‌‌التعريف بالحافظ الذهبي

 

المؤلف: ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى: ٨٠٤هـ)

هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، التميمي، مولاهم، التركماني الأصل، الفارقي، ثم الدمشقي الشافعي.

ولد في ثالث ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة.

ونشأ في بيئة وعصر كان لهما أثر كبير في تكوين شخصيته العلمية.

أما بيئته، فإنه شب وترعرع في أحضان أسرة لها حظ من العلم، واهتمام بتحصيله.

وأما عصره فإنه شهد نشاطاً علمياً واهتماماً بعلوم الشرع.

وكان رحمه الله شغوفاً بطلب العلم وتحصيله، فرحل إلى كثير من البلدان منها رحلته إلى البلاد المصرية وسماعه من كثير من علمائها، منهم: ابن دقيق العيد، والأبرقوهي، وأبو محمد الدمياطي، وأبو العباس ابن الظاهري. ورحل كذلك إلى بعلبك وحلب ونابلس والاسكندرية وحج عام ٦٩٨ هـ وسمع بمكة من التوزري وغيره، حتى بلغ عدد شيوخه ما يقرب من ألف شيخ وثلاثمائة شيخة، لكنه لم يتأثر بأحد منهم مثلما تأثر بشيخ الِإسلام ابن تيمية وأبي الحجاج المزّي وعلم الدين البرزالي رحمهم الله، فإنه رافقهم وتأثر بهم وبمعتقدهم، وكانوا جميعاً على عقيدة السلف.

يقول رحمه الله عن شيخه المزّي: “شيخنا الِإمام العالم الحبر الحافظ الأوحد محدث الشام” [1] ويقول أيضاً: “كان خاتمة الحفاظ وناقد الأسانيد والألفاظ وهو صاحب معضلاتنا، وموضح مشكلاتنا … ، وكان مأمون الصحبة، حسن المذاكرة، خَيِّر الطويَّة، محباً للآثار، معظماً لطريق السلف، جيد المعتقد” [2].

ويقول عن شيخه البرزالي: “وسمعت الكثير بقراءة الِإمام العالم الحافظ مفيد الآفاق، مؤرخ العصر علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف ابن الحافظ زكي الدين البرزالي” [3]، وقال أيضاً: “هو الذي حبب إلي طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال خطك يشبه خط المحدثين، فآثر قوله فيّ، وسمعت منه، وتخرجت به في أشياء” [4].

وكان الذهبي على غاية من الِإعجاب بالمعجم الذي جمعه البرزالي لشيوخه وقد نظم فيه شعراً يقول فيه:

إن رُمْت تفتيش الخزائن كلها
وظهور أجزاء بدت وعوالي 
ونعوت أشياخ الوجود وما رووا 
طالع أو اسمع معجم البرزالي[5] 

وأما شيخه شيخ الِإسلام ابن تيمية، فقد اشتهر الذهبي بصحبته والتأثر به، وتُكُلِّم فيه لأجل ذلك كما سيأتي، وكان معجباً به وبعلمه، وباقي صفاته وقد أكثر من مدحه في مواضع عدة من كتبه وأودعه في تذكرة الحفاظ[6].

وفيه يقول: “”الشيخ الِإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسِّر البارع، شيخ الِإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر … ، عنى بالحديث، ونسخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وخرّج وانتقى، وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه وفي علوم الِإسلام وعلم الكلام وغير ذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد الأفراد، والشجعان الكبار والكرماء الأجواد، أثنى عليه الموافق والمخالف وسارت بتصانيفه الركبان لعلها ثلاثمائة مجلد”.

وقد تتلمذ على الذهبي جم غفير، من أهمهم صلاح الدين الصفدي، والكتبي والحسيني وابن كثير، وتاج الدين السبكي.

وجميعهم قد أثنوا عليه كما سيأتي، إلا أن ابن السبكي أكثر من الوقيعة في شيخه في مواضع من كتبه، دفعه إلى ذلك سخطه على شيخه لمتابعته ابن تيمية، وعقيدته التي تخالف ما هو عليه.

يقول ابن السبكي: “واعلم أن هذه الرّفقة، أعني المزّي، والذهبي، والبرزالي، وكثيراً من أتباعهم، قد أضَرّ بهم أبو العباس ابن تيمية إضراراً بيّناً، وحمّلهم من عظائم الأمور أمراً ليس هيّناً، وجرّهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم، وأوقفهم في دكادك من نار، المرجوّ من الله أن يتجاوزها لهم، ولأصحابهم” [7].

وقد اعترف ابن السبكي بفضل الذهبي عليه كما سيأتي في ذكر ثنائه عليه، ويقول في موضع آخر، “وكنت أنا كثير الملازمة للذهبي، أمضي إليه في كل يوم مرتين، بكرة والعصر، وأما المزّي، فما كنت أمضي إليه غير مرتين في الأسبوع، وكان سبب ذلك: أن الذهبي كان كثير الملاطفة لي، والمحبّة في، بحيث يعرف من عرف حالي معه أنه لم يكن يحب أحداً كمحبّته فيّ، وكنت أنا شاباً، فيقع ذلك مني موقعاً عظيماً، وأما المزي، فكان رجلاً عبوساً مهيباً” [8].

أقول: ولم يرع السبكي لشيخه حرمة هذه المودّة، بل أكثر من الوقيعة فيه بعبارات كان ينبغي له الورع من إطلاقها على شيخه.

ولست هنا في مقام عرض أقواله، والرد عليها، فالأمر يطول، وقد كفيت مؤنة ذلك، وسأذكر بعضاً من كلامه، وأحيل على المواضع الأخرى، وأذكر بعضاً من كلام العلماء في الرد عليه، وأحيل على الباقي.

يقول السبكي في ترجمة شيخه: “وكان شيخنا -والحق أحق ما قيل، والصدق أولى ما آثره ذو السبيل- شديد الميل إلى آراء الحنابلة، كثير الإِزراء بأهل السنة، الذين إذا حضروا كان أبو الحسن الأشعري فيهم مقدّم القافلة، فلذلك لا ينصفهم في التراجم، ولا يصفهم بخير، إلا وقد رغم منه أنف الراغم، صنّف التاريخ الكبير، وما أحسنه لولا تعصّب فيه، وأكمله لولا نقص فيه، وأي نقص يعتريه” [9].

ويقول أيضاً: “فعند ذلك تقضي العجب من هذا الذهبي! وتعلم إلى ماذا يشير المسكين، فَوَيْحه، ثم ويحه” [10]، بل وصل الحال بالسبكي إلى أن قال مرة: “وإذا وصل إلى هذا الحد والعياذ بالله، فهو مطبوع على قلبه” [11]، إلى عبارات له أخر في شتات من كتبه [12].

وقد رد عليه بعض العلماء، منهم العز الكناني، فقال: “هو رجل قليل الأدب، عديم الِإنصاف، جاهل بأهل السنة ورتبهم، يدل على ذلك كلامه” [13].

وقال الشوكاني: “قد أكثر التشنيع عليه تلميذه السبكي، وذكر في مواضع من طبقاته للشافعية، ولم يأت بطائل، بل غاية ما قاله: أنه كان إذا ترجم الظاهرية والحنابلة أطال في تقريظهم، وإذا ترجم غيرهم من شافعي، أو حنفي لم يستوف ما يستحقه.

قال الشوكاني: وعندي أن هذا كما قال الأول:

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

فإن الرجل مليء حباً للحديث، وغلب عليه، فصار الناس عنده هم أهله، وأكثر محققيهم وأكابرهم هم من كان يطيل الثناء عليه، إلا من غلب عليه التقليد، وقطع عمره في اشتغال بما لا يفيد. ومن جملة ما قاله السبكي في صاحب الترجمة:

أنه كان إذا أخذ القلم غضب حتى لا يدري ما يقول، وهذا باطل؛ فمصنفاته تشهد بخلاف هذه المقالة، وغالبها الِإنصاف، والذب عن الأفاضل، وإذا جرى قلمه بالوقيعة في أحد، فإن لم يكن من معاصريه، فهو إنما روى ذلك عن غيره، وإن كان من معاصريه، فالغالب أنه لا يفعل ذلك إلا مع من يستحقه، وإن وقع ما يخالف ذلك نادراً، فهذا شأن البشر، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا المعصوم، والأهوية تختلف، والمقاصد تتباين، وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ” [14].


[1] تذكرة الحفاظ (٤/ ١٤٩٨).

[2] الدرر الكامنة (٥/ ٢٣٥ – ٢٣٦).

[3] شيوخ الذهبي الملحق بآخر كتابه تذكرة الحفاظ (٤/ ١٥٠١).

[4] الدرر الكامنة (٣/ ٣٢٣).

[5] المرجع السابق (ص ٣٢٢).

[6] (٤/ ١٤٩٦).

[7] طبقات الشافعية (١٠/ ٤٠٠).

[8] الموضع السابق (ص ٣٩٨).

[9] طبقات الشافعية (٩/ ١٠٣ – ١٠٤).

[10] الموضع السابق (٣/ ٣٥٢).

[11] الموضع السابق (٢/ ١٥).

[12] انظر مثلًا الموضع السابق (٢/ ١٣ و ١٤ و١٥ و ٢٢) و (٣/ ٢٩٩ و ٣٥٢ و ٣٥٣) و (٤/ ١٣٣ و ١٤٧)، ومعيد النعم ومبيد النقم له (ص ٧٤ و ٨٧)، وانظر الإِعلان بالتوبيخ للسخاوي (ص ١٠١).

[13] الِإعلان بالتوبيخ (ص ١٠١).

 

[14] البدر الطالع (٢/ ١١١ – ١١٢)، وانظر في الرد أيضاً، الِإعلان بالتوبيخ (ص١٣٥)، و: “الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإِسلام” (ص ٤٦٠ – ٤٦١).

اخترنا لكم