان حذفها مخالفا للأصل:

1- ويدعو الإنسان

2- ويمحو الله الباطل

3- يوم يدعو الداع

4- سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ.

 

فقد كتبت جميعها في المصحف العثماني بالشكل الآتي:

1- ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسانُ ﴾ [الإسراء: 11]

2- ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ ﴾ [الشورى: 24]

3- ﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ﴾ [القمر: 6]

4- ﴿ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ﴾ [العلق: 18].

 

وتحليل الحذف هنا:

أن السرّ في حذف الواو من (يدع) الأولى:

للدلالة على أنّ هذا الدعاء سهل على الإنسان، يسارع فيه كما يسارع إلى الخير!! بل إثبات الشرّ إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير.


والسرّ في حذفها من (يمح): الإشارة إلى سرعة ذهاب الباطل واضمحلاله.


والسرّ في حذفها من (يدع) الثانية:
الإشارة إلى سرعة الدعاء، وسرعة إجابة الداعين.


والسرّ في حذفها من (سندع): الإشارة إلى سرعة الفعل، وإجابة الزبانية، وقوّة البطش.


ويمكن أن نخضع استجلاء الأسرار السالفة الأربعة إلى قاعدة الحذف مقابل السرعة، فهذه الحذوفات تومئ إلى سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدّة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود.

 

المزيّة الرابعة وهي مزية لغوية تشي بالدلالة على أصل الحركة – نظرا لأن المصحف كتب من غير نقط ولا شكل.

 

مثال هذه المزية:

قوله تعالى: ﴿ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ﴾ لقد كتبت هكذا.


وإيتاى ذى القربى إذ كتبت (الياء) هنا لتدلّ على الكسر في الحرف.


– قوله تعالى: ﴿ سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ﴾ لقد كتبت هكذا.


سأوريكم دار الفاسقين إذ كتبت الواو هنا لتدل على الضم في الحرف.

 

المزيّة الخامسة وهي لغويّة صرفية، تشي بالدلالة على أصل الحرف، وأن هناك انقلابا صرفيا في الكلمة.

 

مثال هذه المزية:

قوله تعالى الصَّلاةَ*. الزَّكاةَ*. فقد كتبتا (الصلاة. الزكوة). ليفهم من هذا أنّ الألف هنا منقلبة عن (واو).

 

المزيّة السادسة الإشارة إلى بعض اللغات الفصيحة في العربية، لأنّ القرآن عربي ففيه ما يشير إلى سائر اللغات الفصيحة عند العرب.

 

مثالها:

رسم هاء التأنيث تاء مفتوحة، كما في كلمة (رحمة) فقد كتبت بالتاء المفتوحة في عدد من السور- منها البقرة والأعراف- هكذا رَحْمَتَ*.


وذلك للدلالة على لغة فصيحة، وهي لغة (طيء).


وحذف الياء من قوله تعالى ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِه ﴾ِ. فقد كتبت (يأتي) بحذف الياء (يأت). وذلك للدلالة على لغة (هذيل).

 

 

المزيّة السابعة وهي التوثيق من ألفاظ القرآن، وطريقة أدائه وحسن ترتيله، وهذا كله لن يعرف من طريق المصحف، وإنّما بالتلقي والأخذ عن الحافظ الثقة.

 

ومثال هذا:

حروف أوائل السور، لن تلفظ صحيحة إلّا بالمشافهة ولهذا كتبت بشكل واحد، وتنوّعت تلاوتها [1].

 

المزيّة الثامنة وهي ذات الصلة بالإسناد، ليبقى القرآن مأخوذا بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه تميّزت الأمّة المحمدية.


ومن أجل هذه المزيّة جاء الرسم بهذه الهيئة، معقّدة بنظر بادي الرأي.


أمّا الثاقفون النيّرون، فلسوف يندهشون بأصول نهج الرسم العثماني البديع، وبالتالي يجلّون مؤسّسيه، وراسميه.

 

رضي الله عنهم جميعا

 

المصدر: موسوعة علوم القرآن


[1] ولمعرفتها يرجع إلى كتابي (الحروف النورانية في فواتح السور القرآنية).

ترك تعليق