كتبه: أحمد مختار عمر


إن عدد الأصوات التي يمكن لجهاز النطق الإنساني أن ينتجها لم يمكن حصرها أو تقديرها على وجه الدقة حتى الآن، وهذا يرجع إلى أن أقل انحراف في المخرج point of articulation يمكن أن يعطي نتائج مختلفة تدركها الأجهزة الحساسة مثل السبكتروجراف أو مسجل تردد الموجات الصوتية، إن لم تدركها الأذن، وأيضًا فإن كثيرًا من الأصوات الإنسانية التي لا تعد أصواتًا كلامية في بعض اللغات تعد -بكل تأكيد- أصواتًا كلامية في بعضها الآخر.

 

 

وعلى سبيل المثال فإن الصوت الذي نحدثه حينما نريد إطفاء عود الكبريت، أو صوت التقبيل، أو صوت استدعاء فرس أو نحوها، كل أولئك يشكل جزءًا من معدات الأصوات الكلامية في لغات مثل اليابانية أو الهوتنتوتية Hottentot “في جنوب إفريقية” وقد درج اللغويون على تقسيم أصوات الكلام -في شيء من التحكم- إلى أصوات علة Vowels وأشباه العلة Semivowels وسواكن[1] Consonants في أقسام وأوصاف أخرى مثل: انفجاري plosive، واحتكاكي Fricative وجانبي Lateral وأنفي Nasal ومجهور Voiced ومهموس Unvoiced … إلخ “انظر المبحث رقم 18؛ علم الأصوات”.

 


وقد سبق تعريفنا لعلم الأصوات phonology بأنه دراسة أصوات اللغة، ولكن بعض اللغويين يطلقونه ويريدون به دراسة التغيرات والتحولات التي تحدث في أصوات اللغة نتيجة تطورها “ولكن هذه الدراسة للتغيرات التاريخية في الأصوات يمكن أن يطلق عليها كذلك اسم علم الأصوات التاريخي historical phonetics أو diachronic phonetics وهناك فريق ثالث يعتبر المصطلحين: phonology وphonetics مترادفين.

 


وإذا نحن قبلنا تعريف الفونولوجي phonology على أنه الدراسة التاريخية لأصوات اللغة فلأن علم الأصوات العام phonetics ينبغي أن يعرف على أنه العلم الذي يدرس ويحلل ويصنف الأصوات الكلامية من غير إشارة إلى تطورها التاريخي، وإنما فقط بالإشارة إلى كيفية إنتاجها وانتقالها واستقبالها، وعلم الأصوات العام بهذا المعنى الأخير فرع من فروع علم اللغة الوصفي، وله أقسام عدة “مثل علم الأصوات النطقي articulatory phonetics، والفزيائي أو الأكوستيكي أو السمعي[2] acoustic phonctics والتجريبي experimental phonctics وما بعد الإنتاجي[3] genemmic phonetics والإنتاجي[4] genetic phonctics والوظائفي physiological phonetics، وإن كان هناك نوعان فقط منها يمكن معالجتها هنا.

 


وإننا في مجال الإصلاح نختار هنا موقفا وسطا بين موقفين يقيد أحدهما الـphonology بالدراسة التاريخية للتغيرات الصوتية، والـ phonetics بوصف الأصوات عند نقطة معينة من الزمن، أما الآخر فيستعمل المصطلحين مترادفين مع إتباعهما بكلمة التاريخي أو الوصفي على حسب الحالة.


وإن الوحدة الأساسية أو المادة الخام لعلم الأصوات العام phonetics هي الصوت المفرد phone الذي يعرف بأنه أي صوت لغوي مفرد بسيط يمكن تسجيله بالآلات الحساسة في المعمل، وعلم الأصوات النطقي يقوم أساسًا على تحديد مخارج الأصوات وبيان الصفات الصوتية التي تشكل الصوت. إنه يعطينا وصفًا موضوعيا لهذه الأصوات وكيفية إنتاجها، ويصنفها تصنيفًا ضيقا أو واسعا “على سبيل المثال كيف ينتج الصوت p في Pit الإنجليزية، وكيف يختلف ذلك الصوت عن F في fit“، وهذا التصنيف قد تكلفت به الأبجدية الصوتية الدولية lnternationalphoneticAlphabet التي تشتمل -من الوجهة النظرية على الأقل- على التنوعات الأساسية الممكنة لأصوات الكلام، وتصنفها على حسب المخارج الصوتية المستعملة مع كل منها، والأوضاع التي تتعرض لها هذه المخارج.


ولكن هناك طريقا آخر لتصنيف الأصوات الخاصة بلغة ما، علاوة على التصنيف الموضوعي الميكانيكي للأصوات الكلامية لكل اللغات، وإن علم الأصوات الأكوستيكي يعالج أصوات الكلام كما تسقبلها أذن السامع، أما علم الفونيمات فهو علم حديث بالنسبة لعلم الأصوات العام، ووظيفته وصف أصوات لغة معنية وتصنيفها على أساس من إحساس المتكلمين باللغة، واعتبارهم عددًا من الأصوات صوتًا واحدا أو أصواتا متعددة منفصلة، “على سبيل المثال ماذا يجعل الرجل الإنجليزي يقبل p في pit وSpit وsip كصوت واحد على الرغم من اختلافها في السمع، وماذا يجعله يرفض تطابق الصوتين p في pit وf في fit?”، هنا يتدخل عامل المعنى، ودعنا الآن نفحص هذه الأمثلة المتقابلة في شيء من الدقة:

موضوعيا، ومن وجهة نظر علم الأصوات النطقي، الأصوات الثلاثة المسماة p في pit وspit وsip “الأخير كما ينطق عادة في أمريكا مع قفل نهائي للشفتين في عبارة مثل Take a sip” تعتبر أصوتا ثلاثة متميزة منفصلة يسمى كل منها فونا phone “على الرغم من أنها متقاربة جدا”، ولكن من الصعب أن تقنع الرجل الأمريكي العادي بذلك لسبب واحد، هو أنها جميعا تمثل على الورق بشكل واحد P. ولكن ما هو أهم من ذلك أن تلك الأصوات الثلاثة لا تقع أبدا بعضها في مكان البعض الآخر، وفوق كل هذا إن أيًا من هذه الأصوات الثلاثة لا يعار لموضع يؤدي فيه إلى معنى خاطئ، الصوت القوي نطقا p في pit الذي تتلوه نفخة هوائية مسموعة لا يقع إلا في أول كلمة، أو مع مجموعة نفسية، والصوت الرقيق غير المتلو بدفعة هوائية في Spit يقع باستمرار بعد s سواء كانت الـ S في أول الكلمة “وهو الغالب”، أو في موقع آخر، أما الصوت المكتوم في sip الذي لا تنفتح الشفتان من أجله، والذي لا يحدث معه مطلقا أن تنفتح الشفتان، فيقع عادة في آخر الكلمة أو مجموعة الكلمات، هذه الأصوات اللغوية الثلاثية -من وجهة نظر اللغة الإنجليزية- يقال إنها ذات توزيع تكاملي complementary distribution إنها تمثل ثلاثة تنوعات موضعية positional variants لما يعد في عرف المتكلم الإنجليزي ووعيه شيئًا واحد، إن الرجل الإنجليزي على الرغم من نطقه لها باستمرار لا يفطن للفرق بينها، ولكن -وهذا دليل قاطع- إذا حدث لأمر ما أن استعمل متكلم أحد الأصوات مكان الآخر “كما إذا كان المتكلم مريضا ونطق pit بقوة أقل من المعدل، وكان في الحقيقة ناطقا لـ P الموجودة في spit، أو كان قوي الانفعال ونطق spit مستعملا الـp القوية الموجودة في pit ” لا سوء فهم ينجم عن ذلك بخلاف ما إذا أحل صوت k مثلا محل وحد من هذه الأصوات الثلاثة.

 


معنى هذا أنه يوجد -في فهم الأمريكي المتكلم بالإنجليزية- p واحدة، أو كما يقال اصطلاحا “فونيم” واحد هو P بثلاثة أصواتا منفصلة، أو كما يقال في الاصطلاح ثلاثة “فونات”، ذات مواقع متنوعة. “الفونيم” إذن يمكن أن يعرف على أنه مجموعة أو تنوع أو ضرب يضم أصواتا وثيقة الصلة “فونات” ينظر إليها المتكلمون على أنها تمثل وحدة واحدة، بغض النظر عن تنوعاتها الموضعية.


ولكن الصورة قد تتغير تماما إذا نحن حاولنا أن نستعمل p الموجودة في Pit وفي spit بالتبادل في لغات أخرى مثل الصينية والهندية، هناك من الممكن أن يقع كل من الصوتين “الفونين” في موقع الآخر أو محيطه، وقد يتغير معنى الكلمة إذا وضع أحدهما موضع الآخر، وبناء على هذا يمكن أن يقال إن p في spit وpit يمثلان “بالإضافة إلى الصوت المكتوم في sip” فونيمًا واحدا في اللغة الإنجليزية وفونيمين في اللغة الصينية[5]. ومن وجهة نظر اللغة الإنجليزية الصوتان “أو الثلاثة” الداخلان تحت p يطلق عليها allophones “ومعناها الحر في أصوات أخرى، ومعناها الدقيق أصوات تقع في مواقع أخرى أو محيطات أخرى” أي أصوات ترتبط بالفونيم الأساسي الواحد.

 


ولنعكس الصورة؛ دعنا نمثل بالكمتين leave وlive اللتين تشتملان على صوتي علة متماثلين، ومع ذلك يعدان في الإنجليزية فونيمين مختلفين، إن سائر حروف الكلمتين متماثلة، واختلاف حرفي العلة في كلتا الكلمتين هو السبب في هذا الفرق الجوهري بينهما في المعنى، ولكن المتكلم بالإسبانية من ناحية أخرى قد يستعمل كلا الصوتين بالتبادل في كلمة مثل vivo “أعيش” دون أن يتغير المعنى، الصوت الأول من الممكن أن يقع في الإسبانية حين تلقى الكلمة بمهل وضغط على الحروف، والثاني حين تلقى الكلمة بسرعة وعدم اكتراث. وعليه فإن هذين الصورتين “أو الفونين” المختلفين موضوعيا يشكلان فونيمين مختلفين في الإنجليزية في حين أنهما في الإسبانية تنوعان “ليسا من التنوعات الموضعية وإنما التنوعات الحرة[6] free variants“.


موضوع علم الأصوات إذن هو أصوات اللغة المدركة “الفونات” التي هي حقائق عامة ويمكن قياسها بدقة بالآلات الميكانيكية. وموضوع علم الفونيمات هو الأصوات أو المجموعات الصوتية المتقاربة التي يدرك علاقتها شعور الجماعة التي تتكلم لغة معينة، والاختيار الموضوعي للفونيمات هو “المغايرة”، أو الاختلاف في المعنى الذي يظهر أو لا يظهر عندما يحل صوت محل آخر، مع بقاء سائر حروف الكلمة كما هي، استعمل الصوت p الموجود في pit في الكلمة Spit ستجد المعنى هو هو، ولكن استعمل k لتصير الكلمة Kit تجد المعنى قد تغير ولهذا فالتنوعان الصوتيان لـp يعدان في اللغة الإنجليزية فونيما واحدا، ولكن P وk يعدان فيها فونيمين مختلفين.

 

 

المصدر: أسس علم اللغة





[1] المصطلحان الأولان اختيار الدكتور بشر في كتابه: علم اللغة العام، القسم الثاني: الأصوات ص19، والثالث اختيار الدكتور السعران في كتابه: علم اللغة ص381، وقد شرحه بقوله: ما يتعلق بالصوت من حيث انتقال موجاته في الهواء إلى أذن السامع وأثره السمعي.

وانظر ماريوباي في كتابه: Glossary of Linguistic Terminology ص4، 5 حيث أتى بتفسيرين لهذا المصطلح “المترجم”.

[2] من آثار فوضى المصطلحات عدم اتفاق اللغويين العرب حتى الآن على مصطلحين محددين يقابلان المصطلحين consonant وقد استعملوا في مقابل الأول الكلمات “ولا أقول المصطلحات حيث لا اصطلاح” علة, لين, صائت, طليق، كما استعملوا في مقابل الثاني الكلمات: صحيح, ساكن, صامت, حبيس. راجع: الوجيز في فقه اللغة لمحمد الأفطاكي ط سنة 1969 ص146. “المترجم”.

[3] أي دراسة أصوات الكلام بعد إنتاجها، راجع ماريوباي المرجع السابق ص102 “المترجم”.

[4] أي دراسة إنتاج أصوات الكلام. المرجع السابق ص103. “المترجم”.

[5] في الصينية P’u “المشتملة على الـ p في Pit” معناها “متجر”، ولكن pu “المشتملة على p في spit معناها “جزء”.

[6] انظر المبحث رقم 20 في القسم الثاني من هذا الكتاب.

ترك تعليق